يرى المسلم في هذا العصر اختلافاً كثيراً حيثما وجّه وجهه، سواء في باب مسائل الفقه من عبادات ومعاملات، أم في مناهج الدعوة، أم في غير ذلك !
ويقف بعض المسلمين أمام هذا الاختلاف الكثير حائرين مترددين، إذ أن على كل مفرق دعاة يزينونه ويستدلون له، ويلبسون ما لديهم من الباطل بشيء من الحق، فلا يكاد يبين!
وقد بين الرسول صلوات ربي وسلامه عليه السبيل وأوضح المحجة، فما تركنا إلا على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك! فأوضح الصراط المستقيم؛
وقال صلى الله عليه وسلم: "من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ" حديث صحيح لغيره، أخرجه أحمد والدارمي والترمذي وابن ماجه.
وقال عبدالله بن مسعود: "خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، وخط خطوطاً عن يمينه وشماله، ثم قال: هذا سبيل الله، وهذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: ]وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه و لاتتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله["حديث صحيح لغيره، أخرج أحمد والدارمي وصححه ابن حبان والحاكم.
قال ابن تيمية رحمه الله في نقض المنطق ص 49: "وإذا تأمل العاقل الذي يرجو لقاء الله هذا المثال، وتأمل سائر الطوائف من الخوارج، ثم المعتزلة، ثم الجهمية والرافضة، ومن أقرب منهم إلى السنة، من أهل الكلام، مثل الكرامية والكلابية والأشعرية وغيرهم، وأن كلا منهم له سبيل يخرج به عما عليه الصحابة وأهل الحديث، ويدعي أن سبيله هو الصواب؛ وجدت أنهم المراد بهذا المثال الذي ضربه المعصوم، الذي لا يتكلم عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
والعجب أن من هؤلاء من يصرح بأن عقله إذا عارضه الحديث - لاسيما في أخبار الصفات - حمل الحديث على عقله، وصرح بتقديمه على الحديث، وجعل عقله ميزاناً للحديث، فليت شعري: هل عقله هذا كان مصرَّحاً بتقديمه في الشريعة المحمدية، فيكون السبيل المأمور باتباعه؟ أم هو عقل مبتدع جاهل ضال حائر خارج عن السبيل؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله"اهـ
أخرج ابن ماجه : عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقَتْ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً وَهِيَ الْجَمَاعَةُ".
وأخرج الترمذي : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ ... وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي".
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ قَامَ فِينَا فَقَالَ أَلَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فِينَا فَقَالَ : "أَلَا إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ الْجَمَاعَة" أخرجه أحمد والدارمي وأبوداود.
فالأصل الذي يميز الصراط المستقيم عن غيره من السبل أنه يقوم على الكتاب والسنة على ضوء فهم السلف الصالح، هذا سبيل المؤمنين الذي يلزم اتباعه، طاعة لأمر الله حيث قال الله تبارك وتعالى: ] وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلّى وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً[ [النساء:115]. وطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ". وطلباً لسبيل النجاة والفكاك من التوعد بالنار حيث قال صلى الله عليه وسلم محذراً من مخالفته لما ذكر الفِرَق والافتراق : "كلها في النار إلا واحدة. قيل من هي؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي".
وهذا السبيل لا يستطيعه أهل البدع والأهواء، فإنهم يشتركون مع أهل السنة في انتحال الكتاب والسنة، ولكنهم ينقلبون على ظهورهم إذا جاء القيد الذي هو عصمة الفهم، وهو أن يتقيد الفهم للكتاب والسنة بفهم السلف الصالح!
وهذه المقالات موضوعها بيان السبيل الذي على المسلم أن يسلكه أمام هذه المفارق التي قد يقف أمامها حائراً متردداً!
وسأورد بعض الاتجاهات على سبيل التمثيل والتوضيح!
تكلمت في المقال السابق عن الحيرة التي قد تعتري المسلم أمام السبل المختلفة في شتى نواحي الحياة، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور".
وبينت أن سلوك الصراط المستقيم، الذي هو ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه هو سبيل النجاة والفكاك من النيران، والبعد عن سبل الشيطان.
وفي هذا المقال سأذكر جملة من السبل التي قد يقف المسلم أمامها حائراً يريد تمييز الصراط المستقيم فيها ليسلكه!
وقد تبين لي بعد التأمل والنظر أن لكل مجموعه من السبل والمفارق اتجاه عام يشملها، فهناك الاتجاه الدعوي، ويشمل جملة من السبل، وهناك الاتجاه الفقهي، ويشمل جملة من السبل، وهناك الاتجاه الأخلاقي ويشمل جملة من السبل، وقس على هذا...!
فمن مفارق الطرق التي يقف أمامها المسلم:
1ـ الاتجاه الفقهي، ويشتمل على عدة سبل؛
فإمّا أن يسلك المسلم سبيل المقلدة! فيقلد في دينه مطلقاً سواء كان عامياً أم لا، وسواء تبين له الدليل أم لا! بل قد يصل في هذا السبيل إلى منع النظر وغلق باب الاجتهاد، وأن التقليد هو الواجب!
وإمّا أن يسلك سبيل الاجتهاد، دون تفرقة بين العوام وطلاب العلم، فالكل عليه النظر والاجتهاد، ويعمل بعقله، وقد يصل الأمر إلى نوع من الفوضى الفقهية في الترجيح والنظر، فيصير كل شخص يجتهد وله رأي، ولديه في كل مسألة تعرض أمامه راجح ومرجوح!
وإمّا أن يسلك السبيل الذي قرره أهل العلم، الذين تبعوا سبيل المؤمنين، ولزموا ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فقالوا:
المسلم إمّا أن يكون عالماً بالحكم من الكتاب والسنة على ضوء فهم السلف الصالح، وإمّا أن يكون غير عالم، ووظيفة من لا يعلم سؤال من يعلم، دون أن يقيد سؤاله في طلب الحكم بعالم معين، فيسأل من يثق في دينه وعلمه وتقواه وورعه امتثالاً لأمر الله عزوجل: ]وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِيَ إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ. بِالْبَيّنَاتِ وَالزّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنِّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[ [النحل:43].
وأمّا العالم بأحكام الكتاب والسنة فوظيفته النظر فيهما وطلب حكم الله منهما على ضوء فهم السلف الصالح رضوان الله عليهم! فإن لم يعلم الحكم في مسألة ما، نزّل نفسه منزلة العوام الذين لا يعلمون، فيقلد عندها من يثق فيه من أهل العلم!
وعلى العامي إذا ما أجابه المفتي ـ الذي يثق في علمه وتقواه وورعه ـ على سؤاله أن يتعبد الله به، و لا يتنقل من سؤال عالم إلى عالم آخر بحثاً عن ما يوافق هواه؛ فإن هذا من اتباع الهوى والتشهي!
ونبّه أهل العلم إلى أنه ليس للعامي أن ينزل فتوى العالم لغيره على نفسه، بل لابد أن يرجع إلى العالم ويسأله عن نازلته، فإن فتوى العالم تكون بحسب الاستفتاء فقد يكون في نازلة غيره ما ليس في نازلته، وهو لا يفهم ذلك!
و لا يقال: إن على كل أحد النظر والاجتهاد في كل مسألة؛ فهذا لا يطيقه أحد، وهو تكليف بما لا يطاق، فمن أين للعامي هذا الأمر وآلته؟! بل العالم قد يعتريه في بعض الأوقات أو بعض النوازل ما يقف أمامه ـ مع ما لديه من علم الآلة ـ لا يحير فيه جواباً إلا قول لا أدري!
2ـ الاتجاه الحضاري، وله سبل ؛
فمنهم من يرى أن الحضارة والتقدم هي أن نأخذ ما عند الغرب كما هو، وأن التفسير الديني للنصوص في كل عصر بحسبه، فللقرآن تفسير في زماننا غير تفسيره أيام الصحابة وكذا أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم!
ومنهم من يرى أن الحضارة بدعة، فينبذ كل ما جاءت به، فلا يركب السيارات، و لا يستفيد من التكنولوجيا الحديثة بشيء، فهو إلى اليوم يركب الخيل والبغال وسيلة مواصلات، و لا يستعمل التلفون، و لا ... .
والصراط المستقيم أن يقبل من الحضارة الغربية ما وافق الدين أو لم يخالفه، أمّا ما يخالف الدين فلا اعتبار له، فلا نأخذ من حضارة الغرب ما يتنافى مع الإسلام، أو ما هو من خصائصهم في حياتهم، إذ الرسول صلى الله عليه وسلم حذرنا من التشبه بالكفار، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ" أخرجه أحمد وأبوداود، واللفظ لأحمد، وهو حديث حسن!
وقد جاء عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: "مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا" أخرجه الشيخان واللفظ للبخاري.
تكلمت في المقال السابق عن بعض السبل التي قد يقف أمامها المسلم حائراً، وبينت ما هو الصراط المستقيم فيها الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وفي هذا المقال أواصل ذكر اتجاهات أخرى، فأقول مستيعناً بالله:
3ـ الاتجاه الدعوي، ويشتمل على عدة سبل؛
فهناك من لا يري سبيلاً للدعوة إلا عن طريق الجماعات، فذهب يقول بالأحزاب، ويعقد عليها الولاء والبراء، وفي تصوره أن العمل الإسلامي لابد أن يكون عن طريق جماعة، وصار يبرر للجماعات ويستدل على مشروعيتها!
وهناك من لا يرى العمل الجماعي مطلقاً ويرى أن الدعوة فردية وفردية فقط؛ ويرد الأعمال الجماعية مطلقاً!
والصراط المستقيم أن الجماعة ليست شرطاً في العمل الدعوي، وأن العمل الإسلامي يقوم به الأفراد ويقوم به الجماعات طالما أنه سالم عن الإنتماءات الحزبية التي يحصل عليها الولاء والبراء، وطالما أنه بعيد عن التفرق والتشرذم، بل تعاون على البر والتقوى قال الله تبارك وتعالى: ]وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرَّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ[.
أمّا أن يفرق الناس فيصير كل فرد منهم له حزب وجماعة، وهذه الجماعة تعادي هذه، وكل حزب بما لديهم فرحون فهذه صورة بعيدة عن صورة المجتمع المسلم، الذي وصفه الرسول صلى ال
]وأنهذا صراطي مستقيماً فاتبعوه و لاتتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به،لعلكم تتقون[[الأنعام:151].
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول