التثبت في الأمور

 

هذه خطبة خطبتها قديماً في مسجد الرضا بجدة وقد قام الأخ العزيز طارق عبد الحميد قباوة بإحيائها وكتابتها لتنشر على الموقع فأرجو الله أن يعمم النفع بها ويجعلنا أهلاً لحمل أمانة العلم.

أرشد الإسلام إلى أهمية التثبت في الأمور، وصحة الأخبار والنقول، حتى لا يختل نظام المجتمع، ولا يتفرق الجمع والشمل، بسبب أخبار غير صحيحة، وشائعات غير ثابتة.

[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ] {الحجرات:6} .

روى الإمام أحمد عن الحارث بن ضرار الخزاعي قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه، وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة فأقررت به وقلت: يا رسول الله أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام، وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعتُ زكاته، وترسل إليَّ يا رسول الله رسولاً لإبّان كذا وكذا ـ أي: وقت ـ ليأتيك بما جمعت من الزكاة، فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبَّان – الوقت – الذي أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه الرسول، ولم يأته الرسول من طرفه صلى الله عليه وسلم ظنَّ الحارث أنَّه قد حدث فيه سخطة من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

فدعا بسروات قومه، فقال لهم: إنَّ رسول الله كان قد وقَّت لي وقتاً يرسل إليَّ رسوله ليقبض ما عندي من الزكاة، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخُلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة، فانطلقوا بنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد كان بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده بما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد لبعض الطريق، أخذه الروع ـ أي : خاف واعتراه الفزع ـ وذلك لأنه كان بينه وبينهم شحناء في الجاهلية، فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله، فرجع حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحارث : قد منعني الزكاة وأراد قتلي.

فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وبعث البعث إلى الحارث، وأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث قال لهم : إلى من بعثتم؟ قالوا : إليك، قال : ولم؟ قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله. قال الحارث : لا والذي بعث محمداً بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني.

فلما دخل الحارث على النبي صلى الله عليه وسلم قال له: منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟ قال الحارث: لا والذي بعثك بالحق، ما رأيته ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس عليَّ رسولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فخشيت أن يكون سخطة من الله ورسوله فنزلت: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ] {الحجرات:6}.

الفسق: الخروج عن الشيء، الخروج عن طاعَة الله عزَّ وجل، فإذا كان خروجاً عن العقائد الإيمانية فهو كفر، وإن كان خروجاً عن الواجبات الشرعية فهو العصيان، قال تعالى: [إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الفَاسِقِينَ] {البقرة:26} .

فتبيَّنوا : طلب البيان والتعرف لصحة الخبر، وقرأ حمزة والكسائي (فتثبتوا) وهو طلب الثبات والتأني حتى يتضح الحال في المقال.

لما أمر الله سبحانه بالتبين في الأنباء والتثبت من الأخبار بيَّن علَّة ذلك، فقال: [أَنْ تُصِيبُوا] أي : لئلا تصيبوا، أو كراهة أن تصيبوا بأذى قوماً برآء، وأنتم جاهلون بحالهم: [فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]: فتصيروا بعد ظهور براءتهم عما رموا به واتهموا نادمين، أي: آسفين مغتمين غماً كبيراً، ومتمنين أنَّه لم يقع ذلك منكم.

ففي هذه الآية الكريمة إرشاد إلى مَكَارم الأخلاق، وإلى التعقُّل في جَميع الأمور. وعدم التعجل، لأجل الحفاظ على وحدة صفِّ المؤمنين، وعدم تفكك العرى بسبب أخبار موهومة وشائعات باطلة مغرضة...

روى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة».

وقال صلى الله عليه وسلم للأشج ـ عبد قيس ـ لما وفد بقومه إليه: «إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة»، فقال: أخلقين تخلقت بهما أم جبلني الله عليهما؟ قال: بل جبلك الله عليهما، فقال: الحمد لله الذي جبلني على خُلُقين يحبهما الله ورسوله.

كم أورث عدم التثبت من صحَّة الأخبار من فساد كبير وشرٍّ مُستطير، وعَدَاوات وشَحْناء وتفرقة وبغضاء، وكل ذلك مَبني على أَخبار لا حَقيقة لها في الواقع، وإنما هي كسراب بقيعة....

وما أكثرَ الوشاة والحاسدين والمفرِّقين بين الأحبة، والمفسدين بين الناس ...

روى أحمد عن عبد الرحمن بن غنم : «شرار أمتي : المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون البرآءَ العنت». المشقة والفساد والهلاك.

الأنبياء والرسل هم صفوة الخلق، متوفر فيهم صفة التثبت حتى يضعوا الأشياء في موضعها .

وهذا موسى عليه السلام في رحلته مع الرجل الصالح الخضر، أخذ عليه العهد ألا يسأله عن شيء حتى يوضحه له.

خرق السفينة التي حملتهما ... ويتسبب في غرق ركابها، ويقتل طفلاً وادعاً لم يسئ إليهما، ولم يسئ أبواه، وبالعكس من ذلك يقيم جِداراً يريد أن ينقضَّ من غير أجرة يَتَقاضاها في قرية لم يضيفهما أهلها، ولم يعرفوا حقهما... وحُرِمَ موسى عليه السلام بسبب تسرعه علماً كثيراً: [قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا] {الكهف:78}.

وهذه الصفة في قصَّة سليمان عليه السلام مع الهدد: [وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الغَائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ] {النمل:30 ـ 31}: جندي مخالف، ولكن سليمان ليس ملكاً جباراً، وهو لم يسمع الحجة من الهدهد. ومن ثم تبرز سمة العدل : [أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ]: بحجة ظاهرة قوية توضح عذره، وتنفي المؤاخذة عنه...

قصة سيدنا عمر رضي الله عنه مع سعيد بن عامر الجمحي رضي الله عنه واليه على حمص : استعمل علينا عمر بن الخطاب بحمص سعيد بن عامر بن جذيم الجمحي، فلما قدم عمر بن الخطاب حمص، قال: يا أهل حمص كيف وجدتم عاملكم؟ فشكوه إليه - وكان يقال لأهل حمص الكويفة الصغرى لشكايتهم العمال - قالوا: نشكوا أربعاً، لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، قال: أعظم بها، قال: وماذا؟ قالوا: لا يجيب أحداً بليل، قال: وعظيمة، قال: وماذا؟ قالوا: وله يوم في الشهر لا يخرج فيه إلينا، قال: عظيمة، قال: وماذا؟ قالوا: يغنظ الغنظة بين الأيام - يعني تأخذه موتة - قال: فجمع عمر بينهم وبينه، وقال: اللهم لا تخيب رأيي فيه اليوم، ما تشكون منه؟ قالوا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، قال: والله إن كنت لأكره ذكره، ليس لأهلي خادم فأعجن عجيني ثم أجلس حتى يختمر ثم أخبز خبزي ثم أتوضأ ثم أخرج إليهم. فقال: ما تشكون منه؟ قالوا: لا يجيب أحداً بليل، قال: ما تقول؟ قال: إن كنت لأكره ذكره إني جعلت النهار لهم وجعلت الليل لله عز وجل، قال: وما تشكون؟ قالوا: إن له يوماً في الشهر لا يخرج إلينا فيه. قال: ما تقول؟ قال: ليس لي خادم يغسل ثيابي ولا لي ثياب أبدلها، فأجلس حتى تجف ثم أدلكها ثم أخرج إليهم من آخر النهار. قال: ما تشكون منه؟ قالوا: يغنظ الغنظة بين الأيام، قال: شهدت مصرع خبيب الأنصاري بمكة، وقد بضعت قريش لحمه ثم حملوه على جذعة. فقالوا: أتحب أن محمداً مكانك؟ فقال: والله ما أحب أني في أهلي وولدي وأن محمداً شيك بشوكة، ثم نادى يا محمد، فما ذكرت ذلك اليوم وتركي نصرته في تلك الحال وأنا مشرك لا أؤمن بالله العظيم إلا ظننت أن الله عز وجل لا يغفر لي بذلك الذنب أبداً، قال: فتصيبني تلك الغنظة. فقال عمر: الحمد لله الذي لم يخيب فراستي.

فبعث إليه بألف دينار، وقال: استعن بها على أمرك، فقالت امرأته: الحمد الذي أغنانا، عن خدمتك. فقال لها: فهل لك في خير من ذلك؟ ندفعها إلى من يأتينا بها أحوج ما نكون إليها. قالت: نعم، فدعا رجلاً من أهل بيته يثق به فصررها صرراً ثم قال: انطلق بهذه إلى أرملة آل فلان، وإلى يتيم آل فلان، وإلى مسكين آل فلان، وإلى مبتلي آل فلان. فبقيت منها ذهبية. فقال: أنفقي هذه، ثم عاد إلى عمله، فقالت: ألا تشتري لنا خادماً؟ ما فعل ذلك المال؟ قال: سيأتيك أحوج ما تكونين».

أسباب عدم التبين:

1 ـ الاغترار ببريق الألفاظ : «إنكم تختصمون إليَّ، ولعلَّ بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً بقوله، فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها» رواه البخاري.

2 ـ الجهل بأساليب أو طرق التثبت أو التبين:

أ ـ الرد إلى الله والرسول وذوي الرأي: [وَلَوْ رَدُّوه إلى الرَّسُولِ وإلى أُولي الأَمْرِ لَعَلِمَه الذين يَسْتَنْبِطُونَه مِنْهُم].

ب ـ مناقشة صاحب الشأن : قصة حاطب بن أبي بلتعة، وهي في الصحيحين: أنَّه كتب إلى قريش يعلمهم بِقَصْدِ رَسول الله صلى الله عليه وسلم إيَّاهم عَام الفتح، فأطلع الله رسوله على ذَلك، فبعث في إثر الكتاب فاسترجعه، واستحضرَ حَاطباً فأقرَّ بما صَنَع، فَقَامَ عُمر بن الخطاب فَقَال: يا رسول الله، ألا أضرب عُنقه، فإنَّه قد خان الله ورسوله والمؤمنين؟ فقال: «دعه، فإنَّه قَد شَهِدَ بَدْراً، ما يُدريك لعلَّ الله اطَّلع على أهل بَدر فقال: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».

ج ـ الإصغاء الجيد والمراجعة إذا أشكل الأمر: علي يوم خيبر. أخرج أبو نعيم في دلائل النبوة قال: عن أبي حازم، قال أخبرني سهل بن سعد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحبُّ اللهَ ورسولَه، ويحبُّه الله ورسوله" فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: يا رسول الله يشتكي عينه. قال: فأرسلوا إليه. فأتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينه ودعا له، فبرأ حتى لم يكن به وجع، فأعطاه الراية وقال: "انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم».

د ـ التجربة والملاحظة والمُعايشة والمصاحبة: قصة عمر مع رجل أثنى على آخر.

هـ ـ الجمع بين أطرف القضيَّة.

3 ـ الحماس والعاطفة الجياشة المتأججة: أسامة بن زيد: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اخرقة فصحبنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم فلما غشيناه، قال : لا إله إلا الله، فكف الأنصاري، فطعنته برمحي فقتلته: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا] {النساء:94} .

آثار عدم التبين:

1 ـ اتهام الأبرياء من الناس زوراً وبهتاناً: اتهام أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: [لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الكَاذِبُونَ] {النور:13} .

2 ـ سفك الدماء وسلب الأموال : قصة أسامة بن زيد رضي الله عنه.

3 ـ الحسرة والندامة : حسان، ومسطح، وأسامة...

4 ـ فقد ثقة الناس مع النفور والكراهية: من عرف عنه العجلة في الرأي والحكم وعدم التثبت ينظر الناس إليه على أنه أرعن أحمق فينفرون منه ويكرهونه.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

نشرت 2010 وأعيد تنسيقها ونشرها 2/2/2020

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين