البيت المسلم.. مسؤولية شرعية وضرورة دعويّة

البيت المسلم

مسؤولية شرعية وضرورة دعويّة

 

د. عبد المجيد أسعد البيانوني

إننا عندما نذكر كلمة الداعية، ترتسم أمام عقولنا صورة النبيّ صلى الله عليه وسلم بما كان عليه من غيرة على دينه، والتزام تامّ بدعوته، وشمول في هذه الصفة لحياته كلّها، حتى كانت لا تخرج عنها علاقة من علاقاته.

وعلى ذلك سار المقتفون لهديه من أصحابه الكرام، والتابعين لهم بإحسان.. ولكننا نجد اليوم في كثير من الأحيان مفارقة بعيدة بين العلم والعمل في حياة من يضفى عليه هذا اللقب، وبين الدعاوى والحقائق، هذه المفارقة هي علّة العلل، والمصيبة المقتل؛ فمن ثمّ كان حقّ النصح لمن يحمل هذا اللقب أوجب، والتذكير ببعض ما يَعلمون ويُعلّمون أولى وإن كان أصعب، ولكنها المعذرة إلى الله، وأداء النصح لمن يجمعنا بهم رحاب العمل، ووحدة المفاهيم والمنطلق.

وإن مما يعلمه المؤمن بالبداهة، أن التبعة في الإسلام فردية، فلا تزر وازرة وزر أخرى، ولكن هذه التبعة الفردية، لا يمكن أن تفسر على أنها موقف سلبيّ، فيه الركون إلى النفس، والالتفاف حول الذات، والاقتصار عليها، والعمى عن الواقع الذي يعيشه المسلم، وينتمي إليه.

إن المسلم مكلف بتكاليف كثيرة، عليه أن يقوم بها لخلاص نفسه، وفكاك رقبته من نار وقودها الناس والحجارة.

ومن أبرز التكاليف المفروضة على المسلم، أن يتحمل مسئوليته الدعوية، فيهدي الضالّ، ويرشد الحائر، ويأخذ على يد الظالم، وينكر المنكر بيد أو بلسان أو بقلب، على مقتضى الحكمة، وهدي النبوّة.

وأولى الناس بذلك من المسلم عشيرته الأقربون وأهله الأدنون.

فالمسلم مكلف بنص القرآن الكريم أن يقي نفسه وأهله ناراً وقودها الناس والحجارة: { يا أيُّها الذينَ آمنوا قُوا أنفسَكم وأَهليكم ناراً، وَقودُها الناسُ والحجارةُ، عليها ملائكةٌ غِلاظٌ شِدادٌ، لا يَعصونَ اللهَ ما أَمرَهم، ويَفعلون ما يُؤمرون (6) } التحريم.

قال الحافظ ابن كثير، في تفسير هذه الآية: ( قال سفيان الثوري رحمه الله عن علي رضي الله عنه، في قوله تعالى: { قوا أنفسكم وأهليكم ناراً } قال: " أدبوهم، وعلّموهم ".

وروى علي بن طلحة عن ابن عباس رضي الله عنه: { قُوا أنفسَكُم وأهليكم ناراً } قال: اتقوا الله وأوصوا أهليكم بتقوى الله.

وقال قتادة: تأمرهم بطاعة الله، وتنهاهم عن معصية الله، وأن تقوم عليهم بأمر الله، وتأمرهم به، وتساعدهم عليه، فإذا رأيت منهم معصية لله، قذعتهم عنها وزجرتهم عنها.

وهكذا قال الضحاك ومقاتل: حق المسلم أن يعلم أهله من قرابته وإمائه وعبيده، ما فرض الله عليهم، وما نهاهم الله عنه.

وهذه الأقوال جميعاً تدور حول محور واحد وتتفق على نقطة واحدة، وهي أن واجب المسلم ومن الحقوق لأهله عليه، أن يؤدبهم بأدب الإسلام، وأن يعلمهم حدوده، وحلاله وحرامه وأن يعينهم على الطاعة، وينهاهم عن المعصية، ولعل الكلمة الجامعة ما جاء في قول قتادة: (وأن تقوم عليهم بأمر الله ) أي أن يبقى الرجل قائماً (من القوامة) على أهله بالحلال والحرام، بالطاعة والمعصية، يأمر بالأول، وينهى عن الثاني.

وفي آية أخرى، يأتي الأمر أكثر تحديداً وتخصيصاً، ففي سورة طه يتلقى المسلم الأمر الإلهيّ: { وأمُر أهلَك بالصلاةِ، واصطبِر عليها، لا نَسألُكَ رزقاً نحنُ نَرزُقُكَ، والعاقِبةُ للتقوى } /132/.

فليس فرض المسلم أن يصلي وأن يصطبر على الصلاة، أن يعبد الله، وأن يصطبر على عبادته، بل من فرضه أيضاً الذي سيحاسبه الله عليه، أن يأمر أهله، ومن يلوذ به، أو يعيش في كنفه بالصلاة والعبادة.

وإذا كنا نعلم أن الصلاة عماد الدين، من أقامها أقام الدين، ومن هدمها هدم الدين، أدركنا سرّ هذا الأمر الإلهيّ بالأمر بها، والاصطبار على ذلك، إنه أمر بالبدء بالتربية الإيمانيّة العباديّة، فهي أصل التربية والتقويم.

وإذا كان السلف الكرام قد رأوا القرابة والإماء والعبيد داخلين في عموم لفظ: "الأهل" وأوجبوا على المسلم أن يقوم بأمر الله فيهم، فكيف يكون الوجوب حين يكون الأهل: أماً، أو أختاً، أو أباً أو أخاً، وحين يصبحون زوجة وولداً؟

(... إن المؤمن مكلف هداية أهله، وإصلاح بيته، كما هو مكلف هداية نفسه وإصلاح قلبه.

إن الإسلام دين الأسرة... ومن ثم يقرّر تبعة المؤمن في أسرته، وواجبه في بيته، والبيت المسلم هو نواة الجماعة المسلمة، والمجتمع المسلم، وهو الخلية التي يتألف منها، ومن الخلايا الأخرى ذلك الجسم الحي..

وواجب المؤمن أن يتجه بالدعوة أول ما يتجه إلى بيته وأهله، وواجبه أن يؤمّن هذه القلعة من داخلها، وواجبه أن يسد الثغرات فيها قبل أن يذهب بدعوته بعيداً).

نخلص من هذا كله، إلى أن المسلم مكلف شرعاً بالقيام على أمر الله في أهله، وأن أهله أولى بدعوته من الآخرين، وأن اهتمامه الأكبر يجب أن ينصرف إليهم، حتى يقيم أودهم، ويضعهم على طريق الإسلام علماً وعملاً، ودعوة والتزاماً، ثم ينطلق بعد ذلك في دعوته وقد أوى إلى حصن حصين، وركن شديد.       

ونجد مصداق ذلك كلّه، في الحديث المتّفق عليه الذي يحدّد المسئوليّة بدقّة، ويضع حدودها بشموليّة فريدة، وهو ما يرويه عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:

( كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ )، قَالَ: " فَسَمِعْتُ هَؤلاءِ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَأَحْسِبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (وَالرَّجُلُ فِي مَالِ أَبِيهِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)[ رواه البخاري في كتاب الجمعة /844/ وفي كتاب الاستقراض وأداء الديون /2232/، وفي كتاب العتق /2368/ و /2371/ وفي كتاب الوصايا /2546/ وفي كتاب النكاح /4789/ و/4801/ وفي كتاب الأحكام /6605/ ومسلم في كتاب الإمارة /3408/ وغيرهم.].

ثمّ إن البيت المسلم من جهة أخرى، تجربة حيّة واقعية، يقدّمها المسلمون نموذجاً صالحاً للناس من حولهم، فيثبتون من خلاله سمو مبادئهم وجمال المجتمع الذي ينشدون، ونجاح دعوتهم، وواقعية مبادئهم وأفكارهم.

إن الناس يسمعون الكلام المزخرف المنمّق من أصحاب كل مدرسة واتجاه، ولكن حين يضيف المسلم إلى كلمته الطيبة، الصورة الواقعية الطيّبة، متمثلة في زوج، أو بنت، أو ولد، فإنه سيكون قد فاق الآخرين، وأثبت للناس أن ما ندعو إليه ممكن من جهة، وجميل من جهة ثانية، وأننا ملتزمون بما نقول من جهة ثالثة.

إننا حين ندعو الناس إلى الإسلام، إنما نقول لهم بلسان حالنا قبل لسان مقالنا:

" إن الإسلام هو المنهج لحياتكم، والحلّ لمشكلاتكم، وهو السعادة والسكينة، والراحة والطمأنينة.. "

فكيف يتسنّى لنا أن نسعد الناس بالإسلام، إن لم نسعد به أنفسنا وأسرنا. ؟

وكيف نستطيع أن نذيق الآخرين طعم السعادة بالإسلام، ونحن لم نذقها في بيوتنا، ومع أزواجنا وأولادنا..؟

إن فاقد الشيء لا يعطيه، وكلّ إناء لا ينضح إلا بما فيه، وأولى بنا أوّلاً أن نعيش السعادة بالإسلام في أنفسنا وأسرنا، ثمّ ندعو الآخرين إلى مثل ما نحن فيه.. 

كل ذلك وغيره، يجعل البيت المسلم نقطة عمل أولى في حياة الداعية، فهو فريضة شرعية، ومنطلق استراتيجي، وضرورة دعويّة، وعندما يسيّب الداعية بيته، ويترك الخلل يتسرب إليه، أو الفساد يعيث فيه، فهو ولا بدّ، يقع في جملة من المخالفات الشرعية والدعويّة، تنعكس عليه، وعلى دعوته شر انعكاس.

انعكاسات الخلل في بيت الداعية:

حين يكون الخلل في بيت الداعية، لا بد أن يخلّف انعكاسات متنوّعة، وآثاراً مفسدة، على عدّة جبهات ومستويات:

أوّلاً: فعلى مستوى الداعية نفسه:

حين يعود الداعية إلى بيته ليستجمّ من وعثاء التعامل مع الناس، وليأوي إلى مملكته الخاصّة، وركنه الحصين، فيدخل بيته، فيجد الخلاف بينه وبين أهل بيته في كل شيء، بل في أحبّ شيء إليه، وأعزّ شيء عنده في المبادئ التي يدعو إليها، والسلوكيات التي يلتزم بها، ويأمر الناس بالتمسّك بها، ويسمع من القيل والقال، ويرى من المخالفات الشرعيّة، ما يقلق نفسه، ويشوّش باله، وينغّص عليه عيشه، ويجعله يحسّ بالإحباط، فيضعف عن نصرة الحقّ، ويغضي عن المنكر، ويستحيي من الأمر بالمعروف، إذ يشعر بالتناقض بين واقع أسرته، وطريق دعوته، ويحسّ من قرارة نفسه أنه يلاحقه قول ربّه سبحانه: { أتأمرونَ الناسَ بالبرِّ، وتَنسونَ أَنفسَكم، وأنتم تَتلون الكتابَ، أفلا تَعقلون ؟ ! } البقرة /44/.

فكيف يمكن له بعد ذلك أن يكون إيجابياً معطاء حيويّاً نشِطاً.؟! 

وإننا إذا عدنا إلى بيت النبوة، وحياة الداعية الأول صلى الله عليه وسلم، نرى كيف كان يعود النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى بيته فيجد فيه الراحة والعزاء، والتثبيت والتخفيف، والسكينة والطمأنينة، من زوجه السيدة الفاضلة خديجة أمّ المؤمنين رضي الله عنها التي كانت أسرع الناس استجابة إليه، وأول الناس إيماناً به وتصديقاً، وكان لها الدور الرائد في نصرة الحقّ وتأييده، والوقوف إلى جانب النبيّ صلى الله عليه وسلم، في تلك المرحلة العصيبة.

وتلك صورة متألقة، ما أحرى الدعاة أن يتاسّوا بها، في إعداد أسرهم، لتكون عوناً لهم على دعوتهم، وناصراً لهم على تحمّل تبعاتها.

ثانياً: الانعكاس على المستجيبين:

وبعض الذين يستجيبون للدعوة، يتصورون الداعية وهذا تصور خطأ إنساناً كاملاً، مبرّأ من كل نقص، تتحقّق الدعوة التي يدعو إليها في حياته وحياة أسرته، بصورة مثالية فذّة، وهم إنما اتبعوه لإعجابهم به، أو لحبهم لأخلاقه وسلوكه.      

ومن طبيعة الإنسان، أنه لا يزال في أول أمره متعلقاً بالشخص أكثر من تعلقه بالفكرة، فالفكرة لديه تتمثل في شخص الداعي، فإن شعر هؤلاء بالخلل الكبير في بيت الداعية، أو في تربية أولاده، أو في سلوك أسرته فسيصابون بخيبة الأمل، ويتساورهم الشك فيما يُدعون إليه، فينفضون أيديهم من الداعية، بل وربما من الدعوة نفسها.

ثالثاً: انعكاسات الخلل على الدعوة، بشكل عام:

والخلل في بيت الداعية من وجهة ثالثة، سيخلف انعكاسات سلبية على الدعوة نفسها، وسيسمح للآخرين، أن يشككوا في واقعيتها أولاً وفي صدق رجالها ثانياً، بينما سيجد الذين يحسنون الظنّ منهم، المسوّغ لضعفهم، أو قعودهم، أو انحرافهم..

وكلّ ذلك فيه من العبء على الدعوة، والإثقال لها عن الانطلاق في أداء رسالتها ما فيه، مما لا يخفى على كلّ ذي بصـيرة عاقل.

وما أسوأ أن يكون أبناء الدعوة عبئاً على دعوتهم، ومثبّطاً لها عن الانطلاق والتغيير.!

من دلالات الخلل في بيت الداعية:

وبعد كل ما قدمناه، من كون الداعية ملزماً بإصلاح بيته، وبالقيام على أمر الله في أهله إلزاماً شرعياً ودعوياً، لم يعد بإمكاننا أن نتصور أن داعية يزعم أنه وقف نفسه للدعوة إلى الله، وخدمة دينه، ونشر شريعته، يرضى بوجود الخلل في بيته أو بتطرق الوهن والفساد إلى سلوك أسرته وأولاده، ولن يعفيه في هذا المقام تعلله بمشاغله الدعوية، فأهله أحق بوقته، وأولاده أولى بإصلاحه، حتى يقيمهم على الطريق، ثم يتفرغ للآخرين.

وإن وجد الخلل بعد كل ذلك في بيت الداعية، فإنه سيكون ذا دلالات متعددة متنوعة:

ـ فمن دلالات ذلك: العجز الدعويّ، والضعف في إيمان الداعية، ويقينه بدعوته:

إنّ هذا الخلل سيدلّنا على حقيقة أولية، هي عجز هذا الداعية وضعفه عن القيام بأعباء الدعوة، وتحمل مسؤوليتها، والقيام بأمر الله فيها؛

فكيف يُصلح البعيد من عجز عن إصلاح القريب.؟

وكيف يقود الغريب من عجز عن قيادة الزوج والولد.؟

وإن الإسلام يفرض على كل مسلم نصيباً من الرعاية، ويحمّله قدراً من المسؤولية، ولا يمكن أن ينجح في الكبرى من أخفق في الصغرى، ولا يمكن أن يسوس الأصعب من استعصى عليه الأسهل.

وعلى هذا، يمكن أن يعتبر إخفاق الداعية في رعاية بيته مؤشر إخفاق عام في الروح القيادية لديه، وفي الأهليّة لتحمّل المسئوليّة، مما يجعل القيادة التي ترغب في إسناد أيّة مسؤولية إليه تفكر أكثر من مرة:

ـ تفكر أولاً، في صلاحيته كفرد جادّ، في استجابته للدعوة، وولائه لها، وحماسته الصادقة للفكرة.

ـ وتفكر ثانياً، في صلاحيته كعضو سويّ وهو يعيش الإخفاق في قيادة بيته، ورعــاية أسرته.

ـ وتفكر ثالثاً، حين تضع إنساناً، فيه ثلمة دعوية، في موضع القدوة والأسوة، وما أظن قيادة تحرص على الوفاء بحقّ المسئولية، وتقدر الأمانة حقّ قدرها، تلجأ إلى إسناد مسئولية لهذا الإنسان، إلا مضطرة مكرهة، وفي ظروف استثنائيّة، لقلة في الرجال، وزحمة في الأعمال، وليس على المكره والمضطرّ من حرج.

الدلالة الثانية: تمرّد الطبع، وسوء السلوك:

وهي دلالة تغلب على كثير من أدعياء الإسلام، وحملة النصوص، سوء أخلاق الإنسان في بيته، ولا نقول: الداعية لأنه إن انطبق عليه هذا الكلام سقط من صف الدعاة أصلاً.

وهذه الدلالة، تشمل نوعين من الناس:

ـ النوع الأول: من يكون في بيته زِمّيتاً متشدّداً يسيء معاملة أهله، فيرتفع صوته، ويشتدّ صخبه، ويشاجرهم في كل أمر من أمر نفسه، وفي شتى شئون عيشه، يقيم الدنيا لطعامه، ويقعدها لشرابه، ويحملهم على ما يريد بكل فظاظة وغلظة، ولا يفتأ يصدر الأوامر تلو الأوامر، وأولى له أن يسمع قوله تعالى:

{ ولو كُنتَ فَظّاً غليظَ القلبِ لانفضُّوا مِن حولِك } آل عمران / 159 /.

وأن يسمع حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ( أكملُ المؤمنين إيماناً أحسنُهم خُلقاً، وخيارُكم خيارُكم لنسائهم ).

وأولى بمثل هذا النوع من الناس، أن يعكف على إصلاح نفسه أولاً، تهذيباً وتقويماً وكسراً لجماحها الطاغي، وتلييناً لطبعها الجـافي قبل أن يخرج على الناس بدعوى الانتساب إلى الدعوة، والتبشير بالفكرة..!

فما أقبح العلّة في الأطبّاء.! بلى.! وأقبح منها، أن يحسب المرء نفسه بريئاً من العلّة، معافى من الشرّ، والشرّ ينخر في كيانه، والسوء يرتع في بنيانه..!

وما أحسن ما قيل:

وغيرُ تقيّ يأمرُ الناسَ بالتقى *** طبيبٌ يُداوي الناسَ وهو سقيمُ

ياأيها الرجلُ المعلّمُ غيره *** هلاّ لنفسِـــك كان ذا التعليمُ

ابدأ بنفسِك فانهها عن غيّها *** فإذا انتهت عنه فأنتَ حكيمُ

فهناك ينفعُ ما تقولُ ويُقتدى *** بالفعلِ منك، ويَنفعُ التعليمُ

لا تنهَ عن خلقٍ وتأتيَ مثله *** عارٌ عليك إذا فـعلتَ عظيمُ

ـ وقال بعض العلماء، يشير إلى ضرورة توافق القول مع العمل والسلوك:

أستغفرُ اللهَ من قولٍ بلا عملٍ *** فقد نسبتُ به نسلاً لذي عُقُمِ

 ـ ومما ينبغي التنبيه إليه أيضاً، أن بعض من ينتسبون للدعوة، ويعتزّون بها، إن لقيتهم خارج بيوتهم، فهم اللطف والودّ، والأنس والبشاشة، والرضا والابتسام، ثم إن دخلوا بيوتهم، قطّبوا وجوههم، وعبسوا وبسروا، وتجهّموا وتوعّدوا، وأغلظوا القول، وأسمعوا الفحش، أو حركوا العصا، واشتدّ منهم البطش...

ولعلّهم يعتبرون ذلك رجولة، أو قد يراه بعضهم ديناً من الدين، والسيدة عائشة رضي الله عنها، تروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة المؤمنين وسيد الرجال، أنه كان يكنس بيته، ويرقع ثوبه ويخصف نعله، ويكون في مَهنة أهله (أي خدمتهم) فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.

فالداعية الحق، هو الذي يعطي أهله ما يشاءون من دنياه، ليأخذ منهم ما شاء لدينه ودينهم، ويبلغ بهم ما يشاء، بحكمته ورفقه ولطفه، {ومن يؤتَ الحكمةَ فقد أُوتي خيراً كثيراً } البقرة / 269/.

والنوع الثاني: من يكون منتمياً إلى الدعوة ظاهرياً، ولكنه في بيته، وفي خاصة نفسه مخالفاً لدعوته، مناقضاً لما يزعم أنه يؤمن به، لا يراقب الله، ولا يرعى شعيرة من شعائره، وإنما هو مظهر من مظاهر الإسلام خارج البيت.

    وقد يبدو هذا الاتجاه غريباً أو شاذاً، ولكنه الواقع المرّ في نفر، قد التزموا الدعوة إلى الله ظاهراً، وظنّوا أنها باب من أبواب الدعاوى والتبجّح بالقول ومع أنهم لم يحملهم على ذلك مغنم عاجل، في ظاهر الأمر، ولكنّه الضعف والتراخي، وركوب أمواج التبرير والتأويل، واتّباع الفتاوى والترخيصات، ولمثل هؤلاء يتوجّه قول الله تبارك وتعالى:

{ ياأيُّها الذينَ آمنُوا لمَ تقولونََ مالا تفعلون، كبُر مقتاً عندَ اللهِ أن تقولوا مالا تَفعلُون ؟! } الصفّ / 2 ـ 3 /.

وقوله عزّ من قائل: { أتأمرون الناسَ بالبرِّ، وتنسونَ أنفسَكم، وأنتم تتلون الكتابَ أفلا تعقلون ؟! } البقرة /44/.

ولكن الراصد لواقع أسر هؤلاء، لا يمكنه إلا أن يذكر هذا مع الألم والأسف، فكم ممن انتسب للدعوة، ولا سيما أصحاب الماضي التليد فيها، يظنّون أنفسهم حين يلقون محاضرة، أو يكتبون مقالاً أو يعطون رأياً، أو يحضرون لقاءً، أنهم قد بلغوا قمّة العمل الدعوي، وأنهم قد جاهدوا في الله حق الجهاد، وأنهم فوق عبادة العابدين، وتسبيح المسبحين، وتلاوة المتهجدين، وأن غير ما هم فيه، إنما هو من نافلة القول والعمل، لا يقدّم في خدمة الإسلام ولا يؤخّر، ولا ينفع ولا يدفع.

وتراهم قد اقتصروا على الفرائض فأدّوها، وما أقاموها، بلا حضور قلب، ولا خشوع لبّ ولاحظ أولادهم ذلك منهم، ورأوا فيهم التقصير والتفريط، فرتعوا كما رتع آباؤهم، وإذا استقام أبناؤهم فإنهم لن ينظروا إلى آبائهم نظرة التأسّي، ولن يروا آباءهم أهلاً للطاعة في شيء.

وأخيراً: لا بد لنا أن نذكر، أن الخلل في بيت الداعية، قد يكون مبعثه سوء متأصل، في نفس الزوجة أو انحراف جامح في نفس الولد، فيكون الداعية قد قام بأمر الله، وقضى ما عليه، ولكن الله سبحانه وتعالى، جعل له من أهله محنة يمتحنه بها، ليرى حبّه في الله، وبغضه في الله، ومثل هذا الداعية لن يضيره فعل زوجة ولا انحراف ولد، وهو معذور عند الله، وعند الناس بل ومأجور ما دام صادق الغيرة، دائم الحرقة، يبرأ مما يبرأ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم منه: { فلما تبيّن له أنّه عدوّ للهِ تبرّأَ منه، إنّ إبراهيمَ لأوّاهٌ حليمٌ } التوبة / 114 /.

وفي مثل هؤلاء يأتي قول الله تعالى: { لا تجدُ قوماً يُؤمنونَ باللهِ واليومِ الآخِرِ يُوادّونَ من حَادّ الله ورسولَه، ولو كانوا آباءَهم أو أبناءَهم أو إخوانَهم أو عَشيرتَهم، أولئكَ كَتبَ في قلوبِهِمُ الإيمانَ وأيّدَهُم برُوحٍ منهُ.. } المجادلة / 22 /.

وقوله تعالى: { ضربَ اللهُ مثلاً للذينَ كفروا، امرأةَ نوحٍ وامرأةَ لوطٍ، كانتا تحتَ عبدينِ مِن عبادِنا صالحينِ فخانتاهما، فلم يُغنيا عنهما من اللهِ شيئاً، وقيلَ: اُدخلا النارَ معَ الداخلين } التحريم /10/.

وقول الله سبحانه: { قال: ربِّ إنَّ ابني مِن أهلي... قال: يانوحُ إنَّه ليسَ مِن أهلِك إنَّه عملٌ غيرُ صالحٍ...} هود /45 ـ 46/.

وبعد؛ فما أحوجَ عباد الرحمن، الدعاة إلى منهجه ودينه، أهل الغيرة على دعوته وحرماته، أن يبتهلوا إلى الله تعالى دائماً:

{ ربَّنا هَب لنا مِن أزواجِنا وذرّياتِنا قرّةَ أعيُنٍ، واجعلنا للمُتّقِين إماماً } الفرقان /74/، وأن يستعينوا بالله تعالى وحده، على صلاح أمرهم كلّه، ويتوكّلوا عليه، ويكثروا من دعائه والضراعة إليه: { إن أُريدُ إلاّ الإصلاحَ ما استطعتُ، وما توفيقي إلاّ باللهِ، عليهِ توكّلتُ وإليهِ أُنيبُ } هود /88/.

هذا، والله تعالى أعلم، وصلّى الله وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد، وعلى آله وأصحابه، وأنصاره وأحبابه إلى يوم الدين، والحمد لله ربّ العالمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين