الاضطهاد ضريبة على المصلحين

 

للعلامة الشيخ عبد الوهاب حمودة

 

 

قلَّ أن تجد مُصلحاً أو مرشداً، أو تصادف مجاهداً فی میدان الفكر الحر والدعوة الصالحة، إلا لقيتَه قد ذاقَ من الاضطهاد ألواناً، وأصاب من العنت والشقاء ضروباً من تهكم واستهزاء، إلی سخریة وإیذاء، ومن مطاردة وتشتیت، إلی مقاومة وتشرید، لا فرق فی ذلك بین الرسل صلوات الله وسلامه علیهم، والدعاة الهادین رضی الله عنهم. وتلك سنة الله فی خلقه قد طبقها علی أنبیائه، ثم من بعدهم علی أصفیائه، فما من نبي إلا كذَّبه قومه وسخروا منه، وقاوموه وانتقموا منه، وقد سجَّل القرآن الكریم هذه السنة مراراً فی خطابه لسیدنا محمد صلوات الله وسلامه علیه، لیدخل علی نفسه التسلیة والعزاء، ویفرِّج عن صدره الضیق والحرج.
قال تعالی: [فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالكِتَابِ المُنِيرِ] {آل عمران:184} وقال تعالی: [وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ(43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ(44) ]. {الحج}..
وكلما اشتدَّ الحزن علی الرسول لاحقته الآیات بما یُبدِّد حزنه ویفرج كربه، ویردُّ إلیه صفاءَ نفسه، ویذهب بأزماتها، فتارة یذكره بما ینتظر أولئك المعاندین المكابرین من العقاب: [فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ] {يس:76}. [وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ العِزَّةَ للهِ جَمِيعًا هُو السَّمِيعُ العَلِيمُ] {يونس:65}.
وتارة یقص علیه من أحوال الأنبیاء السابقین لیأنس بهم ویقتدي بصبرهم [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ] {الأحقاف:35}.  [وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ(6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ(7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ(8)]. {الزُّخرف}.. [وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ المُرْسَلِينَ] {الأنعام:34}.
فهذه الآیات تدل علی أنه كلما شاء الله أن یكلف قوماً من المؤمنین هدایة قوم من الضالین المفسدین، ظهرت فئة تعارضهم بكل ما أوتیت من قوة، وتوقع بهم ألوان الاضطهاد والعذاب، وأن علیهم أن یتقبلوا الإیذاء ویتحملوا العذاب، فإن ما یقعون فیه من البأساء والضراء هو في الحقیقة نعمة مستورة تساعد علی اطراد تقدمهم الروحي حتى یكلل الله جهادهم بالنصر، ویختم كفاحهم بالفوز.
لما عاد صلی الله علیه وسلم من الطائف بعد أن لقي ما لقي من ثقیف وغلمانها واشتد كربه لإعراض الناس عنه، اتجه إلی الله العلي العظیم، لا لیعلن یأسه وقنوطه، فما له أن یقنط، وهو المطمئن علی المستقبل، بل لیستمد من الله العون فنزل بنخلة وهو موضع علی لیلة من مكة وقام فی جوف اللیل یصلي، فصرف الله إلیه سبعة من الجن، كما رواه الحاكم فی المستدرك، فاستمعوا إلیه وهو یقرأ سورة الجن - وقد كانت نزلت فی استماعهم له فی ابتداء الوحی فلم یشعر بهم، ثم رجعوا إلی قومهم، فنزل علیه قوله تعالی:[وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ] {الأحقاف:29}  إلی قوله تعالی:  [وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ] {الأحقاف:32} فعلم منها صلوات الله وسلامه علیه ذلك الأمر العجب، یقول (در منجم) فی كتابه «حیاة محمد»:
وماذا یبغي النبي، بعد ذلك؟ والجن یؤمنون به حین ینكر الإنس رسالته، وماذا يبغي النبي، والجن الذین یعبدهم العرب علی غیر حق یسلمون، فيا له من برهان دامغ للمشركین، وتقویة للروح المعنویة للرسول الأمین.
ونحن إذا ألقینا نظرة فی هذه الآیة، وأخذنا نتفهمها بالحس اللغوي، رأینا أن فی التعبیر بـ : (صرفنا إلیك) القصد المتوجه إلی الرسول بهذا الصرف فی مثل هذه الحالة لتطییب خاطره، وتسلیة نفسه المجاهدة، حتى تزداد اطمئنانا فی جهادها وعزما فی كفاحها.
وتعجبني فی هذا المقام لفتة لطیفة من الكاتب الأمریكی «ارفنج» فی كتابه «حیاة محمد» حیث یقول:
«هذه الزورة من الجن فیها عزاء وتسلیة لمحمد بعد رجوعه من الطائف تلك الرجعة المؤلمة، إذ فیها إشارة له إلی أنه إذا كانت دعوته وتعالیمه قد نبذت ورفضت من معشر الإنس فقد قوبلت باحترام وإعجاب من الجن عالم الذكاء الغیبی غیر المرئی».
 ثم وقعت له بعد رجوعه من الطائف حادثة الإسراء، ولا شك أن فیها ترفیهاً روحانیا، وسمواً نفسانیا، واتصالا ومشاهدات، وأنساً ونفحات، وفی كل ذلك تسلیة أي تسلیة، وعزاء أی عزاء، وكأن فی هذه الرحلة الخارقة رمزاً لرحلة أخری آتیة تهیئة لهجرة منتظرة ، فما رجع صلی الله علیه وسلم من إسرائه، حتى أخذ یتجه اتجاها جدیدا فی نشر دعوته، إلی أن ختم هذا الاتجاه بالهجرة إلی المدینة. أرأیت كیف أن الله تعالی یتولی عباده المجاهدین وجنوده المصلحین بالرعایة، ویمنحهم ما یخفف من محنهم، وینسیهم ألم ابتلائهم، ویملأ قلوبهم بأمل النجاح، ونفوسهم بلذة الانتصار.
 روی البخاري فی صحيحه عن خبَّاب بن الأرتّ، قال: شكونا إلی رسول الله صلی الله علیه وسلم وهو متوسد بردة له فی ظل الكعبة: قلنا یا رسول الله: ألا تستنصر لنا من الله عز وجل؟ قال علیه الصلاة والسلام: (كان الرجل فیمن قبلكم یحفر له فی الأرض فیجعل فیه فیجاء بالمنشار، فیوضع علی رأسه فیشق بائنتین، وما یصده ذلك عن دینه، ویمشط بأمشاط الحدید ما دون لحمه من عظم أو عصب وما یصده ذلك عن دینه. والله لیتمنّ هذا الأمر حتى یسیر الراكب من صنعاء  إلی حضرموت لا یخاف إلا الله أو الذنب علی غنمه).
ولیست هذه السنة - سنة الاضطهاد والإیذاء - وقفاً علی رسل الله وأنبیائه، بل هی مطردة فی جمیع المجاهدین لإصلاح الإنسانیة، الذین یحاربون المفسدین للنظم الصحیحة الاجتماعیة، ویكافحون شرور الطغیان، ویعملون علی هدم صروح البغي والعدوان فی أی عصر كانوا، وإلی أیة أمة انتسبوا.
فإلیك قصة سقراط: ذالك الفیلسوف الزاهد، فإن الإنسانیة المفكرة بأسرها قد أحست أثر ذلك الحكیم، وما زالت تحسه إلی هذا الزمان إحساساً عمیقا متجددا، والتاریخ نفسه شاهد علی ما نقول، فعلماء المسیحیة وآباؤها، رأوا في سقراط مبشراً بالدین المسيحي قبل ظهرره بنحو أربعمائة وسبعین سنة، وكان الإسلامیون یجلون سقراط ویمجدونه، كتب عنه الكندي الفیلسوف، رسائل كثیرة ضاعت كما ذكر ذلك ابن الندیم صاحب الفهرست، وتكلم فی إحداها عن مأساة موته، وكان (إخوان الصفاء) كذلك یضربون المثل بحیاته، وما كان فیها من عظمة ونبل، وكانوا یرون فیه «شهید الحق» الذی رضي بالقضاء والقدر ولم یخرج علی «الناموس» وكانوا یشبهون موته بموت شهداء كربلاء. فقد كان یعتقد فی نفسه أنه منوط برسالة آلهیة، وواجب علیه أن یؤدیها كاملة غیر منقوصة، وجملة تلك الرسالة أن یقنع أدعیاء المعرفة بأنهم جاهلون، وأن یسعی معهم إلی طلب العلم الصحیح الذی یستطيعون به أن یبلغوا الخیر الأسمى، ویدركوا السعادة الصحیحة.
علی أن المهمة التی اضطلع بها سقراط لم تكن ترمي فی صمیمها إلی أقل من إصلاح الدولة والجماعة الإنسانیة ولكن بدا للرؤساء أن فی تعالیمه خطراً علی سلطانهم فأهاجوا علیه العوام وأشباه العوام، وویل لمن یسبق عصرَه فكرُه، وویل لمن یقدم للناس طعاما لا تقوی علی هضمه معدهم.
تقدم باتهام سقراط ثلاثة من أعدائه، وكان المألوف إذا ذاك أن یقف للمتهم أمام القضاة باكیاً مستضعفا مسترحما، وأن یقدم زوجه وأبناءه لعلهم یثیرون فی نفوس القضاء العطف والرحمة، ولكن سقراط أبت علیه ذلك رجولته، ولم یحفل بالدفاع عن نفسه، وإنما أخذ یسخر ممن اتهموه، بل من القضاة أنفسهم، ویتوجع لما یصیب النفوس من فساد، ویود لو استطاع أن یتمم الرسالة التی بدأها، وهی تطهیر الشباب من مثل هذا الشر والفساد، ولو استرحم سقراط لظفر بالبراءة ولكنه لم یفعل، فأصدر القضاة حكمهم علیه بالموت، فتقبله راضیا فی سبیل حریة الفكر، والدفاع عن الحق الصراح.
لكن مما لا نزاع فیه أن الصورة الروحیة لذلك الفیلسوف، كانت صورة رائعة قویة، یقول فیه الشهرستانی فی كتابه «الملل والنحل» (إنه اشتغل بالزهد وریاضة النفس وتهذیب الأخلاق) ویقول فیه آخر: (كلامه فی القلوب كنسیم الریاح عند الهبوب، وكالراحة للمكروب، وأثره فی العقول والخواطر كأثر الماء فی الهواجر).
أما فی العصر الحدیث، فلنا فی الأستاذ الإمام الشیخ محمد عبده، مثل واضح لما یلقاه المصلح الاجتماعی من مقاومة، وما یصادفه من عنت: فقد كان - رحمه الله - كما قال عن نفسه فی تقریر له عن حیاته:
«وارتفع صوتي بالدعوة إلی أمرین عظیمین: تحریر الفكر من قید التقلید، وفهم الدین علی طریقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع فی كسب معارفه إلی ینابیعها الأولی، وهناك أمر آخر كنت من دعاته، والناس جمیعاً فی عمی عنه، وذلك هو التمییز بین ما للحكومة من حق الطاعة علی الشعب، وما للشعب من حق العدالة علی الحكومة. «دعونا إلی الاعتقاد بأن الحاكم وإن وجبت طاعته، هو من البشر الذین یخطئون،: وتغلبهم شهواتهم، وأنه لا یرده عن خطئه، ولا یثقف طغیان شهوته إلا نصح الأمة له بالقول والفعل. جهرنا بهذا القول والاستبداد فی عنفوانه، والظلم قابض علی صولجانه، وید الظالم من حدید، والناس له عبید أي عبید»
فإمام له هذه العقیدة، وینطوي صدره علی مثل هذا الإیمان، ثم یأخذ فی تنفیذه، والقیام علی تطبیقه، لابد أن یصیبه فی سبیل خطته الإصلاحیة ما أصابه من اضطهاد ومشقة، وسجن ونفي، وسخریة واستهزاء، وقد كان رضی الله عنه یقابل كل ذلك بصبر وجلد وثبات ودأب، حرصاً علی رسالته أن تتم، وآرائه أن تجد لها سمیعا یتلقفها، وتلامیذ یتعشقونها ویقومون علی نجاحها ولو بعد حین، ویبلغونها إلی من بعدهم جیلا بعد جیل، فإنه لا یظهر فضل الرجال إلا بمكافحة الأهوال، فمعادن الأنفس لا تصفو من شوائب الضعف فی الحق ولا تتمكن من مقعد الصدق الأهوال إلا بعد أن تعرض علی نیران المحن، وتذاب فی بواتق الفتن [أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ] {العنكبوت:2}  لذلك یبتلي الله سبحانه وتعالی عباده المصلحین بفتن المفسدین لیمحص الله الذین آمنوا ویمحق المبطلین.
وإلیك وصفاً لبعض ما لاقاه الإمام فی حیاته من شدة وعنت وتنغیص وتشتیت، وهو ضریبة المصلحین التی لابد أن یدفعوها من أنفسهم، وتؤخذ قسراً من رفاهتهم، وتقتطع من أوقات راحتهم لیتمیز الخبیث من الطیب [وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ] {محمد:4}.
كتب الأستاذ الإمام كتاباً إلی بعض أصدقائه من سجنه فی منفاه یصف فیه حاله وما بلغه من الوشایات ممن كان یعدهم من أصدقائه أو مریدیه، وهو قد كان یحسن إلیهم، وتجود نفسه بالعطف علیهم.
تقلدتني اللیالی وهی مدبرة ***** كأننی صارم فی كف منهزم
هذه حالتی: اشتد ظلام الفتن حتى تجسم تحجر بل، فأخذت صخوره من مركز الأرض إلی المحیط الأعلى، واعترضت ما بین المشرق والمغرب، وامتدت إلی القطبین، فاستحجرت فی طبقاتها طباع الناس، أو تغلبت طبیعها علی الإنسانیة فأصبحت قلوب الثقلین كالحجارة أو أشد قوة فتبارك الله أقدر الخالقین. سقطت الهمم، وخربت الذمم، وغاض ماء الوفاء، وطمست معالم الحق، وحرفت الشرائع، وبدلت القوانین، ولم یبق إلا هوی یتحكم، وشهوات تقضی وغیظ یحتدم، وخشونة تنفذ، تلك سنة القدر، [وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الخَائِنِينَ] {يوسف:52}. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .


المصدر : مجلة رسالة الإسلام السنة الرابعة العدد الأول ربيع الثاني 1371هـ


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين