التديّن المزيّف

بعض الناس يتورّع جدا في تديّنه الشخصي، حتى أنّه ليشدّد على نفسه في هوامش، ويفرّط في كبرى القضايا الوطنية والسياسية والاجتماعية، مع أنها في ميزان العقيدة والشريعة فوق كل ما يبالغ بالتشديد فيه!

أحدهم كان مريدا لكفتارو، مع فتاويه التي حلّلت لحافظ فجوره وطغيانه، ثم لا يتوانى عن التشنيع على القرضاوي بكل مناسبة في فتاوى الموسيقا والمرأة! 

وقبيسية أرهقت أهلي بدرس موسوس عن التطهير، بينما شيختها تجلس مع النجس بشار!

أحد من أعرف لا يكاد يصلّي، فلما نقلت فتوى جواز إخراج زكاة الفطر نقدا، عقّب: اتق الله هذا دين!

موظف كان يعمل وزيرا مفوضا بقنصلية، ولعله أسوء من مرّ عليها من الموظفين تعاملا مع حالات المطاردين سياسيا، ومع هذا كان قريبه يزكّيه بأنه نظامي جدا، ولا يتعاطى الرشوة! 

البوطي المفتون كان يبكي خشوعا في حضرة موت باسل وأبيه، ولكنه لم يستحضر خشوعه قتل حمزة وعفاف وغياث مطر! 

سماحة المفسّر العلامة الآخر غضب من أجل كشف وجه المرأة، وكتب وكتب، ولكن وجهه لا يتمعّر لله، وهو يقابل بشار وينافقه في خطبة العيد التي يحضرها الفرعون عنده!!

أين هؤلاء (الورعون) من أجلّ قيم دينهم؟ لماذا لا يؤدون واجبهم -لا ورعهم- في الدفاع عنها.

كم مرة فهموا أن القيمة الأجل في كلمة التوحيد هي حرية الإنسان، لأن كلمة الإخلاص تتضمن أنه لا معبود يستحقّ الخضوع إلا الله، وأنت سيّد حرّ بعدها، فإن لم تكن فقد أشركت به غيره!

أين هم من قيمة العدل التي قامت عليه السماوات والأرض؟ أين هم من بيان قيمة الكرامة الإنسانية، التي حفظت النفس والعرض والمال؟ 

كان عندي صديق مصري ما فتئ يصوم الاثنين والخميس، لكنه كان من أشد المدافعين عن مذبحة رابعة، تشكيكا بالأرقام والباعث والفاعل!!

جارنا في مكة كان سخيًّا في موائد الإفطار برمضان، ولكنه كان يظلم عمّاله، حتى أنه رحّل أحدهم وأكل عليهم آخر رواتبه انتقاما منه في قضية تتكرر بسبب فظاظته وسوء معاملته! 

بعض أولئك (المتدينين) المخلّطين يؤدون عباداتهم الشخصية، ثم لا يمنعهم ذلك من أن يكتبوا تقاريرهم الدنيئة التي تؤدي لإزهاق أرواح، وانتهاك أعراض، واستباحة أموال! 

طبيب أعصاب كنت أتلوى على باب عيادته من ألم بأسفل ظهري نتيجة سقوط عليه، ومن حولي ناس يزيدون على حالتي، ثم يخرج من بيننا بكل برود، ويغادرنا للمصلى ليصلي السنن القبلية والبعدية، ويأتي بعد الصلاة بأمد لاعتقاده أنه في أذكاره ونوافله أقرب لمولاه.

هذا الفهم المخلّط للعبادة والتقوى ليس كله نفاق مجرّد، ولكنه خلل في فقه الأولويات والموازنات والمقاصد، وهو يعطي هؤلاء المتعبّدين بديلا مريحا بلا تبعات وبلا فتنة بحسب تعبير البوطي، وبلا أحوال بحسب تعبير أحباب التبليغ!

هذا الوعي الزائف بالدين لا يكلّف مخاطر قد تتسبّب بالسجن أو مصادرة الممتلكات أو الطرد من العمل، أو المنع من السفر، أو حتى الإخراج من الوطن والقتل! بل هو يمنح إحساسا موهوما بطمأنينته في أدائه الواجبات الدينية، ولا صلة لهم بغيرها فهي سياسة، وهم غير مسيّسين.

الديكتاتوريون يرون في هؤلاء صورة المواطن الصالح، الذي يتوجّس خيفة من أذان الحيطان، أكثر مما يخاف من صرير أقلام الكتبة الكرام! وتضحك هذه الديكتاتوريات وهي تراه يضجّ اعتراضا على مسلسل أظهر إغراء، دون أن يحمّل الرئيس وحكومته مسؤولية ذلك الإفساد الممنهج! 

أما ذلك (المتديّن) فلا يرى في الفساد إلا مجرد ابتلاء من الله، أو عقوبة عاجلة بسبب تقصيرنا! وأن الحلّ بالصبر والتسليم بالقدر، أما المسؤول عن ذلك فغير مسؤول، لأن كل المشاكل عنده تختصر عنده بتعليقها على مشجب رواية ضعيفة تخبر أنه: كما تكونوا يولى عليكم! وكأننا اخترنا من تولّى علينا بأصواتنا، وكأنهم أنفسهم لم يفتوا قبلا أن ولاية هؤلاء غدت شرعية بالتغلّب وسطوة الانقلابات وطغواها!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين