الاستغناء نوعان متعذر وممكن


الاستغناء عن الناس المُتَعذِّر؛ كَتَحَصُّلِكَ على رغيف الخبز، فإن ثمةَ من ابتاع الأرض، وهذبها، وسقاها، وزرع البذرة فيها، وعَنِيَ بها، وحصدها، ونقلَها، وطَحَنَهَا، وعجنَهَا، وخبزَهَا، فيتعذر الاستغناء عن كل من سخره الله لك !

 أما الشاق الممكن؛ كألَّا تلتمس المعونة من أحد، ولا تستدين، ولا تشكو أمرك، وتلجأ لربك فقط في مُصَابِكَ، فهذا عِزٌ بَاهِر، وفضلٌ زَاخِر، وإلا وَكَلَكَ الله لمن توجهت له!

ودليل ذلك ما أخرجه الحاكم في مستدركه بسند حسن من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ، وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ " الحاكم / المستدرك على الصحيحين (4/326).

 

وقد مَسَّ الحَزَنُ يعقوبَ فلم يفزع إلا لله وهتف قائلًا: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86]، وقد قيل لنبينا صلى الله عليه وسلم: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8]، فَصَيَّرهَا نصيحةً أهداها لابن عباس م بقوله: " إِذَا سَألْتَ فَاسأَلِ الله، وإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ باللهِ "، ولأبي ذر رضي الله عنه " لاَ تَسْأَلِ النَّاسَ شَيْئًا "!

 

استشعار الاستغناء عن الخلق:

إن الله خلقنا، وهو أعلم بنا مِنَّا، فلما أوحى لنبينا أن من تمام عبوديتنا ألا نسأل الناس شيئًا، وقد نص في كتابه أنه لم يكلف نفسًا إلا وسعها، علمنا أن الاستغناء عن الناس أمرٌ مقدورٌ، وإن كان شاقًا معسورًا !

اضرع إلى اللـه لا للنـاس     واقنع  بعزٍ ولو كان في اليـاس

واستغن عن كل ذي رحـم     فإن الغني من استغنى عن الناس

 

أخرج أبو داود في سننه بسند صحيح من حديث ابن عمر م أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللهِ فَأعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَ بِاللهِ فأَعْطُوهُ، وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ، وَمَنْ صَنَعَ إلَيْكُمْ مَعْرُوفاً فَكَافِئُوهُ، فَإنْ لَمْ تَجِدُوا ما تُكَافِئُونَهُ بِهِ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَد كَافَأْتُمُوهُ " سنن أبي داود، رقم الحديث: (1672) ! فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء جزاءً يُكَافئ المعروف، وفي هذا إشارة لا تخفى إلى أن العبد يُمكِنُه أن يستغنى عن الناس في كل حاجة حتى الدعاء، ولذا أطل علينا ابن تيمية بعبقريته الفذة يقول:

إذا قال الأخ لأخيه: ادعُ لي، فإن الأصل ألا يَقْصِدَ الاستفادة من دعاء أخيه؛ إذ التوجه إلى الله أصلٌ عنده، وإنما يَقْصِدُ حصول الداعي بِمِثْلِ دعائِه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو لأَخِيْهِ بِظَهْرِ الغَيْبِ بِدَعْوَةٍ إِلَّا وَكَّلَ اللهُ بِهِ مَلَكًا كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيْهِ بِدَعْوَةٍ قَال المَلَك: آَمِين وَلَكَ بِمثل " وإن كان ينتفعُ باستجابة الله دعاء الداعي له !

سَمِعَت عائشةُ رضي الله عنها الحديث؛ فأثبتت أنها تعلمت رسالته جيدًا من زوجها النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت إذا أرسلت صدقة لقوم توصي رسولها بوصية نادرة قائلة: اسمع ما يدعون لنا به؛ لِنَدعُو لهم بمثل ما دَعَوْا لنا، ويبقى أَجرُنَا عَلَى الله !


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين