التدرج سنةٌ قدريةٌ وحكمةٌ تشريعيةٌ (1)

الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فقد أرسل الله رسله رحمة بعباده وتفضلا عليهم، وبمقتضى رحمة الله بعباده تدرج مع الخلق فيما يفرض عليهم من تكاليف أو أوامر ونواهي، لتكون شرائع الله أيسر على الإنسان الذي آمن بالله واستسلم له وعقد العزم على طاعته، وهذا التدرج إن وقع في الشرائع كلها وخاتمتها الإسلام، فإنه لم يقع في العقيدة، لأن العقيدة الإيمانية واحدة ثابتة لا تتغير، ولا تقبل وجود أوجه أو مراحل لها.

وكما وقع التدرج في التشريع فقد وقع التدرج في الخلق، فالله القادر على أن يخلق كل شيء بقوله (كن) لم يخلق الكون دفعة واحدة، وكذلك لم يخلق الإنسان والحيوان وسائر الموجودات في لحظة، وإنما وضع للخلق سنن تقديرية تقتضي تدرج وجود المخلوقات، وكذلك أقدار الله فإنها تأتي تدريجيا على الفرد أو المجتمع وفق سنن ربانية محكمة.

وهذا بحث في بيان هذه السنة الربانية، يتضمن 1- تعريفا بالتدرج ووجوهه، 2- وعرضا للتدرج كونه سنة قدرية وكونه حكمة تشريعية، 3- وبيان وقوعه في شريعة الإسلام، 4- ثم حديثا مفصلا عن حكم التدرج في تطبيق الشريعة. 5- وبيان المبادئ والقواعد التي تحكم عملية التدرج في التطبيق.

ما التدرج؟

أولا - التدرج لغة واصطلاحا:

لغة: التنقل الارتقائي في الدرجات صعوداً درجة فدرجة[1]. واصطلاحاً: تجزئة العمل المادي أو المعنوي إلى أجزاء متعددة تتناسب مع الغاية والاستطاعة. وعلى هذا فإن التدرج يتناول:

1- كل عمل مادي أو معنوي قابل للتجزئة

2- والتدرج قد يكون صاعداً، فيؤدي إلى النمو والتكامل شيئاً فشيئاً حتى يبلغ ذروة كماله، وهذا ما نقصده بالتدرج {الصاعد}، ويقابله في الصعود مصطلحات كالطفرات والقفزات والاندفاع والتعجل، تدل على ما لا يلائم الهدف ولا يتناسب مع الاستطاعة.

3- وقد يكون هابطاً، ويطلق عليه التدلية، كإنزال الدلو شيئاً فشيئاً، وقد عبر القرآن الكريم عن عملية تدرج الشيطان بالإغواء بأنها خطوات لكنها هابطة فقال: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} [البقرة: 168]، وعبر عنها بالتدلية فقال تعالى: {فدلاّهما بغرور} [الأعراف: 22].

4- والتدرج هو أنجع الوسائل للنجاح في تحقيق الخير أو الشر، فحذرنا القرآن الكريم بقوله: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} [البقرة: 168]. وللتركيز على بيان خطورة أساليب الشيطان ومكره بالناس، تكررت في القرآن عبارة {خطوات الشيطان} خمس مرات.

ثانيا - التدرج سنة ربانية:

فالله تعالى له إرادتان إرادة كونية قدرية، وإرادة تشريعية تكليفية، قال تعالى: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54]، وجرت إرادتا الله القدرية والأخرى التشريعية وفق سنة التدرج التي شاءها الله سبحانه وتعالى.

المصدر: العدد العاشر من مجلة "مقاربات" الصادرة عن المجلس الإسلامي السوري

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين