– التألـه السياسي … والحقـوق الغائبـة

 

التأله السياسي: يماثل التأله الديني، لأن التأله السياسي يملك رقاب الناس ويلغي شخصيتهم، ويكتم أنفاسهم، ويشرِّع لهم، ويملك مُقدراتهم، يسن لهم القوانين التي توافق هواه، ويفصّل لهم الدساتير التي تؤلهه، وتركعهم لتعاليمه، ويحل لهم ويحرم عليهم ما تشتهيه نفسه، ويطابق رغائبه، وهذا التأليه السياسي هو الذي جعله الإسلام ربوبية في قوله تعالى:{اتَّخّذٍوا أّحًبّارّهٍمً ورٍهًبّانّهٍمً أّرًبّابْا مٌن دٍونٌ اللَّهٌ }[التوبة:31]، فلما قرأها عدي بن حاتم الطائي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ما كنا نعبدهم، فقال صلى الله عليه وسلم: “أليسوا كانوا يُحلون لكم ويحرمون؟” قال: بلى، قال صلى الله عليه وسلم :”فهذه عبادتهم”، وقال تعالى:{أّرّأّيًتّ مّنٌ اتَّخّذّ إلّهّهٍ هّوّاهٍ أّفّأّنتّ تّكٍونٍ عّلّيًهٌ وّكٌيلاْ} [الفرقان:43]، تأله الهوى، وتأله الشهوات، وتأله الكذب على الناس كارثة، وصدق الله: {أّئٌفًكْا آلٌهّةْ دٍونّ اللَّهٌ تٍرٌيدٍونّ}[الصافات:86]، ولهذا خافهم الناس، واسترهبوهم، وطلبوا ودهم، ومرّغوا لهم الجباه، وقصدوهم في الأرزاق، وتكالبت على إرضائهم العامة والطالبون: {أّجّعّلًنّا مٌن دٍونٌ الرَّحًمّنٌ آلٌهّةْ يٍعًبّدٍونّ}[الزخرف:45].
التأله السياسي: هو الدكتاتورية التي تهمش الناس، وتذيب في الطاغية كل شيء: العدالة، الدستور، القانون، حقوق الناس، مصائر البشر، دماءهم، أعراضهم، أرزاقهم، ميولهم، أفكارهم، عقولهم، كل شيء، كل شيء، وقديماً قال الإله الكذاب:{مّا أٍرٌيكٍمً إلاَّ مّا أّرّى” وّمّا أّهًدٌيكٍمً إلاَّ سّبٌيلّ}[غافر:29].
التأله السياسي: هو الذي يبرمج الشعوب على الذل والاستكانة والتنطع، ويقلب الحقائق، ويجعل الناس كالببغاوات تردد ما تسمعه بدون وعي، وتهتف بما يُملى عليها بدون فهم، وتُدفع إلى الدواهي والمصائب بدون عقل، وتُقدم على الكوارث بدون بصر أو بصيرة:
إن قيل هذا الصبح ليل … فقولوا مظلم
أو قيل هذا شهدكم مر … فقولوا علقم
التأله السياسي: هو الذي يجعل القاتل الذي يستحق الإعدام زعيماً.. ويجعل السارق الذي ينبغي أن تقطع يده متحكماً في الأرزاق، ويجعل الذئب المسعور راعياً للغنم، ويجعل الثعلب المنكود مربياً للدجاج، ويجعل الجبان قائد الأمة وجنرالها المغوار، ويجعل الجاهل الأبله رائداً للثقافة والتعليم ويجعل الجعلان والجرذان أرباباً للفكر ورواداً للمعرفة وحملة للأقلام.
التأله السياسي: هو الذي يقتل الطاقات، وينسف الحضارات، ويكره النبوغ ويشنق الإبداع ويتمتع بكمية رهيبة من الحقد والغباء وغلظ الكبد، وسقم النفس التي لا تعرف معروفاً ولا تنـكر منكراً ولهذا يجتمع عليه المتردية والنطيحة، والعمياء والعرجاء، ويلوذ به كمٌ من الدجالين والمنافقين والمهرجين الذين يلعبون بعقله الخرب، وبأهوائه الشرود، ويقلبون له الحق باطلاً والباطل حقاً، فيصدق تصديق الأبله، وينقاد انقياد الغبي.
نرى هذه الصورة التي تتكرر في الزمان في قول دجاجلة فرعون:{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}[الأعراف:127]، فما كان من موسى عليه السلام إلا مقابلة هذا التأله الأرعن بالصبر والثبات والتوكل على الله: {قّالّ مٍوسّى لٌقّوًمٌهٌ اسًتّعٌينٍوا بٌاللَّهٌ واصًبٌرٍوا إنَّ الأّرًضّ لٌلَّهٌ يٍورٌثٍهّا مّن يّشّاءٍ مٌنً عٌبّادٌهٌ ولًعّاقٌبّةٍ لٌلًمٍتَّقٌينّ }[الأعراف:128].
والتأله السياسي: يستعذب آلام الناس، ويستهين بأرواحهم، ودمائهم بإسراف فظيع، وهوس مريع، بغير ذنب أو جريرة اللهم إلا بأوهام في نفسه، وطغيان في قلبه وكلما علا طغى، وكلما استكان الناس بغى:{إنَّ فٌرًعّوًنّ عّلا فٌي الأّرًضٌ وجّعّلّ أّهًلّهّا شٌيّعْا يّسًتّضًعٌفٍ طّائٌفّةْ مٌنًهٍمً يٍذّبٌحٍ أّبًنّاءّهٍمً ويّسًتّحًيٌي نٌسّاءّهٍمً إنَّهٍ كّانّ مٌنّ الًمٍفًسٌدٌينّ}[القصص:4]، وإذا جاءه النصاح أو المصلحون، أو بصَّره المخلصون والعالمون، أو رده إلى الحق الربانيون، أو خالف فساده المتقون الفقهيون، كانت التهم جاهزة والزبانية مستعدين، فتارة تكون التهم بالإفساد، وتارة بالتحريض، وتارة بالازدراء وإثارة الفتن… إلخ. تنتظر النطق الإلهي الفرعوني السامي:
{إنَّ هّذّا لّمّكًرِ مَّكّرًتٍمٍوهٍ فٌي الًمّدٌينّةٌ لٌتٍخًرٌجٍوا مٌنًهّا أّهًلّهّا فّسّوًفّ تّعًلّمٍونّ*لأٍقّطٌعّنَّ أّيًدٌيّكٍمً وأّرًجٍلّكٍم مٌنً خٌلافُ ثٍمَّ لأٍصّلٌبّنَّكٍمً أّجًمّعٌينّ }[الأعراف:124]، وما كان هذا كله إلا تألهاً كاذباً واستكباراً مقيتـاً بغيضاً لابد أن يحيق بفاعليه وإن تطاول الزمان، وسوَّفته الأيام: {بّلً زٍيٌنّ لٌلَّـذٌينّ كّفّرٍوا مّكًرٍهٍمً وصٍدٍوا عّنٌ السَّبٌيلٌ ومّن يٍضًلٌلٌ اللَّهٍ فّمّا لّهٍ مٌنً هّادُ}[الرعد:33]، وكلما ازدهر التأله السياسي فترة من الزمن كرَّت عليه الأيام فقضى بغبائه على نفسه، وأباد بسفهه قومه وأمته: {فّانظٍرً كّيًفّ كّانّ عّاقٌبّةٍ مّكًرٌهٌمً أّنَّا دّمَّرًنّاهٍمً وقّوًمّهٍمً أّجًمّعٌينّ*فّتٌلًكّ بٍيٍوتٍهٍمً خّاوٌيّةْ بٌمّا ظّلّمٍوا}[النمل:51-52].

 

أنفاسُك الحرَّة وإن هي أخمدت
ستظل تغمر أفقهم بدخان
وجروح جسمك وهي تحت سياطهم
قسمات صبح يتقيه الجاني
دمُّ السجين هناك في أغلاله
ودم الشهيد هنا سيلتقيان
حتى إذا ما انعمت بهما الربـا
لم يبق غير تمرد الفيضان


وتمر الأيام سريعاً سريعاً، ونرى مصارع المتألهين سياسياً وتتهاوى حصونهم، حصناً حصناً سواء كانت أمماً أم أفراداً، من …. إلى…. إلخ، وإذا ارتفع للحق لواء في أي أمة، وإذا علا للجهاد صوت في أي شعب فلا بد لليل أن ينجلي، وخصوصاً إذا كان الجهاد جهاد عقيدة، والكفاح كفاح إيمان ومبدأ، فإن ذلك لن يرجع إلا بالنصر، ولن يؤوب إلا بالفوز، وصدق من قال:


لواء الحق نرفع ما حيينا
بفضل الله جنداً صادقينا
ونمضي والثبات لنا سلاح
يقض مضاجع المتسلطينـا
ويهلك من يظن لدى عماه
بأن الظلم يحمي الظالمينا


ويؤسف المراقب المخلص أن التأله السياسي ما زال يحيط بمنطقتنا إلا من رحم ربك، والطغيان على الحقوق ما فتئ يسرح ويمرح في أرضنا، ويعشش ويفرخ في بعض بلادنا، رغم تخلص كثير من الأمم منه ومع أنها لا تدين بدين الحرية والكرامة وحقوق الإنسان.
نسأل الله السلامـة أمين. 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين