البطش بالمتجبرين من أكبر براهين ألوهيته سبحانه

 

الشيخ : عبد الوهاب حمودة

 

 

يظل الإنسان سادراً في غلوائه، تائهاً في ظلال نعمائه، يبطش ويتجبر، ويطغي ويتكبر، ما دام يشعر بالقوة طوع بنانه، وبالصولة رهن إشارة سلطانه [كَلَّا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى] {العلق:7}  فيخرج على قومه في زينته، ويستعلي عليهم بجبروته، وحوله أنصاره وشيعته، ووراءه جمعه وعصبته، يدعي لنفسه البطش والغلبة، ويزعم لأصحابه القوة والمنعة، يبغض العلماء وإباءهم، ويمقت الأحرار وعزتهم؛ لأن للعلم نوراً يكشف به ظلمات المتجبرين، وسلطاناً يهزأ بسلطان المفسدين، وأن للأحرار نفوساً تتضاءل أمامها نفوس العتاة المتكبرين.
فلا يجد الطاغية محيصاً عن محاولة إطفاء نور العلم [وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ] {التوبة:32}   ولا يجد بداً من أن يضطهد الأحرار فلا يزيدهم اضطهاده إلا قوة وتأييداً، فيلجأ إلى العوام، وهم قوت المتجبر وقوته، بهم يصول، وعلى غيرهم يطول، يستبد بهم فيهللون لشوكته، ويخونهم في أمانته فيهللون لخيانته، ويعبث بأموالهم فيرتضون عبثه، ويهينهم فيتقبلون إهانته، لأنهم عباد المال، وعبيد المنافع، قد غطت المصالح الشخصية على أعينهم، وطمست المنافع المادية على قلوبهم، وغلبت الأهواء على ضمائرهم، فعجزت المواعظ أن تصل إلى قلوبهم، وأخفقت الزواجر أن تجد لها سبيلاً إلى نفوسهم، وضاعت كلمة الحق بينهم، وضل صوت الإرشاد في ضوضائهم.
عند ذلك يتولى الله تأديبهم، ويذكرهم بجبروته، ويذيقهم من بأسه، فيبدل أمنهم خوفاً، وعزهم ذلا، ونعيمهم بؤسا [فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عليهم أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ] {الأنعام:45}. [وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ] {النحل:112}. [الَّذِينَ طَغَوْا فِي البِلَادِ(11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ(12) فَصَبَّ عليهم رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ(13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصَادِ(14) ]. {الفجر}..
وفي ذلك أقوى برهان على وجوده، وأكبر دليل على ألوهيته؛ لأن الحاسة الدينية مرتبطة أشد الارتباط ببعض الغرائز الإنسانية كغريزة الخوف والعجب والخضوع وحب البقاء، فمهما كابر الطاغية وعاند وتجلد وقاوم، لابد أن يضعف ويخضع، ويستكين ويخشع، إذا ما شعر بيد الجبار تأخذه، وبقوة القهار تقهره.
ألا ترى إلى فرعون موسى بعد أن كان ينادي في قومه أنه ربهم الأعلى وعلا في الأرض، وجعل أهلها شيعاً، واستنكف أن يلبي دعوة موسى، ويتبع دينه معتزاً بسلطانه، تياهاً بجناته وعالي بنيانه، لما أدركه الغرق، وظهر له ضعفه، آمن بإله موسى، وصرخ بأنه يطيع ما أطاعه ويلبي نداءه [حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ] {يونس:90}.
هكذا سنة الله في تأديب الطغاة المفسدين من أفراد وأمم وجماعات وأحزاب، يتولىالله تأديبهم بالبأساء، وينزل بهم صاعقة من مقته، ويقرعهم بصفعة من سخطه عبرة لغيرهم، وإيقاظاً لأمثالهم، خشية أن يستولي اليأس من الحق على النفوس ويستبد القنوط من العدالة بالقلوب، فتمتلئ قلقاً وزعزعة، واضطراباً وبلبلة، بل ربما قذف بها اليأس إلى مضيق الشك في وجود الإله والارتياب في عدل الخالق، لولا صاخة من انتقامه تصيب المتجبرين، وقارعة من بلائه تنزل بالمفسدين فتعود النفوس إلى طمأنينتها، وتستيقظ القلوب من غفلتها، ويؤوب إليها إيمانها.
ألا تري إلى قصة قارون، وقد كان رجلاً من بني إسرائيل، آتاه الله بسطة في الرزق، وأدر عليه أخلاف الثراء، حتى إن مفاتيح خزائنه كانت تعجز عن حملها العصبة من أولي القوة، فكان مرموقاً بعين الغبطة من كل من رآه في زينته. وكان أولوا البصائر من قومه يعظونه ويبذلون له النصح ويحذرونه، فلا يزداد إلا زهواً وخيلاء.
أما المولعون بالدنيا، الذين يزدهيهم زخرفها فقد قالوا: [يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] {القصص:79}   فوعظهم أهل البصر النافذ فيما وراء المظاهر الخلابة، وقالوا لهم: [وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا] {القصص:80}.
ولكن سرعان ما أزال الله عنه لباس النعمة، وأذاقه عاقبة طغيانه، فخسف به وبداره الأرض، ولم يجد له ناصراً ومعينا، فأدرك الذين تمنوا مكانه بالأمس عاقبة الطغيان، ومصرع البغي والعدوان، وتيقظوا إلى سنة الله العادلة [تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلَا فَسَادًا] {القصص:83}.
لهذا بني الإسلام على قول (لا إله إلا الله) فهي شطر الإيمان وأفضل الذكر، بني الإسلام بل كافة الأديان عليها، لأن معناها لا يعبد حقاً سوى الصانع الأعظم، والإله الأوحد، ولا معنى للعبادة إلا التذلل والخضوع، فيكون معنى (لا إله إلا الله) لا يستحق التذلل والخضوع غير الله.
فإذن كل من يطلب من الناس التذلل له، والخضوع لقهره، فهو مشارك لله في ألوهيته، خصم له في وحدانيته، فيقصم القهار ظهره ولا يبالي، ويبطش الجبار بصولته ولا يداري.
عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل: (الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني منهما شيئاً قصمت ظهره ولا أبالي).
عند ذلك تيقظ ضمير الإنسانية وقد كان نائماً ويفطن لقوة الإله السرمدية، وقد كان غافلاً، فيوقن أن هناك قوَّاماً على العدل، حفيظاً على القسط إنه لا يحب المعتدين [وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ المِيزَانَ] {الرَّحمن:7}.
على أننا لو أخذنا في تحليل نفوس المتجبرين، والكشف عن بواطن المستبدين، لوجدنا أن شر تجبرهم، ومبعث عتوهم في الغالب نفوس مريضة، احتواها مركب النقص، واستولى عليها الحقد، فآثرت أن تلتمس لها شفاء في الطغيان، وتبحث لها عن ستر لنقصها في العتو وعدم الاتزان.
كثيراً ما يقولون إن الشرق مريض بداء الاستهتار بالدين. ولو أنصفوا فردوا الأمور إلى أسبابها، والعلل إلى منابعها، لقالوا: إن هذا إلا ثمرة من ثمار سياسة المستبدين، ونتيجة من نتائج الطغاة المفسدين، لذلك سلك الأنبياء عليهم السلام  ـ وكلهم من الشرق وفي الشرق ـ سلكوا أول ما سلكوا في إنقاذ أممهم من شقائها والنهوض بها من كبوتها والخروج بها من ركودها، أن فكوا العقول من تعظيم غير الله، والإذعان لسواه، ولذلك بتقوية شعور الإيمان المفطور عليه وجدان كل إنسان.
ثم بعد إطلاق العقول من عقالها، صاروا ينظرون إلى الإنسان بأنه مكلف بقانون الإنسانية، مطالب بجميل الأخلاق والواجبات الاجتماعية، فهدموا بذلك حصون المتجبرين، وسدوا منابع الفساد على المتعجرفين، فإن كل نبي ما جاء إلا ليحارب البغي والتسيطر، ويقاوم الفساد والتجبر.
وذلك لأن التجبر المشؤوم يؤثر على الأجسام فيورثها الأسقام، ويسطو على النفوس فيجعلها فريسة للآلام، ويعصف بالقوى فيمنع نماءها، وبالكفايات فيقتلها في مهادها، وبالعمران فيقوض من أركانه، وبالعدل فيهد من بنيانه.
وتعيش الجماعات في ظلال الطغاة الباغين عيش الأشجار الطبيعية في غاباتها، والأحراش المتكاثفة المعبرة في منابتها، يسطو عليها الحرق والغرق، وتحطمها العواصف والأنواء، وتقصفها الأيدي والأقدام، ويتصرف في فسائلها وفروعها الحاطب الأعمى، والخابط الأعشى، فتعيش ما شاءت لها رحمة الحطابين أن تعيش، وإنما الخيار للصدفة والأقدار في أن تظل معوجة أو مستقيمة، مثمرة أو عقيمة أما في ظل الإنصاف وتطبيق موازين القسط والإنسانية، فتعيش الجماعات نشيطة على العمل بياض نهارها، وعلى التفكير والابتكار سواد ليلها، ناعمة البال، تروح وتغدو، مترقية في سلم السعادة، متسامية في نعيم الحضارة، مدركه لقيمة الأوقات والساعات، شاعرة بوجودها وما عليها أن تؤديه في بناء الحضارات.
والمتجبر كثيراً ما يضطر الناس إلى الكذب والتحيل، والخداع والتدلل، ويعمل على إضعاف ثقة الناس بأنفسهم، وربط عزائمهم بإرادته، وإراداتهم بأهوائه، فيعيشون مساكين بائسين متواكلين متخاذلين متقاعسين متفاشلين، قد عطلوا سر خلافة الله للإنسان، وهدموا ما أنشأه من عامر البنيان.
عندئذ تنزل المحنة بالأخيار، فإما أن يلجئوا إلى ألفة النفاق والرياء ومسايرة الأشرار والخبثاء، ليأمنوا على أنفسهم وأهليهم ويتمتعوا باللذة الحاضرة القريبة، ويعيشوا في راحة فانية سريعة، وإما أن تشتد منهم العزائم، فيقاوموا الطغيان، ويحاربوا النزق وحزب الشيطان، ويتحملوا في سبيل ذلك ما يتحملون من عنت وأذى، ويذوقون ما يسامون من اضطهاد وبغي طمعا في إرضاء الله، ودفاعاً عن حرمه، وهم موقنون أن البقاء للأصلح، وأن الغلبة للأنفع.
[فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ] {الرعد:17}.
بيد أن هذه المجاهدة عسيرة، وهذه المقاومة صعبة عزيزة إلا على من عصم الله، قال صلى الله عليه وآله وسلم (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر).
لذلك نجد الله تعالى يظهر بطشه قبل أن تتم فصول الرواية، وينفذ سنته قبل أن تصل الأمور إلى النهاية، فيأخذ ـ سبحانه من قادر ـ في البطش بالمتجبرين، والأخذ بيد المقهورين، خشية أن يؤمن الناس بالطغيان، ويستسلموا لدعاة البغي والعدوان، وفي هذا تذكير بسنته، وإظهار لعزته وقهره.
[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ] {القصص:5} . وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.


المصدر: مجلة رسالة الإسلام السنة الرابعة ، رجب 1371هـ ، العدد الثاني


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين