أسئلة بيانية (21) البيان والهداية والتوبة

قال تعالى في سورة النساء: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا [النساء: 26-27].

سؤال:

1 لماذا رتَّب الآية السادسة والعشرين على هذا النحو، أي قدَّم البيان ثم الهداية ثم التوبة؟

2 لماذا قدّم لفظ الجلالة على الفعل (يريد) في الآية السابعة والعشرين؟

3 لماذا عدّى فعل الإرادة باللام في الآية السادسة والعشرين، وعدّاه بنفسه في الآية التي بعدها؟

الجواب:

1 بالنسبة إلى التقديم والتأخير في الآية الأولى فإنَّ هذا هو الترتيب الطبيعي، فإنه قدّم البيان على هداية السنن؛ لأنَّ البيان مقدّم على الهداية، فالهداية تكون بعد البيان، وإلا فإلى أي شيء يهديه؟

وأما التوبة فهي بعد البيان والهداية، فإنها تكون بعد التقصير في الاتِّباع، وارتكاب الذنوب والمعاصي.

2 قدَّم لفظ الجلالة على الفعل (يريد) في الآية السابعة والعشرين لأكثر من سبب.

منها: أنها بمقابل ما يُريده الذين يتَّبعون الشهوات.

ومنها: أن هذا التقديم يُفيد الاهتمام والتوكيد والمبالغة في إرادة التوبة من الله تعالى [انظر تفسير البيضاوي (109)، روح المعاني (5/12)].

ومن جهة أخرى أنَّ هذا التقديم يُفيد الحصر إضافة إلى ما تقدم، فإنَّ التوبة مُختصة بالله تعالى حصراً، فلا يتوب غيره سبحانه على العبد ولا يمكنه ذلك.

قد تقول: ولِمَ كان هذا الموضع موضع تأكيد ومبالغة؟

فنقول: إن ذلك لأكثر من سبب:

منها: أن التوبة من الله تعالى أهم شيء بالنسبة إلى العبد ولا يقوم شيء مقامها، فإنَّه إذا لم يتب الله تعالى على العبد هلك.

ثم إنَّ السياق يدل على ذلك، فقد كرَّر إرادة التوبة، فقال: ﴿وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ثم قال: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ.

وقال إضافة إلى ذلك: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ [النساء: 28]. والتوبة من الله تعالى تخفيف عن العبد.

ومما يدلُّ على ذلك أيضاً أنه قال: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ [النساء: 28] بمقابل ما ذكره من إرادة الفجَّار، فقد قال: ﴿وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا [النساء: 27].

وكان المظنون بمقابل ذلك أن يقول: (والله يريد أن تستقيموا) مثلاً، أو أن تطيعوه، فإنَّ الاستقامة تُقابل الميل، ولكنه لم يقلْ ذلك، وإنما قال: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ فذكر ما هو أخف، ولا شك أن ذكر هذه الإرادة بمقابل ما يريده الذين يتبعون الشهوات رحمة وتخفيف.

ثم ذكر أنَّ الإنسان خُلق ضعيفاً، والضعيف به حاجة إلى التخفيف والتوبة من التخفيف.

ثم إنَّ السياق قبل هذه الآيات في ذكر التوبة، فقد قال: ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا * إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء: 16-18].

فاتَّضح أن سياق الآيات وما قبلها إنما هو في التوبة، فاقتضى ذلك الاهتمام والمبالغة في إرادة التوبة.

واقتضى تقديم لفظ الجلالة من كل وجه.

قد تقول: لقد اتضح سبب تقديم لفظ الجلالة في قوله: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ فلِمَ لم يُقدم الذين يتَّبعون الشهوات فيقول: (والذين يتبعون الشهوات يريدون أن تميلوا ميلاً عظيماً) حتى يكون التعبيران على نسق واحد؟

فنقول: إن الذين يتبعون الشهوات ليسوا وحدهم الذين يريدون للمسلمين أن يميلوا ميلاً عظيماً، بل هناك غيرهم ممن يريد ذلك من المنافقين وأهل الكتاب والمشركين وغيرهم ممن يأكل قلبه الحسد والحقد أو لغير ذلك كما قال تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة: 109] وقال سبحانه: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ [المائدة: 82] وقال جل وعلا: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا [المائدة: 68].

وقال تعالى في المنافقين: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء: 88-89].

فذكر أنَّ الذين يتَّبعون الشهوات يريدون أن تميلوا ميلاً عظيماً ولم يَقصر ذلك عليهم فلا يُناسب التقديم.

3 وأما تعدية فعل الإرادة باللام مرة وبنفسه مرة أخرى فإنَّ التعدية باللام تحتمل أمرين:

الأول: أن تكون اللام مزيدة للتوكيد، وهذا كثير في أفعال الإرادة وذلك نحو قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ [الأحزاب: 33]، وقوله سبحانه: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ [الصف: 8]، والآخر: أن تكون اللام للتعليل [انظر تفسير البيضاوي (109)] أي إرادته لهذا الغرض.

وكلاهما يدل على المبالغة والقوة وهو آكد وأقوى من التعدية بنفسه [انظر كتابنا (معاني النحو 3/67) وما بعدها]، فالتعبير (يريد الله ليتوب عليكم) آكد من: (يريد الله أن يتوب عليكم).

وقد ذكر الله سبحانه الأمرين فإن قوله: ﴿وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ في الآية الأولى أي في قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ.......وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ معطوف على إرادة اللام.ولى

وفي الثانية مفعول به للفعل (يريد).

فتكون إرادة الله تعالى للتوبة مطلوبة مؤكدة على كل حال، وهذا يدل على عظيم رحمة الله بخلقه.

ولما كانت الآية الأولى ذكرت أموراً في غاية الأهمية منها البيان لما يريده الله وهداية الخلق لما يريد ومنها التوبة جاء بفعل الإرادة معدى باللام.

ولما كانت الآية التي تليها مندرجة في مطلوب الآية السابقة وهي إرادة التوبة وليس فيها ما في الآية التي قبلها لم تحتج إلى اللام.

وقد تقول: ولِمَ لَم يقدم لفظ الجلالة في الآية الأولى فيقول:(الله يريد ليبين لكم)؟.

فنقول: إن هذا الموطن لا يقتضي التقديم لأنه لم يذكر أن جهة أخرى تُريد غير ذلك، ولا هو موطن تعريض بجهة أخرى تريد غير هذا الأمر وإنما هو إخبار عن إرادة الله سبحانه لذلك، بخلاف الآية التي تليها فإنه ذكر جهة أخرى تريد غير ما يريده الله للمؤمنين.

فلا يناسب التقديم في الآية الأولى، والله أعلم.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين