الانكفاء الأمريكي قناع للتدخل الذكي

مع حلول الذكرى الثالثة لتنحي محمد حسني مبارك عن رئاسة جمهورية مصر قبل دخوله إلى "المستشفى" حيث بدأت رحلة محاكمته الطويلة في عدة قضايا، ومع تبرئته من بعضها واقترابه من حكم البراءة في البعض الآخر، ومع اقتراب دولته العميقة من إحكام القبضة العسكرية مجددا على مصر بعد "شرودها" المؤقت عن بيت الطاعة، ومع خضوع أول رئيس منتخب لمصر الثائرة لمحاكمة صورية بعد الانقلاب على حكومته التي لم يسمح لها بالحكم على وجه الحقيقة، تفرض بعض التساؤلات نفسها على المراقب للمشهد العربي بعد مضي 3 سنوات على اندلاع شرارة ما عرف لاحقا بالربيع العربي.

فما الذي أدى إلى انعكاس موجة التغيير وارتدادها لتطلق مجددا يد العسكر في مصير الشعوب، ويد الدول العميقة القائمة على تحالف رجال أعمال وشخصيات وأحزاب عفا عليها الزمن ومثلت لعقود رموزا للاستبداد وامتدادا للفساد الذي نهب البلاد والعباد؟ قد يطول الجدل حول أخطاء الإسلاميين الذين رفعتهم الثورات إلى السلطة أو رفعوا إليها، وقد يطول الحديث حول مزاجية الشعوب ومدى وعيها وإدراكها وتوقها للحرية، ولكن المسلم به وما لا شك فيه أن العامل الإقليمي ومن ورائه العامل الدولي، وأمريكا واسطة عقده، كان يفعل فعله ويوظف الأحداث ويوجه ردات الفعل حيث لا تشتهي الثورات ولا تستقيم. 

لا يمكن للأنظمة أو الدول العريقة التي تمتلك أجهزة استخباراتية ذات خبرة طويلة ومتراكمة أن تعلن عن سياسة إلا وهي تخفي تحتها سياسة أخرى تختلف عنها بالضرورة، ولكنه اختلاف قد يصل إلى درجة التناقض في أغلب الأحيان، وذلك على سبيل التغطية والمناورة، والمناورة هنا لا تعني موافقة لفظية على مسألة ومخالفة عملية لها، بل إنك لتجد الأعمال سابقة في تأكيد السياسة المعلنة وتثبيتها في الأذهان على اللفط والمقال، فسياسة أن تقول شيئا وتفعل شيئا آخر معاكسا باتت أداة مكشوفة واستراتيجية متخلفة، إذن لا بد من اتباع استراتيجية الغطاء العملي والموقف العملي والتطبيقات المتعددة التي تتضمن رسالة واضحة حول موقف معين، ليست وظيفته في الحقيقة سوى نفي السياسة المبطنة والموقف الحقيقي النهائي.

لعل هذه الحقيقة تشكل مدخلا لفهم سياسة الانحناء والاستيعاب التي مارستها الولايات المتحدة في مواجهة رياح التغيير التي عصفت بعدة أنظمة عربية قبل سنوات ثلاث، أنظمة تعد في معظمها حليفة للولايات المتحدة وأركانا في سياستها الاستراتيجية في الشرق الأوسط، إن على صعيد المصالح الآنية أو على صعيد المصالح الممتدة على المدى الطويل، وسواء ما يتعلق بسقوط الحلفاء أو صعود الأعداء أو القوى التي لم تختبرها واشنطن بعد، وهو ما مثل خطرا على تلك السياسة ومعضلة تستلزم حلا استباقيا سيكون أقل تكلفة من أي حل يلحق وقوعها وربما لن يؤدي إلى حلها، فالحل الأمثل بالنسبة لهم أمام توقع سقوط الحلفاء وصعود الخصوم كان بركوب الموجة مبكرا للتمكن من توجيهها تمهيدا لكبحها تماما.

سياسة الولايات المتحدة في ذلك الحين كانت صادمة لحلفائها قبل أعدائها، فتوني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق وشريك الحرب على العراق عبر عن ذعره من عواقب تلك السياسة على مصير المصالح الغربية ومنها إسرائيل في المنطقة، فيما شنت صحف الأخيرة هجوما لاذعا على أمريكا وإدارة أوباما وشملت نزعات أردوغان "الإخوانية"، كما عبر ملك السعودية عن غضب غير معتاد من أحداث مصر وأبدى دعمه وتأييده  للرئيس التونسي الفار زين العابدين بن علي وبعده للرئيس المصري المتنحي محمد حسني مبارك، وكان لافتا أن واشنطن أبدت دعما وتأييدا – متكلفا – للمتظاهرين والثوار التونسيين ثم المصريين ودعت لاحترام خيارات هذين الشعبين، في الوقت الذي هيمنت فيه فكرة البديل الإسلامي الحتمي وشبح "التطرف والانتقام" على أذهان الأنظمة العربية الحليفة التي اعتبرت تلك السياسة الأمريكية ضبابية والبعض وصفها بالمدمرة، فيما رأت واشنطن أنها تمارس سياسة ذكية، فما هو حقيقة الخلاف؟

حينما احتدم النقاش حول طبيعة السياسة الغربية المفترض أن تمارسها الدول الغربية تجاه ثورات الربيع العربي قبيل وصول ثورات مصر وليبيا واليمن إلى ذروتها وضعت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون نقاطها الديبلوماسية على حروف الأمن الغربي في كلمتها التي ألقتها في مؤتمر الأمن في ميونخ وحسمت الجدل بشأن ذلك عندما قالت: "إن المنطقة العربية تتعرض لرياح تغيير عاصفة ولن يقف أمامها شيء، وهي لن تكون بمصلحتنا على المدى القريب وحتى المتوسط، لكنها ستكون كذلك على المدى البعيد، وبالتالي فإنه من مصلحتنا الوقوف معها".

ما لم تقله كلينتون في كلامها ذاك - على الرغم من دقته - هو أن تحول عملية التغيير السياسي في المنطقة من التناقض مع المصالح الغربية والأمريكية إلى الموافقة والانسجام على المدى الطويل كما بينته رئيسة الديبلوماسية الأمريكية ستكون عملية تحويل لا تحول، وتوجيه لا توجه، وذلك بفضل سياسة الاحتواء والركوب ثم التوجيه وصولا إلى الكبح وعكس الطاقة بالاتجاه المضاد، وهي السياسة التي مارستها الإدارة الأمريكية بذكاء شديد، متظاهرة بالانكفاء وانعدام شهية التدخل تارة، والانشغال بالقطب الصيني الاقتصادي الصاعد على حساب الاهتمام بالشرق الأوسط تارة أخرى، ومن يبحث عن وثائق تثبت هذا التوجه وهذه السياسة فما عليه إلا العودة إلى كبرى الصحف الغربية التي أصدرت سيلا من المقالات والآراء بهدف تحليل طبيعة الموقف الأمريكي الجديد والسياسة المتغيرة تجاه منطقة الشرق الأوسط، حيث سيجدها جميعا تدور في فلك التأكيد على أن الدوافع الكامنة وراء الموقف الأمريكي المستجد هي دوافع ذاتية، وتعزز الانطباع بأنه لا علاقة له بطبيعة ما يجري في المنطقة التي تستلزم تمرير بعض الأوهام لتتم إدارة الأزمة العابرة للحدود بنجاح.

المهم أن هذه السياسة نجحت نسبيا – حتى الآن على الأقل – في أهم دول الربيع العربي، وأعني مصر، ولا زالت قيد الإنجاز في كل من اليمن وليبيا وتونس، والملاحظ أنها لم تصل في أي من تلك البلدان حد الاستقرار المطلوب، وذلك بالقدر الذي يحقق الاطمئنان الأمريكي إلى عبور الموجة وانتهاء هبوب العاصفة بأقل خسارة ممكنة بل ربما بتحقيق مكاسب لم يكن لواشنطن تحقيقها لولا هبوب تلك الرياح أصلا. 

أما القضية السورية في إطار هذه السياسة فشأن آخر، إذ لم تخضع لها بقدر ما تم إخضاعها لملفات أكبر قابعة في أدراج الخارجية الأمريكية، وعلى رأسها العلاقة مع إيران ونفط الخليج وملفات أخرى أقل أهمية ومنها الوجود الإسرائيلي، كما برز ابتداء العمل على إضعاف تركيا اردوغان، حيث مثلت محاولة جر أنقرة إلى الحرب السورية – إبان تأييدها المطلق للتغيير في سوريا ولو بالقوة – مثلت أول حلقة في سلسلة ضربات وجهت لتركيا من جهة، وزاوية صغرى في الملف السوري كان صانع القرار الأمريكي يرى فائدة إضافية في استثمارها بصورة آنية في نفس السياق، ومن ثم كانت حسابات هذا الملف تتبع لتقاطع عدد من الملفات، أو كانت – ولا تزال – تمثل حصيلة تدافعها وتصادمها بعبارة أدق، وبالتالي نجد أن السياسة الأمريكية المتبعة فيما يتعلق بالملف السوري أخذت شكل الدعم المحدود الحذر المتخبط ظاهريا.

ويبقى السؤال: بعد وصول سياسة ركوب الموجة وعكس اتجاهها إلى مراحل متقدمة في بعض دول الربيع، ومراوحتها في دول أخرى هل ستواصل نجاحها في المراحل المتبقية أم ستقف عند هذا الحد؟ أم أنها ستواجه من المفاجآت ما لم تحسب له حسابا أو تعد له سياسة ظاهرها من قبله الرحمة وباطنها من قبله العذاب؟

لا شك أن مواجهة هذه السياسة الزئبقية للولايات المتحدة صاحبة القرار الدولي الحالية من قبل أصحاب المشاريع الوطنية والتحررية على طريق استعادة الأوطان ليست أمرا سهلا، ولا يمكن لهذه المواجهة أن تؤتي ثمارها إلا إذا اتصفت بالقدر ذاته من الدهاء والمكر الذي تتصف به تلك السياسة، ولا بد من تخطيط محكم يستخدم شتى أدوات العصر ويراعي مراحل النهوض ولا يستنزفها، ولعلها معركة بحاجة إلى الكثير الجهد والطاقة على شتى الصعد، ولكن الأهم من ذلك هو أن تأخذ أية سياسات توضع في هذا السياق طبيعة السياسة الأمريكية تجاه المنطقة وطبيعة تعاملها مع قواها الصاعدة بعين الاعتبار. 

وبناء عليه لا ينبغي الركون إلى العجز، أو المصير إلى الإيمان بحتمية التلون الكامل طمعا في تغير السياسة الأمريكية لصالح تلك القوى التي يفترض أن تعبر – بطريقة أو بأخرى – عن ضمير الشعوب في المنطقة، إذ إن للولايات المتحدة من البراغماتية ما يكفي للقبول بهذه القوى ما دامت تشعر بضرورة غض النظر عنها بل والتعامل معها ولو مؤقتا، وما دامت هذه القوى تستشعر أهمية الحدث وتسثمره وتستغل اللحظة التاريخية التي قد لا تتكرر إلا قليلا.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين