التدرج سنةٌ قدريةٌ وحكمةٌ تشريعيةٌ (2)

من مظاهر سنة التدرج

أولاً - التدرج في الخلق:

الله تعالى هو {الرب} فله الربوبية. والتربية: الإنشاء المتدرج للشيء، حياً كان أم غير ذي حياة، وتعهدٌ للشيء حالاً فحالاً، وطوراً بعد طور، وربوبية الله لخلقه تشمل الإيجاد والإنشاء المتدرج حتى الذروة، وكذلك الإفناء التنازلي حتى الحضيض، وكل ذلك ضمن إطار التكليف.

يستثنى من سنة الرب سبحانه في الخلق والإيجاد ترقية أو تنكيساً المعجزات والكرامات والخوارق، فقد لا تخضع أحياناً لسنة التدرج أو لبعض مفرداتها، ففي الغالب تتم دفعة واحدة، كما قال تعالى: {إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران: 59] ولا تخفى الحكمة من هذا الخلق الاستثنائي في بيان قدرته تعالى، ولإثبات دعوى الرسالة وصدق المرسل إليه،

وكذلك يلحظ الإنسان التدرج في المشاهدات التي يراها في الكون من الذرة إلى المجرة، ومن الخلية إلى الجسم، كل ذلك خاضع لسنة الإيجاد المتدرج.

الإنسان نموذج للخلق المتدرج:

ولنأخذ الإنسان على سبيل المثال: لا يخفى أن الله خلق كل إنسان خلقاً متدرجاً، من نطفة فعلقة فمضغة فعظام فخلق كامل فوليد فرضيع فطفل فشاب وهكذا حتى يبلغ أشده ثم الشيخوخة، نرى الصعود المتدرج والهبوط المتدرج وليس بالضرورة أن يتساويا زمانياً، أو يمر كل إنسان بكل مراحل الصعود وبكل مراحل الهبوط، قال تعالى: {ومنكم من يتوفى} [الحج: 5] أي: قبل اكتمال كل هذه المراحل ثم قال: {ومنكم من يرد إلى أرذل العمر} وذلك لحكمة الابتلاء والاستخلاف.

ثانياً - التدرج في الأمر:

يتجلى ذلك في أمور منها: تعدد الرسالات والرسل بما يواكب التدرج البشري، وهذه الرسالات اتحدت بثوابت العقيدة وأمهات الأخلاق، واختلفت في كثير من الأحكام والتكاليف، مراعاة لأحوال البشر وقدراتهم، وكانت شريعة الإسلام خاتمة الرسالات، ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء والمرسلين.

وكما وقع التدرج في إرسال الرسالات فقد وقع في أحكام الشريعة الواحدة لا ريب في ذلك، ولنأخذ شريعة الإسلام مثلاً على ذلك.

التدرج في شريعة الإسلام

وقع التدرج في جملة من أحكام الإسلام ونظامه التشريعي، فنزل القرآن منجماً، وفي ذلك حكم ذكرها أهل العلم، منها التدرج في الأحكام ومسايرة الحوادث وأسباب النزول، والتدرج في تربية الأمة وإعدادها لتكون خير أمة أخرجت للناس، والتدرج في أساليب الخطاب، وتذكير المخاطبين. فكان الخطاب{(يا أيها الناس} في بداية الدعوة، ثم خوطب المؤمنون {يا أيها الذين آمنوا} لما زادوا وكثروا وصار لهم كيان، وخوطب أهل الكتاب {يا أهل الكتاب} بعدما ساكنهم المسلمون في المدينة.

وكذلك دعوة الإسلام تدرجت في مراحلها من فردية إلى أسرية، ثم العشيرة الأقربين، ثم مكة أم القرى ومن حولها، ثم انتقلت دعوته لقبائل العرب ولأهل جزيرتها، ثم للبشرية جمعاء. وكذلك وقع التدرج في أساليب الدعوة، من سرية إلى جهرية محدودة، ثم إلى الصدع الكامل بما يؤمر به، ثم تحمل الأذى بشتى أنواعه، ثم الهجرة إلى الحبشة ثم إلى المدينة، ثم بناء الدولة والمجتمع، ثم الإذن بالجهاد والقتال في سبيل الدفاع عن الإسلام وخدمة الدعوة ونشر الرسالة،

ومن أشكال التدرج في التشريع الإسلامي إقرار بعض الأحكام على خلاف ما جاءت به الشريعة فيما بعد وإقرار ما يترتب عليها من آثار، يقول في ذلك العز بن عبد السلام: (وَلِمِثْلِ هَذَا أقَرَّ الشَّرْعُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ عَلَى الْأَنْكِحَةِ الْمَعْقُودَةِ عَلَى خِلَافِ شَرَائِطِ الْإِسْلَامِ... وَكَذَلِكَ بُنِيَ عَلَى الْإِسْلَامِ غُفْرَانُ جَمِيعِ الذُّنُوبِ لِأَنَّ عهْدَهَا لَوْ بَقِيَتْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَنَفَرُوا، وَكَذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ قَدْ زَنَوْا فَأَكْثَرُوا مِنْ الزِّنَا وَمِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْكَبَائِرِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. إنَّ مَا تَقُولُ وَتَدْعُو إلَيْهِ لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تقنطوا من رحمة الله} [الزمر: 53] وَقَالَ فِي غَيْرِهِمْ {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ بِإِفْشَاءِ السَّلَامِ، وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ، وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُلَائِمًا لِطِبَاعِهِمْ حَاثًّا عَلَى الدُّخُولِ فِي الإسلام)[2].

وكذلك الأمر في التشريع الجنائي (نظام العقوبات) إذ استقرت ملامحه في السنة الثامنة للهجرة، ولا تخفى الحكمة من تأخر تشريعه. والمحظورات المألوفة تدرج تنزيل الأحكام فيها، فالخمر استقر حكمها النهائي في السنة الثامنة للهجرة، وتحريم الربا في التاسعة[3].

وقد وقع التدرج في الأمر كما في الجهاد، وفي النهي كما في تحريم الخمر، وفي التشريعات العامة كما في مسألة تحويل القبلة، ولنعرض هنا للجهاد كنموذج للتدرج في الأمر.

المصدر مجلة مقاربات الصادرة عن المجلس الإسلامي السوري

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين