الاستبداد السياسي والانحراف الأخلاقي .

د. فوزي زايد السعود
في الأحوال الطبيعية يكون هناك عقدٌ اجتماعيٌّ بين الحاكم والرعيّة، يتم بموجبه اختيار الحاكم بناءً على معايير محددة: شرعية وشخصية. وعليه واجبات تجاه الأمة، وعليها حقوق نحوه، وتصبح الأمة مشاركةً له في التبعة والمسؤولية «أطيعوني ما أطعت الله فيكم» و»كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيّته»، وعندما تختلّ الموازين وينفرط العقد يحدث الخلل، وتتعفّن الحياة، ويبدأ الصراع، فلا الحاكم يحب شعبه ولا الشعب منسجما مع حاكمه، مما ينتج عنه ما يسمى (الاستبداد السياسي) من طرف الحاكم وزبانيته، ويبدأ العدوان والطغيان والفساد المالي والإداري.. الذي يوصل إلى إفقار الأمة وإذلالها وهدر طاقاتها.
 
وهذا الاستبداد لا ينمو ولا يترعرع إلا إذا توفرت له أجواء توصل إلى ما وصل إليه؛ منها: ترك المحاسبة (الأمر بالمعروف)، وشعور الأمة بالوهن واليأس والاستسلام، بالإضافة إلى قيام بعض الجهات بالتبرير والتأويل الشرعي الذي ساعد على إضفاء الشرعية على الحاكم المستبد وانفراده عن الأمة، مثلاً: (لو مات كيف تكون حال البلاد؟!)، فيصبح الحاكم الأوحد ومبعوث العناية الإلهية والقائد الملهم والمعلم المفكر الهادي إلى سواء السبيل والطريق المستقيم، وهذا يؤدي بطبيعة الحال إلى الغلوّ في طاعة الحاكم حتى وصل الأمر إلى تقبيل يديْه ورجليْه!!، وفي الوقت الذي يبحث هذا المستبدّ على الدعم الخارجي لسلطته، فإنه في نفس الوقت ينظر إلى شعبه أنه فاقد الأهليّة وقاصر عن ممارسة الشورى والديمقراطية.
 
ويحاول المستبد وبكلّ قوة أن يصنع على عينه (إعلاماً) يهدف لتزييف الوعي وشلّ إرادة الأمة، والتضييق على مؤسسات المجتمع المدني وإضعاف دور المؤسسات السياسية والمدنية، وأخيراً لا نبالغ إذا قلنا إن إشاعة الفوضى الأخلاقية وإغراق المجتمع بمزيد من الانحراف الأخلاقي وإشاعة أجواء من اللذائذ والمتع المحرمة والشهوات النسائية بخاصة مما يطيل في عمر الاستبداد، ولذلك جاء في الحديث الذي رواه أحمد ومسلم في الصحيح: «صنفان من أهل النار لمْ أرَهما بعد: رجالٌ معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساءُ كاسيات عاريات مائلات مميلات على رؤوسهن كأسنمة البُخت المائلة، لا يدخلْنَ الجنّة ولا يجدنَ ريحها، وإن ريحها ليوجدُ من مسيرة كذا وكذا».
 
وهذا الحديث يشير إلى علاقةٍ بين الانحرافيْن: الاستبداد والقمع، وتهييج الغرائز وذهاب العفّة والقيم؛ فهنا «قومٌ معهم سياط كأذناب البقر» وصفٌ لقومٍ أفظاظ غلاظ، وسياط، وغضب في عيونهم، وما أن تسمع آذانهم كلمة (اضرب)، (اهجم)، فعقولهم استحوذت عليها أسماعهم فلا عقل إلا الأذن، كما أن (أسياط)، (أذناب) والكلّ جمْع تدل على أن ذلك وسلة نظام مستبدّ باطش وليس حالة فردية.
 
وأما الانحراف الثاني (الصنف الثاني): فهو النساء اللواتي ينشرنَ الرذيلة بوسائل كثيرة ذكرها الحديث النبوي.
 
ولكنّ السؤال المطروح الذي يجعلنا نفكّر مليّاً هو: ما العلاقة بين السياط وأذناب البقر وبين النساء الكاسيات، وبخاصة أن الحديث جمع بينهما «صنفان من أهل النار لم أرهما» والجواب يمكن أن نستنتج بعض الوجوه والقواسم المشتركة منها:
 
* الإذلال والامتهان: فالضرب بالسياط إهدار للآدمية، والعري والمجون وما يؤدي إليْه من فواحش يجلب الذلَّ والعار.
 
* الصنفان يدلّان على انحراف الأمة، الأول: (فساد العلاقة بين الحاكم والشعب) وهذا فساد سياسيّ، والثاني: (فساد العلاقة الأسرية بين الرجل والمرأة وفقدان التربية) وهذا فساد اجتماعيّ وأخلاقيّ.
 
* علاقة عكسية: فإشاعة ممارسة القهر والكبت من الأنظمة يؤدي إلى تسيّب واختلال وفوضى في القيم، والعلّامة القرضاوي يشير إلى أن الانحراف الأخلاقي مقدمة إلى الاستبداد السياسي.
 
* علاقة تلازمية: فالحاكم المستبدّ يعمل على نشر الانحلال والإباحية وإطلاق الغرائز لتكون النتيجة: إلهاء، تفريغ، تميّع، تشويه، طمس الهوية. والمترفون المرتبطون بالحاكم المستبد (أصحاب الأموال والثراء) لا يبحثون إلا عن مصادر تنمي رؤوس أموالهم ولا قيمة لكرامةٍ أو أخلاقٍ أو وطن؛ لذلك لا نستغرب إذا هلك وطنٌ سادَهُ مُتْرَفوه (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) [الإسراء، 16.
 
وأخيراً؛ فإن الأمة بأخلاقها وتحصين جبهتها الداخلية، وهذه دعوة إلى كل مؤسساتنا الوطنية التي لها تماس مباشر بالشباب (بنين وبنات) ولكل أجهزة الدولة أن تعطي أولوية قصوى للمحافظة على أخلاقنا وقيمنا وسلوكنا الحضاري لكيْ ينتفي من بلادنا كل صور وأشكال الاستبداد السياسي.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين