التدرج سنةٌ قدريةٌ وحكمةٌ تشريعيةٌ (6)

تطبيق معاصر للتدرج في حل مشكلة الربا

لا يخفى أن النظام الربوي هو أهم أعمدة وأركان النظام الاقتصادي العالمي، ومع ذلك أدركت كثير من الدول خطورته، لكنها لم تستطع الفكاك من أسره، لأسباب عدة منها: عدم طرح البديل المناسب، وعدم وجود تعاون حقيقي بين الدول التي أدركت خطورته للخلاص منه، وعدم وجود خطة تدريجية تنتهي بالخلاص منه بالكلية. وإنّ تغلغُل الربا في معظم النشاطات الاقتصادية والتعاملات البنكية جعل منه ظاهرة معقدة، لا يمكن الخلاص منها إلا بحلول مركبة وليست مفردة، يشد بعضها بحجز بعض، تقوم على التدرج والمرحلية، بحيث تضيق المساحة على المعاملات الربوية يوماً بعد يوم، فمن جملة هذه الحلول المركبة:

1- مأسسة الزكاة: بحيث تجمع ممن وجبت عليه جمعاً عادلاً، وتصرف فيمن استحقها ضمن نظام يقوم على الاستيعاب والعدالة في التوزيع، وفق الحكم التي شرعت لأجلها في مسألة تحقيق الكفاية وتأمين مستلزمات الإنتاج لمن يملك الخبرة.

2- إقامة المصارف الإسلامية التي تقوم على القرض الحسن بمساعدة من الدول وأهل اليسار فيها، وتشجيع فكرة الودائع من غير فائدة، وفكرة استثمار الأموال فيها في مشاريع صناعية أو زراعية أو تجارية أو عقارية، بحيث تغطي هذه الأرباح نفقات هذه المصارف وأجور العاملين فيها، ومن ثم يمكنها من تقديم الأرباح للمودعين فيها.

3- إنشاء الجمعيات التعاونية التكافلية: كالجمعيات الزراعية، والجمعيات السكنية، التي تقوم على مبدأ التعاون، ويكون من مهامها الأساسية إقراض أصحاب الحاجات والضرورات ومن نزلت به الجوائح قرضاً حسناً، ويضعون لها من النظم ما يضمن شفافيتها والحفاظ على أموالها من العبث والتلاعب، ويمكن استغلال أموالها أيضاً في مشاريع استثمارية.

4- إقامة أقسام خاصة في البنوك تقوم على أساس شرعي غير ربوي على أن تكون خطوة في التحول التدريجي.

5- إنشاء المصرف الإسلامي الدولي: ولاستكمال الحلول لا بد من حل ينظم العلاقات الاقتصادية بين الدول على أساس شرعي بعيد عن الربا، فالإجراءات السابقة يمكنها معالجة الأوجاع الاقتصادية الداخلية. أما القروض الخارجية، والتبادل التجاري، وحركة التصدير والاستيراد، والضمانات المالية، وما تقتضيه من حاجة إلى الإيداع والاقتراض؛ فلا بد لها من تأسيس مصرف دولي تغطي فروعه الدول الجادة في إيجاد البديل عن النظام الربوي. فهي مسؤولية تضامنية لا يمكن أن تنهض بأعبائها دولة واحدة أو دولتان، بل لا بد من مجموعة دول، لا سيما تلك التي تملك الموارد والثروات والعوائد المالية الكبيرة المستودعة في المصارف، ويرافق ذلك المشاريع الاستثمارية المشتركة، والمناطق الحرة للتبادل التجاري وفتح الأسواق، ويمكن للجماهير الإسلامية في هذه الدول أن تنشئ صندوقاً لدعم هذا المصرف - (دولارا) في كل شهر مثلا - وهناك سبل أخرى لدعم المشروع، كما توجد طرق أخرى للتخلص من آفة الربا نهائياً.

خاتمة:

يجب أن نأخذ بعين الاعتبار الظروف الدولية والضغوط التي تمارسها الدول بمؤسساتها على الدول المستضعفة، بحيث تمنعها من الأخذ بمقومات الإصلاح والنهوض والتقدم، بحيث تتمكن من التفلت شيئاً فشيئاً من التبعية الاقتصادية والثقافية، وهذا يجعلنا نلتمس العذر في بعض الأحيان في وجود جوانب القصور، وذلك لعدم التمكن من تحقيق كل برامج الإصلاح ومحاربة الفساد، وكذلك تقدير البعض أن الاستعجال في ذلك سيكون سبباً في إجهاض مشاريع الإصلاح قبل أن تقوم على قدم وساق من قبل الجهات المتربصة من دول ومنظمات، ﴿وَاللَّهُ ‌يَعْلَمُ ‌الْمُفْسِدَ ‌مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ [البقرة: 220].

كما يجب تحديد مقومات التدرج، كتوصيف واقع المجتمعات وتشخيص أمراضها ومشاكلها، وكذلك ترتيب سلم الأوليات، وتحديد برامج الإصلاح في كل مجتمع، فهو من مهام أهل الذكر وعلى رأسهم العلماء، ولا يمكن أن يقوم بذلك فرد أو أفراد، بل لا بد أن يكون للعلماء مؤسسة جامعة تحدد كل مقومات التدرج ومراحله، ثم يقومون بنقل هذه المشاريع من حيز التصور إلى واقع التنفيذ ومتابعته.

المصدر مجلة مقاربات الصادرة عن المجلس الإسلامي السوري

[1] الشريعة الإسلامية بين التدرج في التشريع والتدرج في التطبيق للشيخ عبدالرحمن حبنكة ص (12).

[2] قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/64).

[3]القانون الإسلامي لأبي الأعلى المودودي ترجمة محمد عاصم الحداد ص (51).

[4]زاد المعاد (3/143).

[5] التدرج في تطبيق الشريعة وعلاقته بالسياسة الشريعة لزياد الفواز ص22

[6] تفسير ابن كثير 2/540

[7] إعلام الموقعين 1/50

[8] متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه

[9] أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري

[10] غذاء الألباب1/227

[11] متفق عليه عن عائشة رضي الله عنها

[12] أخرجه أحمد في المسند عن معقل بن يسار بإسناد ضعيف

[13] تفسير الظلال 5/2562

[14] متفق عليه عن عائشة رضي الله عنها

[15] مجموع الفتاوى 2/355

[16] إعلام الموقعين 3/5

[17] متفق عليه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه

[18]في ظلال القرآن 2/748

[19] مجموع الفتاوى 20/59

[20] أخرجه أحمد في المسند وفي سنن أبي داود عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه

[21] أخرجه أحمد في المسند وفي مصنف ابن أبي شيبة

[22] أخرجه أحمد في المسند وسنن النسائي

[23] جامع العلوم والحكم ص 105

[24] طبقات ابن سعد 5/343

[25] تاريخ الخلفاء ص180

[26] مرآة الزمان في تاريخ الأعيان 10/239

[27] طبقات ابن سعد 5/251

[28] العقد الفريد 2/232

[29] البداية والنهاية 9/200

[30] البداية والنهاية 9/208

[31] طبقات ابن سعد 5/344

[32] الأحكام السلطانية ص 78

[33] متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه

[34] شرح صحيح مسلم 3/482

[35] مجموع الفتاوى 20/60

[36] مجموع الفتاوى 20/60

[37] قواعد الأحكام في مصالح الأنام 1/62

[38] الأشباه والنظائر للسيوطي ص86

[39] إعلام الموقعين 4/163

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين