التدرج سنةٌ قدريةٌ وحكمةٌ تشريعيةٌ (3)

 

الجهاد نموذج للتدرج في الأمر:

في كتابه (زاد المعاد) [4] بيّن الإمام ابن القيم مسيرة هذا التدرج بتفصيل واسع أُورد هنا مختصرا عنه، على الترتيب التالي:

1- نبأ الله نبيه بـقوله {اقرأ} وأرسله بـ {المدثر}.

2- ثمّ أمره بقوله {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214].

3- ثم بقوله {وإنه لذكر لك ولقومك} [الزخرف: 44].

4- ثم مكة ومن حولها بقوله {لتنذر أم القرى ومن حولها} [الشورى: 7].

5- ثم العرب قاطبة

6- ثم العالمين أجمعين

وفي كل هذه المراحل لم يشرع للمسلمين القتال، بل أمروا بالكف والصبر والصفح.

7- ثم أذن للنبي صلى الله عليه وسلم بهجرة أصحابه الهجرتين إلى الحبشة.

8- ثمّ أُمر بالهجرة إلى المدينة فهاجر.

9- ثم أُذن له بقتال من قاتله، وأمر بالكف عمن اعتزله ولم يقاتله.

10- ثم أُمر بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله.

11- ثمّ كان له مع الكفار ثلاثة أحوال: أهل صلح وهدنة، وأهل حرب، وأهل ذمة.

12- ثم أُمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم ما استقاموا عليه، فإن خاف منهم خيانة نبذ لهم عهدهم على سواء، ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بانتهاء العهد، وأما من نقض العهد بالفعل فأُمر بقتاله، ثمّ بعد نزول سورة التوبة جعل أهل العهد ثلاثة أقسام:

الأول: من نقض عهده، وقد أُمر بقتالهم.

الثاني: من كان لهم عهد مؤقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه أحداً، فأُمر أن يتم إليهم عهدهم إلى مدتهم.

الثالث: قسم لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه، أو كان لهم عهد مطلق، فأمره أن يمهلهم أربعة أشهر، فإذا انقضت مدتهم قاتلهم.

وكما وقع التدرج في الأوامر كما في الجهاد، فقد وقع التدرج في النواهي كما في تحريم الخمر، ووقع التدرج في الأحكام التشريعية كما في تحويل القبلة. وفوق ذلك وقع التدرج في تطبيق الشريعة ذاتها، وتنزيلها على الواقع.

التدرج في تطبيق الشريعة

ومن التدرج أيضا التدرج في تطبيق الشريعة: والمراد به (تطبيق أحكام الشريعة على مراحل عند العجز عن تطبيقها كاملة، بحيث يطبق في كل مرحلة عدد من الأحكام التي تهيأت الظروف المناسبة لها إلى حين الوصول إلى التطبيق الكامل لكل أحكام الشريعة)[5].

مبادئ لا بدّ منها في التدرج في تطبيق الشريعة

وهنا لا بد من ذكر المبادئ التي تحكم مسألة تطبيق الشريعة، لبيان ما علق بهذه القضية في أذهان بعض المسلمين من تصورات موافقة أو مخالفة لما جاء به الإسلام.

المبدأ الأول: وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية في كل شؤون الحياة

قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ‌الْكِتَابَ ‌بِالْحَقِّ ‌مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [آل عمران: 48-50].

قال ابن كثير في تفسير هذه الآيات: {ينكر الله تعالى على من خرج من حكم الله المحكم المشتمل على كل الخير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونه بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم (جنكيز خان) الذي وضع لهم (الباسق) وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وكثيرٌ من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فلا يحكّم سواه في قليل ولا كثير)[6].

وقد سمّى القرآن كلّ من حُكّم من دون شرع الله {طاغوتا} فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ ‌إِلَيْكَ ‌وَمَا ‌أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (٦٠)﴾ [النساء: 60]، قال ابن القيم: {والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حدّه من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو ما يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله، فهذه طواغيت العالم} [7] وهناك نصوص كثيرة في الكتاب والسنة تؤكّد هذا المعنى وتبيّنه.

المبدأ الثاني: ترابط أحكام الشريعة وتكاملها

إن الشريعة بكل أجزائها ومفرداتها وأحكامها مترابطة متكاملة، آخذٌ بعضها بحجز بعض، فلا يفصل التشريع الجنائي عن أحكام الأسرة وما يصطلح عليه بالأحوال الشخصية، ولا يفصل التشريع الأخلاقي عن أحكام المعاملات كالبيع والشراء والإجارة وغيرها، ولهذا شدد الله النكير والوعيد على من يأخذ ما يحلو له ويترك ما لا يعجبه من شرع الله، فقال تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ ‌بِبَعْضِ ‌الْكِتَابِ ‌وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ﴾ [البقرة: 85]

المبدأ الثالث: وجوب التطبيق الفوري لكامل الشريعة عند الإمكان

إنّ كل تكاليف الشريعة سواء أكانت على مستوى الفرد أو الجماعة أو الأمة منوطةٌ بالقدرة والاستطاعة، وهذه قاعدة محكمة من قواعد الشريعة جاءت بها الآيات الكريمة من مثل قوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ ‌اللَّهُ ‌نَفْسًا ‌إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا﴾ [البقرة: 286]، والأحاديث الكريمة من مثل قوله عليه الصلاة والسلام: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم))[8].

ومن المعلوم أن الشريعة جاءت باليسر ورفع الحرج عن الناس قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ ‌عَلَيْكُمْ ‌فِي ‌الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]،أوضح مثال على هذا واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد جاء في الحديث: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان))[9] وهذا يلتمس منه التدرج في تطبيق الشريعة عند العجز عن إقامتها كاملة، عقب ابن رجب على هذا الحديث فقال: (فمن شهد الخطيئة فكرهها بقلبه كان كمن لم يشهدها إذا عجز عن إنكارها بلسانه ويده، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها وقدر على إنكارها ولم ينكرها)[10].

المبدأ الرابع: الشريعة تطبق على الجميع

كل الناس سواء أكانوا حكاماً أو محكومين، ذكوراً أم إناثاً على اختلاف مكانتهم الاجتماعية وأحوالهم الاقتصادية تحت سلطان الشريعة وأحكامها، لا سيّما في مجال العقوبات والحدود التي قد يُتسامح فيها مع أصحاب المناصب والرياسات، وقد أخبرنا عليه الصلاة والسلام أن هذا السلوك المتناقض من أحد أسباب زوال الأمم وهلاكها، فقال: ((إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد))[11].

المبدأ الخامس: كمال الشريعة وانتهاء التدرج في التشريع

لقد شهد الله على كمال شريعته بنص كتابه فقال: ﴿الْيَوْمَ ‌أَكْمَلْتُ ‌لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3] فشرعُ الله اكتمل، ولا يعني ذلك أنه فصّل في كل ما يعتري حياة الناس من مستجدات ونوازل، لذا بيّن العلماء الأحكام الراسخة في الشريعة والأحكام النازلة التي تستدعي اجتهاداً منضبطاً بقواعد الشريعة التي استخرجها العلماء من نصوص الشريعة ودلالة ألفاظها، وبذل علماء الشريعة جهوداً عظيمة في مجالين أساسيين، الأول: في حفظ نصوص الشريعة لا سيّما الحديث النبوي، وكان من ثمرة ذلك علوم أصول الحديث ومصطلحه، والثاني: في فهم هذه النصوص واستنباط الأحكام منها، وكان من ثمرة ذلك علم أصول الفقه، ومن ثمّ ثمرته علم الفقه.

المبدأ السادس: التدرج في التطبيق لا يشمل الجانب العقائدي

فهذا الجانب لا مساومة فيه ولا تنازل عنه، فهو يشكل الملمح الأساس لهوية الدين، وعليه يحمل قوله تعالى: ﴿‌قُلْ ‌يَا أَيُّهَا ‌الْكَافِرُونَ (١) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (٢)﴾ [الكافرون: 1-2]، ثم يبين عدم وقوع ذلك في كل الأزمنة فيقول: ﴿وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ﴾ [الكافرون: 4]، فهو ينفي جوازه شرعاً ووقوعه فعلاً، فهو متضمنٌ نفي الفعل وكراهيته، فلو اقتصر على {لا أفعل} فقد يترك الإنسان فعل شيء لسبب آخر مع أنه يرغب به، فأكد ذلك بكلمة {ما أنا بفاعل} فهذا يدل على البغض والكراهية.

المبدأ السابع: التدرج سنة إلهية في تغيير المجتمعات

استمر الصرح الإسلامي بالبناء والتشييد إلى أن بنى المسلمون حضارة عالمية، لم تسمح {للطفرة} أن تحل محل {التدرج} ولا {للثورة} أن تحل محل {الإصلاح}، لقد راعت الدعوة الإسلامية قوانين التغيير الاجتماعية التي قررها الباحثون فيما بعد، فمن جملة ذلك أن التغيير في المجتمع الإنساني "دورات متتالية" وليس خطاً مستقيماً صاعداً نحو الصلاح أو هابطاً نحو الفساد، ففي هذه الدورات يكون فيها صعود وهبوط في داخلها لكنها في الجملة كانت صاعدة، قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يلبث الجور بعدي إلا قليلاً حتى يطلع، فكلما طلع من الجور شيء ذهب من العدل مثله، حتى يولد في الجور من لا يعرف غيره، ثم يأتي الله تبارك وتعالى بالعدل، فكلما جاء من العدل شيء ذهب من الجور مثله، حتى يولد في العدل من لا يعرف غيره)) [12]، فدورات العدل والجور محكومة بسنة التدرج، كظاهرتي شروق الشمس وغروبها، فالصلاح لا يكون طفرة، والفساد لا يحدث فجأة، وبينهما تناسب عكسي فعندما يتمدد العدل يتقلص الفساد والعكس صحيح، يقول سيد رحمه الله: (ولقد جاء هذا القرآن ليربي أمة، ولينشئ مجتمعاً، ويقيم نظاماً، والتربية تحتاج إلى زمن وتأثر وانفعال بالكلمة، وإلى حركة تترجم التأثر والانفعال إلى واقع، والنفس البشرية لا تتحول تحولاً كاملاً شاملاً بين يوم وليلة، بقراءة كتاب شامل للمنهج الجديد، وإنما تتأثر يوماً بعد يوم بطرف من هذا المنهج، وتتدرج مراقيه رويداً رويداً، وتعتاد على حمل تكاليفه شيئاً فشيئاً، فلا تجفل منه كما تجفل لو قدّم لها ضخماً ثقيلاً عسيراً) [13].

المبدأ الثامن: اعتبار النظر إلى المآلات

وهذه قاعدة عظيمة في تحقيق المصالح ودرء المفاسد، وهو أساس {فقه الموازنات} قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: (العمل الواحد يكون فعله مستحباً تارةً وتركه تارةً، باعتبار ما يترجح من مصلحة فعله وتركه بحسب الأدلة الشرعية، والمسلم قد يترك المستحب إذا كان في فعله فسادٌ راجحٌ على مصلحته) ثم ذكر حديث عائشة ((لولا أنّ قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين، باباً شرقياً وباباً غربياً، فبلغت به أساس إبراهيم)) [14] وعلق عليه فقال: (فترك النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر الذي كان عنده أفضل الأمرين للمعارض الراجح وهو حدثان عهد قريش بالإسلام، لما في ذلك من التنفير لهم، فكانت المفسدة راجحة على المصلحة) ثم عقب على ذلك بقوله: (لذلك استحب الأئمة أحمد وغيره أن يدع الإمام ما هو عنده أفضل إذا كان فيه تأليف للمأمومين، مثل أن يكون عنده فصل الوتر أفضل بأن يسلّم في الشفع ثم يصلي ركعة الوتر، وهو يصلي بقوم لا يرون إلا وصل الوتر، فإذا لم يمكنه أن ينقلهم إلى الأفضل كانت المصلحة الحاصلة بموافقته لهم بوصل الوتر أرجح من مصلحة فصله)[15]، ثم ذكر أمثلة أخرى كالجهر بالبسملة في الصلاة فيترك ما يراه راجحاً مراعاةً لجمع الكلمة وتأليف القلوب، وقال ابن القيم: (إذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مكاء وتصدية، فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيراً من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك، فكان ما هم عليه شاغلاً لهم عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون ونحوها وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر فدعه وكتبه الأولى، وهذا الباب واسع)[16].

المصدر مجلة مقاربات الصادرة عن المجلس الإسلامي السوري

الحلقة السابقة هـــنا

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين