الاهتمام بقبول الله تعالى العمل الصالح

 

 

بنى الخليل وولده الكعبة وهما يتضرعان  " رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"[1] وكان يحدو " رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ"[2]  وكانت امرأة عمران تبتهل " .. رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"[3]   وصفوة الخلق ينادي "رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي .."[4] وأخبر تبارك وتعالى، بقبول التوبة من البعض وعدم قبولها من آخرين فقال " أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ .. "[5] " وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ .."[6] " غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ.. "[7] ولما كان القبول أو التقبُّل مشروطا بالإخلاص والمتابعة للقدوة المعصومة ، فإذا اختل أحد هذين الشرطين امتنع القبول «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»[8] ولهذا ورد الخبر بعدم قبول التوبة عن نفر من الخلائق " ....لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ"[9] وكان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده وهؤلاء الذين: {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}[10]  1-روي عن علي رضي الله عنه قال: كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم بالعمل ألم تسمعوا الله عز وجل يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[11]  ،2- جَاءَ سَائِلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ لِابْنِهِ أَعْطِهِ دِينَارًا فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْكَ يَا أَبَتَاهُ فَقَالَ لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ تَقَبَّلَ مِنِّي سَجْدَةً وَاحِدَةً أَوْ صَدَقَةَ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ غَائِبٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنَ الْمَوْتِ أَتَدْرِي مِمَّنْ يَتَقَبَّلُ اللَّهُ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ"[12] 3-وعن فضالة بن عبيد قال: لأن أكون أعلم أن الله قد تقبل مني مثقال حبة من خردل أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها [13]لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[14]  4-قال ابن دينار: الخوف على العمل أن لا يُتقبل أشد من العمل وقال عبد العزيز بن أبي رواد: أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح فإذا فعلوه وقع عليهم الهمُّ أيُقبل منهم أم لا.

 

لعلك غضبان وقلبي غافل ... سلام على الدارين إن كنت راضيا

 

 كان ابن مسعود يقول: لئن أَكُونُ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَقَبَّلَ مِنِّي عَمَلًا أحب اليّ من أن يكون لي مليء الأرض ذهبا"[15] ، ويقول: " من هذا المقبول منا فنهنيه ومن هذا المحروم منا فنُعزيه أيها المقبول هنيئا لك ، أيها المردود جبر الله مصيبتك[16]. قَدْ يَتَقَبَّلُ اللَّهُ النَّافِلَةَ التَّطَوُّعَ وَلَا يَتَقَبَّلُ الْفَرِيضَةَ وَقَدْ يَتَقَبَّلُ اللَّهُ الْفَرِيضَةَ دُونَ التَّطَوُّعِ وَقَدْ يَتَقَبَّلُهُمَا بِفَضْلِهِ جَمِيعًا وَقَدْ لَا يَقْبَلُ وَاحِدَةً مِنْهُمَا وَلَيْسَ كُلُّ صَلَاةٍ مَقْبُولَةً ، وَكَانَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ يَقُولُ طُوبَى لِمَنْ تُقُبِّلَتْ مِنْهُ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ"[17] وبر الوالدين من أسباب قبول صالح الأعمال قال تعالى عمن برَّ والديه " أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ .." [18] بل قد أخبر – جل مذكورا وعز مرادا – بأنه لا يقبل غير الإسلام دينا " وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ"[19]

 

وكان السلف الصالح – رضي الله عنهم –يتبادلون التهاني فى الأعياد ومواسم الطاعات ، بالدعاء بالقبول ، لقي خالدُ بن معدان واثلةَ بن الأسقع في يوم عيد فقال له: "تقبل الله منا ومنك" فقال له مثل ذلك، وأسنده إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو أشبه بالموقوف. وله شواهد عن كثير من الصحابة[20]، بيَّنها الحافظ ابن حجر في بعض الأجوبة، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعا: "من لقي أخاه عند الانصراف من الجمعة فليقل: تقبل الله منا ومنك"[21]. وفي الصحيحين قيام طلحة لكعب رضي الله عنهما وتهنئته بتوبة الله عليه يقول : كعب : تَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّئُونَنِي بِالتَّوْبَةِ، يَقُولُونَ: لِيَهْنِكَ تَوْبَةُ اللهِ عَلَيْكَ حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَقَامَ إِلِيَّ طَلْحَةُ بَنُ عُبَيْدِ اللهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي، مَا قَامَ إِلِيَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ، وَلَا أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ"[22]، ولما حج آدم - عليه الصلاة والسلام - البيت الحرام قالت له الملائكة برَّ حجك قد حججنا قبلك، وألَّف السيوطي في ذلك رسالة سماها " وصول الأماني في حصول التهاني " أجاد فيها،  ونتلو فى تقبل الله لدعاء امرأة عمران لذريتها " فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ... "[23]

 

وأول جريمة وقعت على ظهر البسيطة بسبب قضية القبول والتقبل "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ"[24]

 

وهناك فَرْقٌ بَيْنَ الْقَبُولِ وَالتَّقَبُّلِ فَالتَّقَبُّلُ عِبَارَةٌ عَنْ أَنْ يَتَكَلَّفَ الْإِنْسَانُ فِي قَبُولِهِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ يَكُونُ الْعَمَلُ نَاقِصًا لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُقْبَلَ فَهَذَا اعْتِرَافٌ مِنْهُمَا – عليهما السلام - بِالتَّقْصِيرِ فِي الْعَمَلِ، وَاعْتِرَافٌ بِالْعَجْزِ وَالِانْكِسَارِ، وعلى غرار هذا المعنى كان الدعاء فى آخر رمضان بطلب العفو ليلة القدر.

 

ولما سبق من النصوص والآثار كانت مشروعية التوجه إلى الله تعالى بطلب القبول بعد الفراغ من أداء الأعمال الصالحة بكافة أنواعها وإليه أشار النووي – رحمه الله فى أذكاره[25]- هذا وبالله التوفيق

 

[1] البقرة : 127

[2] إبراهيم : 40

[3] آل عمران : 35

[4] صحيح الجامع حديث رقم: 3485 

[5] التوبة: 104

[6] الشورى :25

[7] غافر: 3

[8]  صحيح مسلم كِتَابُ الْأَقْضِيَةِ بَابُ نَقْضِ الْأَحْكَامِ الْبَاطِلَةِ، وَرَدِّ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ

[9] آل عمران : 90

[10] المؤمنون: 60

[11] المائدة: 27

[12] التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (4/ 256)

[13] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 17)

[14] المائدة: 27

[15] المعرفة والتاريخ (2/ 549)

[16] لطائف المعارف لابن رجب (ص: 209)

[17] التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (4/ 255)

[18] الأحقاف : 16

[19] آل عمران : 85

[20] روضة المحدثين (1/ 400، بترقيم الشاملة آليا)

[21] كشف الخفاء ت هنداوي (1/ 368)

[22]صحيح البخاري كِتَابُ المَغَازِي بَابُ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118]

[23] آل عمران : 37

[24] المائدة :27

[25] الأذكار للنووي ت الأرنؤوط (ص: 188)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين