الاستبداد ورصيد الفطرة

 

الاستبداد من أكبر الشرور التي ابتليت بها الإنسانية، من يوم مولدها إلى يومنا هذا، لما تحمل في سلة مخاطرها من حزم السوء، ومعاني الرذيلة، وركائز العدوان على الإنسان وحقوقه، ومنها ذلك السجن الرهيب الذي تعيشه هذه النفس البشرية، بسبب الاستبداد، فسجن العلماء بالاستبداد، وتعطلت جوانب الحضارة بفعل الاستبداد، وخربت البلاد بسبب الاستبداد، وتراجعت الثقافة لأن الاستبداد حاصرها، ومنعها من التنفس، وضعفت التنمية، لأن الاستبداد خنق المبدعين، وحارب المفكرين، وضيق على المنتجين، وحاصر العاملين.

 

الاستبداد سبب دمار الأمة، وضياع حاضرها، ومستقبلها المشرق مرهون بالقضاء على الاستبداد، فلا نهوض للأمة مع ثقافة الاستبداد.

 

بفعل الاستبداد، قتل خيار الأمة، مادياً ومعنوياً، وحكيت تجارب في مجال حقوق الإنسان، يندى لها الجبين. ( اقرأ القوقعة مثالاً).

 

لأن الاستبداد قائم، هاجر ملايين الناس عن ديارهم، فكان خيرهم لغير أهلهم، وكأن الأمر مخطط لهذا، حتى نصل إليه.

 

جناية الاستبداد على الحياة، لها نواتج لا توصف، ومخاطر لا تحصر، وباختصار (الاستبداد مدمر الحياة).

 

**************************

 

الإنسان الذي ولد على الفطرة (يولد المولود على الفطرة)، يرفض الاستبداد، بكل صوره وأشكاله وألوانه، لأنه معاكس للفطرة، وعدو لها.

 

لأن طبيعة الفطرة التي فطر الله الناس عليها، حب الحرية، وحب الانطلاق في فضاءاتها المنضبطة، وهذا الأمر مسكون في أعماق هذه الفطرة, وصدق الفاروق عندما قال:

 

(متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً).

 

والمرء يكره الاستبداد بفطرته، ويعشق الحرية، لأنها تحقق إنسانيته، كيف لا! وهي جزء مهم في تشكيل هذه الشخصية الإنسانية.

 

والإنسان مدني بطبعه، ومن لازم هذا أن يمارس شعب الحياة، بلازم هذه الصفة، ومن لازمها مثلاً، أن يعبر عن آرائه واجتهاداته، فإذا جاء من يقمعه ويكمم فمه، فلا شك أنه أوقعه، بما يخالف فطرته، وهنا يكون الألم، ويحدث الصراع المرير.

 

ومما جبل عليه الإنسان، أنه يحب أن يكون طليقاً من الأسر والقيد، فلما يحبس تتعطل مواهبه، وتضيق شرايين إنتاجه.

 

من هنا، تجد أن المرء مهما استمرأ الذل، وألف العبودية للبشر، واستكان لفعل الطاغوت، واستسلم للمستبد، لا بد في يوم من الأيام، أن ينتفض على جلاديه، وحابسي أنفاسه، والأمثلة على هذا كثيرة في القديم والحديث.

 

فمعادلة العبد والسيد، وجدلية حدوث الفعل بينهما، في نظم الاستبداد لم ولن يكتب لها البقاء، فالعبد لا يبقى عبداً مدى الحياة، والسيد ! ستأتي عليه عاتيات نهوض الجماهير، مع استيقاظ لهذه الفطرة التي لا تموت، مهما تكدس عليها من ركام الضياع والشرود.

 

وفي هذا درس للمستبدين، أن يكفوا فالأيام دول، والدهر قلِب، ودوام الحال من المحال، فطوبى لمن كسر قيود الاستبداد، وعاش على مائدة الحرية.

 

جربت البشرية، كثيراً من الثنائيات في هذا المجال، وخلال نظم مختلفة، وكانت النتيجة ما ذكرنا.

 

وأعتقد أن مجتمعات ( الأرستقراطيين والبروليتاريا) معلومة نتائجها، وكذلك تحالف (الإقطاع ورجال الكنيسة) الذي كانت نهايته: (اشنقوا آخر قسيس، بأمعاء آخر ملك).

 

وغير ذلك من صور وأشكال وتجارب.

 

قد يتحالف اليمين مع اليسار، وقد تتداخل مصالح الحداثيين مع المستبدين، وقد تتجمع أيديولجيات متناقضة، من أجل تكريس الاستبداد، لكن النهاية ستكون لرصيد الفطرة، وانتفاضة الجماهير وصحوتها غلابة.

 

وتبقى صورة الإسلام المشرقة، عنواناً عظيماً، في وضع قواعد الحرية، ودحر الاستبداد، ومواكبة الفطرة، من خلال فقه دقيق للعمل الاجتماعي، والحراك الشعبي، والفعل السياسي، والأحكام السلطانية.

 

فكان الشهود الحضاري، في تاريخ هذه الأمة – وفي المجالات كافة –خير برهان على، صحة هذه الأمر.

 

ورحم الله سيد قطب، لما جعل عنوان (رصيد الفطرة) واحداً من تراجم كتيبه الرائع (هذا الدين).

 

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ? فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ? لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ? ذَ?لِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَ?كِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)(الروم:30)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين