البعث في القرآن الكريم

الله سبحانه وتعالى خالقٌ؛ وهو واحد، مريد، عالم قادر... الخ، وهو أيضاً باعث، ومسألة البعث مسألة أنكرها قوم يطلق عليهم الإمام الغزالي: (الطبيعيون) وهم قوم أنكروا البعث مع اعترافهم بالصانع.

لقد اعترفوا بالصانع لما رأوه في عجائب الطبيعة من تناسق محكم لا يمكن أن يكون وليد المصادفة، ولكنهم رأوا أنَّ النفس تابعة للبدن، ولذلك تفنى بفنائه، وكانت نتيجة ذلك أن جحدوا الآخرة، وأنكروا الجنَّة والنَّار والحساب. على هؤلاء وأضرابهم، على اختلاف بيئاتهم وأساليبهم يردُّ القرآن الكريم في غير ما موضع.

وطبيعيو العرب لم يكن عندهم في هذه المسألة منطق جدلي فلسفي، وليس لهم من دليل سوى الإنكار والاستبعاد:

﴿وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا﴾ [الإسراء: 49].

﴿قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ [يس: 78].

والقرآن يردُّ عليهم بتذكيرهم بمظاهر قدرة الله تعالى السائدة في الكون، وبأنه ليس من العدالة الإلهيَّة أن يترك الإنسان سُدًى فلا يجازى على ما قدَّم.

﴿أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَن يُتۡرَكَ سُدًى٣٦ أَلَمۡ يَكُ نُطۡفَةٗ مِّن مَّنِيّٖ يُمۡنَىٰ٣٧ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةٗ فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ٣٨ فَجَعَلَ مِنۡهُ ٱلزَّوۡجَيۡنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلۡأُنثَىٰٓ٣٩ أَلَيۡسَ ذَٰلِكَ بِقَٰدِرٍ عَلَىٰٓ أَن يُحۡـِۧيَ ٱلۡمَوۡتَىٰ﴾[القيامة: 36-40].

وفي القرآن كثير من الآيات ترد عليهم مستندة إلى مظاهر قدرة الله وعدالته.

وفيه آيات متتالية في آخر سورة (يس) تحدَّثت عن رأى منكري البعث، ثم ردَّت عليهم ردوداً متنوعة مختلفة واضحة قويَّة، ونحن نذكر هذه الآيات، ونذكر تفسير الكندي لها نقلاً عن كتاب "الكندي" للأستاذ أبي ريدة.

﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلٗا وَنَسِيَ خَلۡقَهُۥۖ قَالَ مَن يُحۡيِ ٱلۡعِظَٰمَ وَهِيَ رَمِيمٞ٧٨ قُلۡ يُحۡيِيهَا ٱلَّذِيٓ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٖۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلۡقٍ عَلِيمٌ٧٩ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلۡأَخۡضَرِ نَارٗا فَإِذَآ أَنتُم مِّنۡهُ تُوقِدُونَ٨٠ أَوَ لَيۡسَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِقَٰدِرٍ عَلَىٰٓ أَن يَخۡلُقَ مِثۡلَهُمۚ بَلَىٰ وَهُوَ ٱلۡخَلَّٰقُ ٱلۡعَلِيمُ٨١ إِنَّمَآ أَمۡرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيۡ‍ًٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ٨٢ فَسُبۡحَٰنَ ٱلَّذِي بِيَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيۡءٖ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ﴾[يس:78-83].

ويقول الأستاذ أبو ريدة عن تفسير الكندي لهذه الآيات إن (فيه يُبرز فيلسوفنا الأصول النظريَّة التي تتضمنها هذه الآيات من جهة، ويستخرج النتائج التي تلزم عنها من جهة أخرى، وهي:

1- وجود الشيء من جديد، بعد كونه وتحلله السابقين. ممكن، بدليل مشاهدة وجوده بالفعل مرة، لاسيما أن جمع المتفرق أسهل من إيجاده وإبداعه عن عدم، وإن كان لا يوجد بالنسبة لله سبحانه شيء هو أسهل وشيء أصعب - هذا الدليل موجود في الآيات في كلمات قليلة:

﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ [يس: 79].

2 - ظهور الشيء من نقيضه؛ كظهور النار من الشجر الأخضر، ممكن وواقع تحت الحس.

وإذن يمكن أن تدبَّ الحياة في الجسد المتحلِّل الهامد مرة أخرى.

وذلك أيضا على أساس المبدأ الأكبر، وهو أن الشيء يوجَد من العدم المطلق بفعل المبدع الحق - هذا الدليل موجود في آية:

﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ﴾ [يس: 80] وقد انتفَع به الأشعري في إمكان البعْثِ.

3 - خَلْق الإنسان أو إحياؤه بعد الموت أيسر من خلق العالم الأكبر بعد أن لم يكن، وهذا ما هو مضمون آية: ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾ [يس: 81].

4 - الخلق، والفعل مطلقاً مهما عظم المخلوق، لا يحتاج من جانب الله المبدع لا إلى مادة ولا إلى زمان خلافاً لفعل البشر الذي لا يتم إلا في زمان، ويحتاج إلى مادة تكون موضوع الفعل؛ وهذا هو معنى آية:

﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82].

وهذه الآية، في رأي الكندي، إجابة عمَّا في قلوب الكفار من النكير بسبب ظنِّهم أنَّ الفعل الإلهي المتجلي في خلق العالم الكبير يحتاج إلى زمان يناسب عظمته، قياساً منهم لفعل الله تعالى على فعل البشر، لأنَّ فعل البشر لما هو أعظم يحتاج إلى مدة زمانية أطول، فجاءت الآية حاسمة في بيان نوع الفعل الإلهي، وأنه إبداع فالإرادة الخالقة والقدرة المطلقة، لا يحتاج إلى مادة ولا إلى امتداد زماني.

(فأي بشر - كما يقول الكندي - يقدر بفلسفة البشر أن يجمع، في قول بقدر حروف هذه الآيات، ما جمع الله، جل وتعالى، إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فيها من إيضاح: أن العظام تحيى بعد أن تصير رميماً، وأن قدرته سبحانه تخلق مثل السموات والأرض، وأن الشيء يكون من نقيضه!!؟ كَلَّت عن ذلك الألسنُ المنطقية المتحايلة، وقصرت عن مثله نهايات البشر، وحُجِبت عنه العقول الجزئية) اهـ رسائل الكندي ص 57-58.

على أننا لا نترك موضوع البعث دون أن نُوجِّه ذهن القارئ الكريم إلى هذا التنظير البديع الذي ذكره القرآن الكريم بين الأرض الموات التي يحييها الله فتنبت من كل زوج بهيج، والعظام والرفات التي يحييها الله ويصورها فيحسن تصوريها.

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّنَ ٱلۡبَعۡثِ فَإِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضۡغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمۡۚ وَنُقِرُّ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى ثُمَّ نُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَيۡلَا يَعۡلَمَ مِنۢ بَعۡدِ عِلۡمٖ شَيۡ‍ٔٗاۚ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ هَامِدَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡ وَأَنۢبَتَتۡ مِن كُلِّ زَوۡجِۢ بَهِيجٖ٥ ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ وَأَنَّهُۥ يُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَأَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ٦ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٞ لَّا رَيۡبَ فِيهَا وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبۡعَثُ مَن فِي ٱلۡقُبُورِ٧﴾[الحج: 5-7].

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

من كتاب: " القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم" ص 91- 94.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين