الانتحار وعقاب فاعله

أذيع صباح الثلاثاء 29 من ذي القعدة 1377 من حلب، جعله الله خالصاً لوجهه.

أيها المستمع الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.

فحديثي اليوم عن: الانتحار وعقاب فاعله

الانتحار هو أن يقتل الإنسان نفسه عمداً بوسيلة من وسائل القتل بدافع من الدوافع، وهو في نظر الإسلام أكبر معصية يرتكبها الإنسان بعد الكفر بالله تعالى، وأعظم مصيبة تقع على المجتمع بعد خطيئة الكفر بالخالق جل شأنه، ولقد جعل الإسلام قتل النفس الواحدة بغير حق كقتل الناس جميعاً، قال الله تعالى: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾.

وقد تحامى الإسلامُ في تشريعه مبدأَ القتل، ولو كانت له أسباب مشروعة، إذا جاء في طريقه شبهة أو رِيبَة أو ظَنٌّ، حفاظاً منه على سلامة النفس الإنسانية التي بمفردها تُكوِّنُ المجتمعَ الإنساني كله، قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادرؤوا الحدود بالشبهات ما استطعتم. وما أباح الإسلام قتل النفس إلا في نطاق ضيق شديد، وجعل القتل جزاء من أتى بالجرائم والعظائم التي لا يمكن أن يمحوها إلا إبادته وإزهاق روحه، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم﴾.

هذا وقد تفنن المنتحرون قديماً وحديثاً في قتل أنفسهم أفانين كثيرة وأساليب شتى يسلكونها، ويظنون أن ما صنعوا ينقذهم مما هم واقعون فيه من محن أو مصائب، فهذا إنسان يستجره الشيطان إلى شَرَك الهوى فيطيعه، ثم يَفْوتُ عليه قصدُه، ويضيق بالأمر ذرعاً فيسرع إلى قتل نفسه يرى في ذلك برداً على كبده، وتخفيفاً مما قد نزل به من إغواء وإغراء، وهذا إنسان تاجر يقف به دولاب التجارة، أو تنزل به كارثة مالية ويحيط به الدائنون من كل جانب، فلا يرى طريقاً إلى الخلاص من كارثته إلا الانتحار تفادياً من عار الدَيْن والإفلاس، فيهوي إلى البحر فيطويه الموج ويكون جثة هامدة، وهذا إنسان يخطئه النجاح في مطلب أو مسعى أو امتحانٍ يُقدِّمُه، فيرى خير سبيل ينقذ به نفسه من هوة هذا الرسوب أو ذاك الإخفاق في مطلبه ومسعاه، أن يَتحسَّى سُمَّـاً فيقضي على روحه وحياته فيكون من الخاسرين، إلى غير ذلك من الصور والأسباب التي تدفع المنتحر إلى ارتكاب أعظم جريمة يصنعها الإنسان بيده لنفسه.

ولم يدر هؤلاء المنتحرون أن المصيبة والكارثة والفقر والإملاق والرسوب والخيبة، لا تُدفَعُ بهذا العمل أبداً، إنما تُـحَلُّ هذه المعضلات التي يسَّروا أسبابَها إلى أنفسهم بالنظر في الأسباب التي أدت إليها أولاً، وبالإيمان والصبر والشجاعة في تحصيل الخلاص منها ثانياً، فَهُمْ قد أساؤوا فَهْمَ الحياة وسلكوها من غير مسالكها السليمة، ثم ظنوا أن الحياة عسل مصفى، وظِلٌّ وارفٌ دائم، لا نَصَب فيها ولا تعب، فإذا جانَبَتْ هذا السبيل فحق الإنسان في زعمهم أن ينتحر ويودي بحياته إلى شر مصير، وما علموا أن الحياة ميدان كفاح ونضال، ومعترك خطوب ومصائب، لا يسلم إنسان فيها من مكروه أو مُكَدِّر، قال تعالى:﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾.

فمن دهمته كارثة أو مصيبة لا يليق به أن يستسلم للحزن، ويقف مكتوف اليدين يسمح بخواطر الشيطان ووساوس النفس الفاسدة تتحكم فيه، حتى يبلغ به الأمر درجة التهور والطيش، فينتحر على مذبح الجهل والضلال المبين، وما انتحاره إلا جريمة شعواء وخيانة عظمى لحياته التي هي أثمن كنز وأَنْفَسُ ذُخر ائتمنه الله عليه ليرفع كلمة الحق في الأرض ويبني مع البانين في كيان المجتمع الإنساني العظيم.

ولقد حدَّث الرسول صلى الله عليه وسلم عن رجل فيمن كان قبلنا من الناس كان به جرح يؤلمه فحزَّ يده بالسكين، فمات من جراء ذلك، فحرَّم الله عليه الجنة، روى البخاري ومسلم عن جُندُب بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان فيمن قبلكم رجل به جرح، فجزِعَ فأخذ سكيناً فحزَّ بها يده، فما رَقَأَ الدمُ حتى مات، قال الله عز وجل: بادَرَني عبدي بنفسه، حَرَّمتُ عليه الجنة.

وبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر مصير من فعل مثل هذا يوم القيامة، ليكون تذكرة وعبرة للمعتبرين، الذين يظنون أنهم بعملهم هذا قد خَلَصوا مما هم فيه إلى راحة ونجاة، روى البخاري ومسلم عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قتل نفسه بشيء في الدنيا عُذِّبَ به يوم القيامة. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من تردى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم يتردى فيها خالداً مخلداً بها أبدا، ومن تحسى سُّمَّـاً - شرب سماً - فقتل نفسه، فسُمُّهُ في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجَّأُ بها - أي يطعن بها - في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبدا. ونجد مصداق هذا في القرآن الكريم: ﴿وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرا﴾.

ولقد فهم الصحابي الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه من هذه الآية الكريمة أن الإنسان إذا أهمل رعاية نفسه ووقايتها من عوارض البرد أو المرض مثلاً فمات كان في جملة من أنذرهم الله بهذا العقاب الشديد، روى الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذات السلاسل - اسم مكان حول المدينة المنورة - احتلمتُ في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقتُ إن اغتسلتُ أن أَهلَكَ، فتيممتُ ثم صليتُ بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عمرو، صليتَ بأصحابك وأنت جُنُب؟! فقلت: يا رسول الله، إني احتلمتُ في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلتُ أن أهلَكَ، فذكرتُ قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيما﴾، فتيممتُ ثم صليت. فضحك الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً. فإقراره عليه الصلاة والسلام له على تيممه بدل الغسل، وأنه لو اغتسل بالماء البارد الذي لم يجد سواه فمات كان قاتلاً نفسه، يعطينا أروع صورة عن حكم الإسلام في لزوم المحافظة على النفس من الهلاك وإنْ جاء ذلك في طريق عبادة أو طاعة، إنَّ في ذلك لعبرة لأولى الأبصار. والسلام عليكم ورحمة الله.

من كتاب:" أيها المستمع الكريم" إعداد ومراجعة: محمد زاهد أبو غدة

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين