الباطل زاهقٌ والحقّ ماحقٌ

عناصر المادة

1- الحقُّ منتصرٌ، والباطل مندحِرٌ2- التباس الحقِّ بالباطل مِن مكائد الشَّيطان

مقدمة:

لقد اقتضت حكمة الله عز وجل أن يوجد صراعٌ بين الحقّ والباطل؛ لتمضي سنّة الابتلاء، والمدافعة بين الفريقين، فيهلك مَن هلك عن بيّنةٍ، ويحيا من حيّ عن بيّنةٍ، ولقد شاء الله سبحانه ألّا تخبو نار معركة الهدى والضّلال، والكفر والإيمان، ولا تخمد جذوتها، ولا يسكن لهيبها، بل تظلّ مُستعِرةً حتّى يرث الله جل جلاله الأرض ومَن عليها، وإنّ هذه المعركة هي انتفاضة الخير في وجه الشّر بكلّ صوره وألوانه، مهما اختلفت راياته، وكَثُر جنده، وعَظُم كيده، وعَمَّ خطره، ولذا: فهي ليست وليدة اليوم، بل هي فصولٌ متعاقبةٌ، مُوغِلةٌ في القِدَمِ، يتلو ربّنا سبحانه علينا مِن أنبائها؛ تبصرةً وذكرى للذّاكرين، وهدىً وموعظةً للمتّقين.

إنّ الصّراع بين الحقّ والباطل سنّةٌ كونيّةٌ مِن سنن الله عز وجل فقال: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20].

ثمّ إنّ للحقّ أهله وجنده، وللباطل أهله وجنده، والحرب سجالٌ ما بين المعسكرين، فتارةً ينتفش الباطل ويتبجّح أمام الحقّ، ولكنّه انتفاشٌ زائفٌ كالزّبد فوق الماء، قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} [الرّعد: 17].

وتارةً يتراجع الحقّ قليلًا ليُرتّب الصّفوف ثمّ يتقدّم، وإنّنا على ثقةٍ كاملةٍ، ويقينٍ لا شكّ فيه، بأنّ الحقّ منتصرٌ -لا محالةً- في النّهاية، كان ذلك عند ربّك حتمًا مقضيًّا، وكتابًا مسطورًا، قال سبحانه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]، ومهما طال اللّيل لا بدّ من طلوع الفجر.

لطالما أنّ الصّراع بين الحقّ والباطل قائمٌ، فليوطّنْ كلٌّ منّا نفسه أن يكون مع أهل الحقّ، حزبِ الله الغالبين، ويجنّب نفسه الانتماء لأهل الباطل، حزبِ الشّيطان المغلوبين، نوطّن أنفسنا إنْ أحسن النّاس أن نُحسن، وإن أساؤوا ألّا نُسيء، لأنّ الحقّ منتصرٌ -إن شاء الله- بنا أو بغيرنا، فإن أيّدناه وناصرناه نِلنا الشّرف والرّفعة، وإن تولّينا وتخاذلنا -نعوذ بالله من ذلك- أصابنا الخزي والعار، وانتصر الحقّ عندئذٍ بغيرنا، قال تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمّد: 38].

1- الحقُّ منتصرٌ، والباطل مندحِرٌ

عندما تطول المعركة مع أهل الباطل، فإنّ الغلبة تكون لأهل الحقّ، قال تعالى: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128].

فهذه انتفاضة الخليل عليه السلام لتقويض عبادة الأصنام الّتي عكف عليها قومه، حتّى يكون الدّين كلّه لله جل جلاله، فأراد الباطل بأعنف ما في جعبته مِن سهام الكيد والأذى ليُواجه إبراهيم عليه السلام، حتّى انتهى به إلى إلقائه حيًّا في النّار، ولكنّ هذه الحملة باءت بالفشل فيما قصدت إليه، قال تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 68-70].

وهذه معركة الحقّ الّذي رفع لواءه موسى عليه السلام، مع الباطل الّذي رفع لواءه فرعون، وتمادى به الشّرّ والنُّكر حتّى قال لقومه: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38].

وقال متوعّدًا الحقّ وأهله بالنّكال وأليم العذاب: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127].

ولكنّ إرادة الله سبحانه للحقّ أن ينتصر، وللباطل أن يندحر، أعقبت هلاك فرعون وجنوده، ونجاة موسى عليه السلام ومَن معه، قال تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} [الشّعراء: 63-66].

وقال عز وجل عن المستضعفين مِن قوم موسى عليه السلام: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5].

وتلك معركة الحقّ الّتي استعرت نيرانها بين خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم وبين صناديد قريش وأشياعهم، الّذين ظنّوا أنّهم قادرون على إطفاء نور الله جل جلاله بأفواههم، وإيقاف مدّ الحقّ الّذي دهمهم في عقر دورهم، فلم تكن العاقبة إلّا ما قضى الله به من ظهور دينه، وهزيمة عدوّه، تجلّت صورته في وقوف النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمام بيت الله الحرام، يُطيح الأصنام مِن حوله، تاليًا قول الله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].

وإنّ حربنا اليوم -في بلدنا الحبيب- مع هذا النّظام المجرم الغاشم وأعوانه وحلفائه، لهيَ حلقةٌ مِن حلقات هذه المعركة، إذ هي صورةٌ حيّةٌ نابضةٌ مِن صور المواجهة بين الحقّ المدافع عن دينه ومقدساته، الذّابّ عن حرّيّته وكرامته، وبين الباطل الغاصب الظّالم، المنتهك للحرمات، المدنّس للمقدّسات، الّذي ضجّت منه الأرض والسّماوات، غير أنّ هذه المعركة وإن يكن طويلٌ أمدها، كثيرةٌ جراحاتها، عظيمةٌ تضحياتها، لكنّها كما كانت بالأمس نصرًا للحقّ، ودحرًا للباطل، ورفعةً للمؤمنين، وذلًّا وصغارًا للمعتدين الظّالمين، فسوف تكون اليوم أيضًا -إن شاء الله- عِزًّا وغلبةً للإسلام وأهله، وكمدًا للمجرمين الحاقدين، مِنّةً مِن الله جل جلاله وفضلًا، فلنتسلّح بالصّبر والتّقوى لربّ العالمين، ولنطرد اليأس والقنوط، قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90].

2- التباس الحقِّ بالباطل مِن مكائد الشَّيطان

إنّ مِن أخطر ما يهدّد الأمّة في عقيدتها وأخلاقها، أن تعيش في جوٍّ مِن اللّبس والتّضليل، فلا ترى الحقّ بصورته المضيئة، ولا الباطل بصورته المظلمة، بل قد يصل بها المكر والخداع إلى أن ترى الحقّ باطلًا والباطل حقًّا، ويلتبس سبيل المجرمين بسبيل المؤمنين، ومِن أعظم الالتباس بين السّبيلين، أن يقوم المجرمون مِن أعداء المسلمين، برفع لافتاتٍ ظاهرها الإسلام والحقّ، وباطنها المكر والخداع، ويحصل مِن جرّاء ذلك أن يُخدع كثيرٌ مِن النّاس بهذه الّلافتات، فينشغلون بها ويُثنون على أهلها، بدلًا مِن فضحها وتعرية باطلها، ولقد خاف النّبيّ صلى الله عليه وسلم على أمّته مِن المضلّين، الّذين يلبّسون على النّاس دينهم بأهوائهم وضلالاتهم، عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ). [ 1 ]

وإنّ فتنة التّزيين ولَبس الحقّ بالباطل، واتّباع الهوى في ذلك، لمِن أعظم فتن الشّيطان، ولقد وقع في هذا الشَّرَك الخطير كثيرٌ من النّاس، وبخاصّةٍ في زماننا هذا، حيث تموج الفتن موج البحر، ويكثر الخداع والنّفاق والدّجل والرّياء، وإنّ مِن صور لَبس الحقّ بالباطل -أيضًا- المداهنة بحجّة المداراة ومصلحة الأمّة، وإنّ هذا الخلط بين المداراة والمداهنة والتّمييع في الولاء والبراء بحجّة التّسامح، كلّ ذلك ينتج عنه آثارٌ خطيرةٌ على الدّين وأهله، وذلك بما يُفرزه هذا الخلط مِن المغالطة والتّضليل على الأمّة، في أنّ ما يقع مِن الملبّسين مِن مداهنةٍ وموالاةٍ لأعداء هذا الدّين إنّما هو مداراةٌ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: (بِئْسَ أَخُو العَشِيرَةِ، وَبِئْسَ ابْنُ العَشِيرَةِ) فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حِينَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (يَا عَائِشَةُ، مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ). [ 2 ]

ويعلّق ابن حجرعلى هذا الحديث قائلًا: "قال ابن بطّال: المداراة مِن أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للنّاس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ في القول، وذلك مِن أقوى أسباب الألفة، وظنّ بعضهم أنّ المداراة هي المداهنة فغلِطَ، والفرق أنّ المداهنة مِن الدّهان، وهو الذي يظهر على الشّيء ويستر باطنه، والمداراة هي: الرّفق بالجاهل في التّعليم، وبالفاسق في النّهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه". [ 3 ]

ولذا كانت المداراة صفة مدحٍ لأهل الإيمان، بينما المداهنة صفة ذمٍّ لأهل النّفاق، فهل بعد هذا البيان مجالٌ للالتباس في هذا الأمر؟! ثمّ إنّ مكمن خطر المداهنة يكمن في مداهنة الكفّار بمشاربهم المختلفة، حتّى اهتزّ جانب الولاء والبراء الّذي هو الرّكن الرّكين في قضيّة التّوحيد.

خاتمةٌ:

لكَمْ هي العِبر والعظات الّتي يتركها لنا انتصار الحقّ على الباطل في كلّ معركةٍ يخوضها؟! ممّا كان كفيلًا بشحذ هممنا، وتثبيت عزائمنا على الحقّ، والوقوف مع أهله، والابتعاد عن الانزلاق والهويّ في كلّ ما يضاده، حين أنّ الباطل إذا كانت له جولةٌ في ساعةٍ، فإنّ الحقّ باقٍّ إلى قيام السّاعة، وإنّ التّاريخ القديم والحديث مليءٌ بالأحداث الدّالة على أنّ العاقبة لأصحاب الحقّ، وأنّ الدّائرة عائدةٌ على الواقفين إلى جانب الباطل، وإنّ الحقّ واضحٌ كالشّمس في رابعة النّهار، لا يخفى على ذي بصيرةٍ، ولا يلتبس بالباطل إلّا على مَن ختم الله على قلبه، وجعل على بصره غشاوةً، وكان في أذنيه وقرٌ، فما علينا -ونحن نرى الكيد والمكر مِن أعدائنا للنّيل مِن الإسلام وأهله، ومحاولاتٍ فاشلةٍ لإطفاء نور الإيمان- إلّا أن نتسلّح بالصّبر واليقين، والتّقوى والمراقبة لربّ العالمين، ونطرد وساوس الشّياطين، الّتي تتسلّل إلى صدور بعض النّاس، لتزرع فيها اليأس والقنوط مِن كرم الله عز وجل ورحمته، فانجرّ وراءها ضعفاء الإيمان واليقين، وشكّكوا بعدل ربّنا الرّحيم الرحمن، فأعقبهم ذلك الهلاك والخسران.

 

1 - مسند أحمد: 22393

2 - صحيح البخاريّ: 6032

3 - فتح الباري شرح صحيح البخاريّ لابن حجر 10/528

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين