البيت البكري وفضيلته في الإسلام
  الشيخ :  محمد المدني

 

لما كثر اضطهاد المشركين للمسلمين بمكة،  وتمت بيعة العقبة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنصار على الإيواء والنصرة،  بدأ المسلمون يهاجرون من مكة إلى المدينة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان‏ الرجل ربما هاجر وحده، وربما هاجر مع‏ بعض أسرته من زوجة وأولاد، وكانت بعض الأسر تهاجر كلها، ولا ينتظر بمكة أي فرد من أفرادها تاركين ديارهم وأموالهم‏ وتجاراتهم ومنافعهم، لا يلوون على شي‏ء منها إيثارا لمرضاة الله، وفرارا بدينهم وعقيدتهم‏ ومثلهم العليا، إلى حيث يستطيعون الاطمئنان‏ عليها، والدعوة إليها، وتطبيقها على المجتمع‏ تطبيقاً حراً واضحاً مسفراً، لا يخشى شيئا،  ولا يتخفى من أحد، والدعوات إنما تعيش‏ في جو الحرية والوضوح، ولا تصلح في جو الضغط والسرية إلا ريثما تتركز في نفوس‏ أصحابها وتجد لها متنفسا ومخرجاً من الضيق‏ إلى السعة، فيجب عليها حينئذ أن تسفر عن‏ وجهها، وأن تستعلن لكي تظهر وتعرف‏ ويحدث اللقاء بينها وبين العقول والأفكار،  وتؤتي ثمراتها كالشجرة تكون أول أمرها غراسا في باطن الأرض، ثم تظهر فتنمو فوقها، ثم تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها،  أي بمقتضي سننه وقوانينه الكونية.
واستأذن أبو بكر الصديق رسول الله‏ صلى الله عليه وسلم في أن تهاجر كما يهاجر المؤمنون؛ لأن الهجرة يومئذ كانت هي‏ الشعار الذي يعلم به صدق الإيمان، وقوة اليقين، وصدق النية في إيثار الله على كل‏ ما سواه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏ لم يأذن لهذا الصاحب العظيم كما يأذن لغيره،  بل استمهله قائلا «لا تعجل لعل الله يجعل‏ لك صاحبا» ففهم رضي الله عنه أن رسول الله‏ صلى الله عليه وسلم يستبقيه ليكون صاحبه، وعد ذلك إشارة أو تلويحاً ببشارة، فسكنت‏ نفسه إلى ذلك منطوية على سرور لا حدَّ له، وكأني به وهو يعلم من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وتربص‏ المشركين به ما لا يعلمه كثير من الأصحاب؛ قد فكر في هذا الشرف العظيم الذي ساقه الله إليه، فهو إما أن ينجو هو والرسول صلى الله عليه وسلم ‏إذ يهاجران إلى المدينة معاً فتكون له هذه‏ الصحبة عزاً وشرفاً ليس بعده شرف،  وإما أن يموت فداه للرسول أو مع الرسول صلى الله عليه وسلم،  إذ يلاحقهما المشركون للفتك بهما أو بأحدهما، فتكون له منزلة الشهادة في سبيل الله، وفي صحبة رسول الله، فهو إنما ينتظر إحدى الحسنيين، فما له لا يُسر،  وما له لا تقر عينه بهذه الإشارة، التي تنطوي‏ على أعظم بشارة؟
. وجعل أبو بكر رضي الله عنه يعدُّ العدَّة للرحلة المنتظرة، فاشتري راحلتين-أي: ناقتين- واحتفظ بهما في داره يعلفهما حتى يحين موعد الرحلة، وكان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بيت أبي بكر رضي الله عنه أحد طرفي‏ النهار إما بكرة، وإما عشية، لا يتخلف عن‏ ذلك، وهذه عادة تكون بين الصديق وصديقه‏ إذا كانا متحابين، وكانت صفاتهما ومزاجهما متقاربة، فإن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، وكان هذا التردد على بيت أبي بكر رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسعده‏ رضي الله عنه، ويسعد أهله، ويتيح لهم‏ الفرصة لخدمة النبي والعناية بشأنه، وكان‏ ذلك بعد خطبته لعائشة وتقرر زواجه منها -كما جاء في جامع البخاري-حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله لرسوله أن يهاجر إلى المدينة؛جاء عليه الصلاة والسلام إلى بيت‏ أبي بكر في ساعة الهجيرة-أي الظهيرة-وهي‏ ساعة لم يكن يأتي فيها، فلما رآه أبو بكر قال:
ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم‏ في هذه الساعة إلا لأمر حدث، فلما دخل‏ تأخر له أبو بكر عن سريره فجلس عليه،  ولم يكن في مجلس أبي بكر حينئذ إلا ابنتاه:  عائشة، وأسماء، فقال لأبي بكر: أخرج‏ عني من عندك. فأدرك أبو بكر أن هناك‏ سراً يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن‏ يتحدث به وكان يثق في ابنتيه أعظم الثقة،  لأنهما كانتا مثالا في التربية العالية،  والأخلاق الكريمة، والمران على حفظ السر، وحسن تقدير الأمور، فقال له‏ أبو بكر: إنما هما ابنتاي يا رسول الله‏ وفي رواية البخاري أنه قال له: إنما هم أهلك‏ يا رسول الله، فكان هذا القول من‏ أبي بكر-ويغلب على الظن أن الفتاتين قد سمعتاه-كان هذا القول شهادة لهما من أبيهما بالثقة، وباعثا لهما على الرضا عن نفسيهما،  والإيمان بما لهما من ذاتية أو من شخصية،  وتلك تربية طيبة من الآباء للأولاد أن‏ يغرسوا فيهم الثقة بأنفسهم بإبدائهم الثقة فيهم، وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم‏ في شك من أمر الفتاتين، وإحداهما هي التي خطبها، وأختها أكبر منها، وهما بنتا ذلك‏ الصاحب الوفي اللتان تريان أباهما كل يوم‏ يضرب أعظم الأمثلة في الوفاء والصدق‏ لصاحبه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يهيي‏ء لأبي بكر فرصة تقدير الأمر والظروف المحيطة به؛ فإنه هو الذي‏ سيؤتمن على السر، ومن تمام احتماله إياه،  واحتفاظه به أن يكون صاحب الرأي الأول‏ فيمن يطلع علىه، أو يحجب عنه، ثم إن‏ هذه كانت فرصة لأبي بكر ليكون جوابه‏ غرساً للثقة في الفتاتين على ما بيَّنا.
ثم إن أبا بكر رضي الله عنه اتجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: وما ذاك يا رسول الله، فداك‏ أبي وأمي؟قال: إن الله قد أذن لي في الخروج‏ والهجرة، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول‏ الله!قال: الصحبة-أي: لك الصحبة يا أبا بكر-وكانت عائشة تشهد وتسمع‏ فروي أنها قالت: فو الله ما شعرت قط قبل‏ ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى‏ رأيت أبا بكر يبكي يومئذ! ثم قال أبو بكر:  يا نبي الله: إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا. فاستأجرا رجلا له معرفة بالطريق‏ ليكون دليلهما، ومن عجائب تدبير الله‏ تعالى أن هذا الرجل كان مشركاً، فقد أودعاه‏ راحلتيهما يرعاهما حتى يأتي الموعد المقرر للرحلة، وكان أبو بكر واثقا من الرجل، وإن كان على غير دينه، لعلمه به، ومعرفته أنه‏ إنما يبحث عن رزقه ومنفعته من عمله الذي‏ انقطع له وتخصص فيه، وأمثال هذا الرجل‏ يكونون في العادة أمناء على أعمالهم، لا يرضون‏ بخيانتها. لأنه لو عرف عنهم أنهم خانوا فيها أو بها أحداً من الناس، فقدت الثقة بهم،  وقل الاعتماد عليهم، وهذا هو ما نسميه‏ «شرف المهنة» الذي يدعو الطبيب مثلا أن يعالج مخالفه في الدين أو في شأن من شئون‏ الدنيا علاجاً يخلص فيه لمهنته غير ملتفت‏ لشيء إلا للنجاح فيها، والاحتفاظ بشرفها،  وإنما كان ذلك نوعا من تدبير الله لرسوله‏ وصاحبه، لأن المشركين سيرون الراحلتين‏ مع مشرك، فلا يتطرق إليهم أنه قد اختير دليلاً لمحمد وصاحبه، وبذلك تخفي عليهم‏ الحقيقة، ويضلون عن معرفة الخطة، ولو رأوا راحلتين مع دليل مسلم لكان ذلك أقرب إلى التساؤل ومحاولة معرفة السر، وكشف‏ التدبير.
. فلما حان الموعد المقرر للرحلة، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، فلم‏ يلبثا إلا قليلاً ثم خرجا من باب خلفي صغير في ظهر بيت أبي بكر، فانطلقا في رحلتهما الخطيرة.
وهنا نرى أحداث الرحلة تدلنا على التدبير المحكم الذي وضع لإنجاحها، ولإخفاء أمرها عن العيون، وعلى الأعمال العظيمة التي قام‏ بها أفراد البيت البكري فصارت مضرب‏ المثل في تاريخ الإسلام، وموضع القدوة للشباب الذي يجب أن يجاهد في سبيل الله.
. فعائشة وأمها كانتا تعدان الطعام‏ لتأخذه أسماء فتذهب به في حذر وتخف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أبيها،  وهما في الغار ينتظران أن يهدأ عنهما طلب‏ المشركين.
. وأسماء كانت دون شك تتعرض لخطر عظيم، وهي تغدو وتروح إلى هذا الغار. وتقطع إليه الطريق المخوِّف المعرض للرقباء والمتتبعين المستربصين، وهي التي أرادت أن‏ تعلق سفرة الطعام في الغار فلم تجد ما تعلق‏ به، فشقت نطاقها شقين، فعلقت السفرة بواحد، وانتطقت بالآخر، فسميت منذ ذلك بذات النطاقين، فكان لها ذلك ذِكراً وفخراً في التاريخ، وكانت به قدوة لبنات‏ جنسها في كل زمان ومكان.
ولقد جاءها نفر من قريش بعد ما انصرف‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغار،  وعلى رأس هؤلاء النفر أبو جهل بن هشام‏ ألد أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم، فوقفوا على باب أبي بكر فخرجت إليهم، فقالوا لها: أين أبوك يا بنت‏ أبي بكر؟فقالت: لا أدري والله أين أبي- وكانت صادقة فيما قالت؛فإنها لم تعرف وجهتهما وطريقهما بعد خروجهما من الغار ولا أي مكان خلا فيه إذ ذاك-ولكن‏ أبا جهل لعنه الله كان رجلاً فاحشاً خبيثاً،  فلطمها على خدها لطمة طار بها قرطها من‏ أذنها، فاحتملت ذلك صابرة لعلها تطفي‏ء بذلك جذوة غيظهم، وتحولهم عن الصاحبين‏ العظيمين، ولو بعض التحويل، ثم انصرفوا.
وهي التي جاءها جدها أبو قحافة، ذلك‏ الشيخ العجوز الذي ذهب بصره وقال لها:  لقد خرج أبوك وإني لأراه قد فجعكم بماله مع‏ نفسه-أي: أنه أخذ جميع ماله ولم يترك لكم‏ شيئاً قالت: كلا يا أبت أنه قد ترك لنا خيراً كثيراً، وأخذت أحجارا ووضعتها في كوة في الموضع الذي كان أبوها يضع فيه ماله،  ثم وضعت علىها ثوبا، ثم أخذت بيد جدها الذي لا يري شيئا، وقالت له: يا أبت ضع‏ يدك على هذا المال، فوضع يده علىه فقال: لا بأس إذا كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن‏ وفي هذا بلاغ لكم.
فعلت ذلك أسماء وهي تعلم أنه لم يترك‏ شيئاً، وأنه احتمل ماله كله معه، كي ينفقه في‏ سبيل الله، وإنما أرادت بذلك أن تطمئن هذا الشيخ العجوز، وكان لم يدخل في الإسلام بعد.
ـ ولقد قام أخوها عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنه بعمل عظيم أمره به أبوه فأداه أحسن الأداء وذلك أنه كان يجلس نهاره مع المشركين في مختلف مجالسهم، ويتسمع ما يقولون‏ ويجمع الأخبار في ذلك اليوم، ثم يأتي‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأباه بما يكون قد وعاه وجمعه من الأخبار، وهما في الغار فكانا على علم بأمر المشركين‏ وأحاديثهم ومشاوراتهم وساعدهما ذلك على‏ أن يمكثا في الغار ما شاء الله أن يمكثا وهما مطمئنان إلى أن أمرهما لم ينكشف.
. وكان لأبي بكر رضي الله عنه مولي- أي: تابع-يقال له عبد الله بن فهيرة، فأمره‏ أبو بكر رضي الله عنه أن يرعى غنمه نهاره، ثم يريحها عليهما، ويأتيهما إذا أمسى في الغار، فيحلب‏ لهما من ألبانها، ويعفي بها على آثار الأقدام،  لكيلا يعلم أمرهما.
. فلما حان موعد الرحيل من الغار-وكان‏ ذلك بعد ثلاث ليال قضياها فيه-وسكن‏ عنهما الطلب، أتاهما دليلهما الذي استأجراه‏ ببعيريهما وبعير له، فقدم أبو بكر أقوى‏ البعيرين وأحسنهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لأبي بكر: إني لا أركب بعيرا ليس لي، فقال أبو بكر: هولك يا رسول‏ الله، فقال: بالثمن، فقال أبو بكر: بالثمن‏ يا رسول الله، فركبها وهنا تنجلي رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم في أن تكون‏ هجرته إلى الله بنفسه وماله، وفي أن يكون‏ باذلاً ولا يدع البذل كله لأبي بكر، هذا مع أن أبا بكر رضي الله عنه قد أنفق في سبيل‏ الله الكثير من ماله، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ليس من أحد آمن علي في أهل ومال‏ من أبي بكر، فليس إباء الرسول لركوب هذه‏ الناقة إلا بالثمن رفعاً لهبة أبي بكر، ولكن‏ رمزاً للإسهام في الخير، والبذل في سبيل‏ الخير، وهو تعليم لمن يكونون في مكان‏ الزيادة أو القيادة أن يكونوا باذلين، ولوفي‏ بعض الأحوال، ليكونوا قدوة في السماحة والجود بالمال في سبيل المصالح.
ـ ويتجلي في هذا أيضا: قوة الإرادة،  وشدة الحفاظ على السر، ولا سيما من هاتين‏ الفتاتين ومن أخيهما، وقد عهد الناس أن‏ النساء ضعيفات أمام أسرار الخطط والتدابير،  وأن الأجدر بمن يريد أن يحتفظ بسرها أن يحجبها عن النساء، ولكن هذا الأمر المعهود لم يطرد شأنه مع تربية الإسلام، ومع الإيمان‏ بالله ورسوله، فظل السر في أمان وحفظ حتى هيأ الله لرسوله وصاحبه الأمان والحفظ،  ولنتصور مدى الخطب العظيم الذي كان يحل‏ بالإسلام لو اطلع أحد على هذا السر،  واكتشف هذا التدبير من جانب المشركين! إذن لتبدل التاريخ، وتحول مجراه إلى مالا يعلم إلا الله.
فتلك فضيلة للبيت البكري نحمد الله عليها ونترضَّاه جلَّ علاه لأبي بكر وأهله وأولاده‏ من أجلها، ومن أجل مواقفه كلها، رضي الله عنه وعن آله وأبنائه وبناته،  وأرضاهم جميعا.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر:مجلة الأزهر السنة التاسعة والثلاثون محرم 1387هـ ، الجزء الأول. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين