الأرض تقاتل مع أصحابها (1).. التجربة الفيتنامية

تقول الأسطورة الإغريقية:

"كان يوجد بطل عظيم لم ينهزم أبدا في أي نِزال، فذهب أقرانه إلى حكيم من حكماء البلدة طلبا للنصيحة، فقال لهم: إنَّ سِرَّ قوته يكمن في تثبيت قدميه على الأرض وتشبُّثه بها، وما دامت قدماه ثابتتين على الأرض فلن يستطيع أحد هزيمته، وأنصحكم أن تحتالوا عليه ليرتفع بقدميه ولو قليلا عن الأرض لكي تستطيعوا إصابته في مقتل".

للأسطورة مغزاها العميق، في ارتباط المقاتل بالأرض، وفي بعدها الفلسفي؛ أن يكون واقعياً بمعنى استثماره لكل معطيات الواقع لتحقيق طموحاته.

 

ارتحلتُ إلى فيتنام للوقوف على التجربة، وتوجهتُ إلى مدينة "هو شي من" عاصمة جنوب فيتنام، ومنها إلى أهم وأشهر مراكز المقاومة في مدينة "كو تشي".

في هذه المدينة وجدتُ الحكمة الإغريقية ماثلة أمامي، في ملحمة بطولية إنسانية صنعها الفيتناميون المقاومون في صدهم للغزو الأمريكي، في معركة استمرت عشرين عاماً.

 

باطن الأرض صار حُضْناً وحِصْناً ومخبأً لهم عبر شبكة معقدة من الأنفاق -تصميم شبكة الأنفاق مستوحى من العروق الطبيعية المرسومة على ورق الشجر-  وتحولت أعواد البامبو إلى حِراب يفوق تأثيرها حراب الحديد، وإلى أداة لحفر الأنفاق والآبار، وإلى نِصال ثابتة داخل حفر مموهة لاصطياد المقاتلين الغزاة- تضاريس الأرض وتشكيلها وحُفَرُها جزء أصيل من خدع الحرب لاصطياد الجيوش الغازية- وأصبح نهر "ميكونج" وأحراشه مهربا يتصل به نهاية الأنفاق- ما ينبت من الأرض هو فقط غذاؤهم، وما يجري في الأنهار والآبار من ماء هو مصدر شرابهم- ومن أعواد البامبو وألياف شجر جوز الهند يصنعون بيوتهم.

باختصار: حياتهم هي أرضهم، وما تحويه هو مصدر كفايتهم، وتوظيف مواردهم هو سر صمودهم في معركة البقاء.

 

تحولت أرض "كو تشي" إلى شبكة من الأنفاق تشبه مدينة كاملة تحت الأرض تحتوي على ثكنات عسكرية وغرف عمليات عسكرية ومستشفيات ومنامات ومطابخ ومعيشة كاملة، ووصل بعضها إلى ثلاثة طوابق تحت الأرض.

استقيتُ تلك المعلومات من دليلي السياحي الشاب الفيتنامي، الذي وقف بي أمام مدخل أحد الأنفاق، فتحة المدخل ضيقة جدا ومغطاة بقطعة من الخشب مغطاة بورق الشجر الجاف لتبدو كأنها جزء من الأرض، ثم أتاح لي فرصة الدخول للنفق، والذي بالكاد يتسع لأمثالي من أصحاب طول 177 سم ووزن 77 كيلوجراما، والسر في ضيق تلك الفتحة هو تناسبها مع أحجام أجسادهم النحيلة الخفيفة وصعوبتها على أجسام الأمريكان الضخمة.

 

والنفق لا يتجاوز ارتفاعه للسائر فيه عن متر واحد، وعرضه نحو سبعين سنتيمترا، وفوق هذا يسير في خط متعرج، بمعنى أنك لا تستطيع السير داخله إلا في وضع القرفصاء، وأثناء السير بهذا الوضع يحتك كتفاك بجدار النفق، أضف إلى ذلك أن النفق لا يسير في خطوط مستقيمة بل متعرجة.

كانت هذه الأنفاق غرضا لقصف أمريكي متواصل، وهدفا تم تجنيد العملاء للإرشاد عن أماكنه، ولكنه كان مصيدة للمعتدين، وعنصرا حاسما في انتصار المقاومة.

 

وخلف هذا الاستعراض المبسط لأداة فاعلة وحاسمة من أدوات المقاومة، كانت هناك خطوط متشابكة ومعقدة تستكمل المشهد، فقد تمت تلك المقاومة في وجود حكومة عميلة للأمريكان، وطابور خامس من الفيتناميين المتعاونين مع المحتل، وعلى الوجه الآخر؛ وجود دعم صيني روسي للمقاومة وفق التوازنات الدولية وقتها، ووجود ظهير للإمدادات من أراضي الجوار ومنها كمبوديا، التي تعرضت للقصف الأمريكي لهذا السبب.

 

ولكن العنصر الحاسم هو المقاومة، وملحمة شعب أراد الحياة الحرة ورفض الاستسلام لمعادلات القوة المعروفة بين البشر، وثَبَّتَ قدميه على أرضه، فاحتضنته أرضه وقاتلت معه، ووضع هو قواعد للنصر لا ترتبط بموازين القوى، بل ترتبط بإرادة النصر والإيمان بعدالة القضية.

 

وكانت كلمة السر ومفتاح النجاح هي ما نطق به دليلنا السياحي حيث قال: "مع فارق القوة البعيد لم نكن نهاب الأمريكان، وذلك لسبب بسيط: أننا لم نكن نهاب الموت".

 

المهندس/ محمود صقر

18/10/2023

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين