الاستكانة لله تعالى

 

(ربما فتح لك باب الطاعة وما فتح لك باب القبول، وربما قضى عليك الذنب فكان سبب الوصول. معصية أورثت ذلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً).

 قديماً وحديثاً ضاق العلماء الراسخون بنفر من أهل العبادة يحسنون الشكل ولا يحسنون الموضوع، يكثرون التصويب ولا يصيبون الهدف، يقيمون الظواهر بدقة ولا يدركون من الحقائق شيئاً.

 هؤلاء الناس كانوا قديماً وحديثاً حجَّة على الدين لا سنداً له، وعوائق تصد عن العبادات لا شواهد تدعو لها وتغري بها.

 يُصلون، أفتدري كيف خرجت صلاتهم منهم؟. (خرجت ـ كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في وصف صاحبها ـ وهي سوداء مظلمة، تقول ضيَّعك الله كما ضيعتني، حتى إذا كانت حيث شاء الله، لُفَّت كما يُلف الثوب الخَلِق، ثم ضُرب بها وجهه).

 ويصومون، أفتدري ما قيمة صيامهم؟. هي كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر).

 إنَّ العبادة جسم وروح، والقبول الإلهي يكون لمن قدمها حيَّة لا ميِّتة. ولذلك رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقبل الله من عبد عملاً حتى يشهد قلبه مع بدنه).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: (مثل الصلاة المكتوبة كمثل الميزان، من أوفى استوفى).

وإحسان الشكل قليل الغناء على صاحبه وعلى الناس.

 أعرف بعض الفلاحين تصيبه الجنابة فيذهب إلى إحدى الترع فيغمر جسمه في الماء ثم يخرج منه وقد طهر!. فإذا ما اقترب منك شممت منه رائحة منفرة لما تراكم على جسمه من دَرَن وعرق، ما جدوى هذا الغُسل الذي لم يُذهب وسخاً، ولم يضف على صاحبه وضاءة، ولم يمهد له بين الناس قبولاً؟.

 كذلك الطاعات التي يؤديها بعض الناس بهذا الأسلوب، ربما استكملت المراسيم الشكلية، ولكنها فقدت حقيقتها وثمرتها، ومن ثم لا تحظى بشيء طائل عند الله.

 والأساس في الطاعة أنها تجعل الإنسان يتحقق بأوصاف عبوديته بين يدي ربه، ومع صنوف الخلق. والعبودية تنافي الصَّلَف والغطرسة والجفوة؛ لأنها تواضع ولين جانب وسهولة خلق.

 وقد تجد ناساً من الموسومين بالعبادة يتذرَّعون بما يؤدون من طاعات للاستعلاء على الخلق، والغضِّ من الآخرين، على حين تجد ناساً ليسوا على غرارهم أسلس قياداً، وألين عريكة، وربما ارتكب أحدهم الذنب فيفزع لارتكابه، وينكسر فؤاده مع الله لما فرَّط في جنبه.

ولعل استشعاره الخزي على فعلته، وإكنانه الألم في أوبته يجعلانه أدنى إلى الحق وأقرب إلى مثوبة الله بهذا الذنب، من أولئك الذين لم يَستفيدوا من طاعتهم إلا الجلافة والقسوة.

 وغريب أن يقع في السلوك الإنساني هذا التفاوت ولكنه موقف الناس مما أُمروا به ونهوا عنه!.

 إنَّ الله شرع العبادات ليتواضع العباد بها لا ليستكبروا، وليستقبلوا بها رحمة، ثم يَلْقَوا بها سائر الخلق وفى قلوبهم رِقَّة، وفى نفوسهم وَدَاعة، وفى سيرتهم طيبة.

 فإذا وجدت من العابدين من ينقطع دون هذه الغاية، فهو لم يعبد حقاً، ولم يدرك قبولاً، وقد كره الله المعاصي وحرَّمها على الناس، وسعَّر جهنم لمقترفيها،  ومع ذلك فإنَّ بعض الناس تكون المعصية وخزاً لضميره النائم وحزناً ينقذف في قلبه فإذا هو دامع العين مُتهيب لبطش الله به.

 إنَّ تهيب هذا العاصي أفضل من كبرياء ذلكم العابد.

وعلى ضوء هذا الكلام تفهم ما حدَّث به رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان!  فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى عليَّ ألَّا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك)!

ولا يذهبنَّ أحدٌ إلى أنَّ هذا تهوين من شأنِ العبادة، كلا إنَّه حماية للعبادة الحقيقية، وزراية على العبادة المزيَّفة، وتعليم للعباد ألا يغتروا بأنفسهم وبما قدَّموا.

 وتحريض لهم أن يتعلقوا بذات الله سبحانه، وأن يكونوا كما وصف الصالحين من عباده: [وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ] {المؤمنون:60} 

 كما أن الذنوب لا يمكن أن تكون موضع رضا، بل هي سبب حقيقي لخزي الدنيا وعذاب الآخرة.

 ولكن الذنوب التي تؤرِّق أصحابها، وتقضُّ مضاجعهم، وتسرع بهم إلى المتاب، لا تعدُّ ذنوباً بعد ما غسلها الندم، وتحولَّت إلى حاد يحث الركاب إلى رب الأرباب.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر: كتاب الجانب العاطفي من الإسلام

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين