الاختلاط والإيمان بين الشرق والغرب

في 12.7.2019 أذاعت شبكة CNN هذا الخبر:

"رَفَض مرشَّحٌ جمهوريٌّ لمنصب حاكم ولاية المسيسيبي (الأمريكيّة) إجراء حوارٍ مع إحدى الصحفيّات؛ ما لم تُحضر معها من يُرافقها. وقالت الصحفيّة لاريسون كامبل (40 عاماً) إنّها طلبت إجراء مقابلةٍ مع المرشَّح روبرت فوستر داخل سيّارته لمدّة 15 دقيقة، وذلك في أثناء جولةٍ انتخابيّةٍ يقوم بها، لكنّه فاجأها بالرفض، لأنّها امرأة. وقال فوستر: لقد اتّخذتُ هذا القرار كي لا أثير أيّة شكوكٍ قد تزعج زوجتي أو تضرّ بعلاقتي بها، ووجود مراسلةٍ معي (في السيّارة) يمكن أن يسبّب لي وضعاً محرجاً. وأضاف: أنا رجلٌ متزوّج، وقد تعهّدت لزوجتي بالوفاء. وكان جزءٌ من الاتفاق الذي توصّلنا إليه أيضاً خلال زواجنا؛ هو أنّنا لن نكون وحدنا مع شخصٍ من الجنس الآخر طوال زواجنا. وكتب فوستر على تويتر تغريدةً قال فيها: إنّ إيماني المسيحيّ، وكذلك وُعُودي لزوجتي، لا يسمحان لي بفعل شيءٍ كهذا. وقالت شبكة BBC الإخباريّة إنّ فوستر (36 عاماً)، استشهد برجل الدين الراحل بيلي غرايام الذي قال: إنّه لا يَسمح لنفسه بأن ينفرد بأيّة امرأةٍ أخرى غير زوجته.

وفي الوقت نفسه؛ قال نائب الرئيس الأمريكيّ مايك بنس (نائب الرئيس دونالد ترامب): إنّه لن يأكل وحده مع امرأةٍ أخرى غير زوجته. وقال: أنا لن أسمح لنفسي بالتواجد مع امرأةٍ في وضعٍ يثير اتهاماتٍ ضدّي. لا بدّ من حضور شخصٍ ثالثٍ معنا للحيلولة دون ذلك.

وقالت الصحفيّة كامبل بعد الحادثة: إنّ قرار روبرت فوستر مجرّد تحيُّزٍ ضدّ النساء، ولا تفسير له غير ذلك. وأضافت: إنّ رفضه إجراء مقابلةٍ معي وحدي؛ دليلٌ على أنّه يرى في المرأة كياناً جنسيّاً في المقام الأوّل، ثمّ بعد ذلك صحفيّة".

والواقع أنّ تعبير الصحفيّة كامبل "كياناً جنسيّاً" يعيدنا إلى واقع المرأة الفعليّ كما أصبح عليه اليوم في الأفلام والمجلّات والصحف، وفي الإعلانات التجاريّة خاصّةً. فعندما تُعرض المرأة عليك في معظم الواجهات الإعلاميّة والإعلانيّة؛ تنسى أنّك أمام "كيانٍ إنسانيٍّ" أساسيٍّ ومحترمٍ في حياتنا، له الدور الأوّل في بناء مجتمعنا، وفي إضفاء الدفء والحيويّة والحنان على حياتنا، وله الباع الأطول في تربية أبنائنا وبناتنا، وكذلك في "صناعة العبقريّات" التي ستقود أجيالنا الصاعدة في مختلف ميادين الحياة. إنّك لا ترى أمامك، حقّاً، وأنت تنظر إلى هذا "الكيان" في وسائل إعلامنا وإعلاننا، إلّا "كياناً جنسيّاً" يريد أن يجرّدك، كما جرّدوه، من أيّ شيءٍ ذي قيمةٍ إنسانيّةٍ كريمةٍ ونبيلة، لا شيء إلّا الجنس.

لقد وُظّف جسد المرأة أسوأ توظيف، بكلّ ما يحمله من جوانب حسّيةٍ بدائيّةٍ، ليجتذب المشاهدين والقرّاء، وليستثير فيهم الغرائز الحيوانيّة، ولينحرف بعقولهم وأحاسيسهم بعيداً عن كلّ الأهداف الإنسانيّة، وعن كلّ ما من شأنه أن يغذّي في نفوسهم الاحترام للمرأة، المرأة الأمّ، والأخت، والابنة، والعمّة، والخالة، والجَدّة، والمعلّمة، والمربّية، والطبيبة، والممرّضة، وصانعة العبقريّات، حتّى ليخيّل إليك أنّ الإعلان، أيّ إعلان، يجب أن يعني امرأة، بل امرأةً عاريةً، وفي وضع الاستسلام للمشاهد، أوّلاً. فإذا بحثت عن الرجل فيه؛ فلن تجده على الأغلب، وقليلاً ما تجده، إلّا "كياناً إنسانيّاً" كما يجب أن يكون.

إنّ هذه الحقيقة، وقد طغت على كلّ أبعاد حياتنا الثقافيّة بحيث لم يعد أحدٌ قادراً على إنكارها، هي الخزّان اللغويّ الذي يَمتَح منه أفكارَهم وألفاظَهم أولئك الذي يتّهمون كلّ من يحاول الحفاظ على سلامة "كيان" المرأة الطبيعيّ؛ بأنّه إنّما يجعل منها، بهذا الحرص عليها، وعلى احترامها، والإشفاق على سمعتها، وسلامتها، ومستقبلها، محضَ "كيانٍ جنسيّ"؛ بعد أن تَوارتِ المفاهيمُ الأخلاقيّة والقِيم السماويّة بحياءٍ خلف طوفان المفاهيم المادّية والحسّية التي جعلت من الإنسان، رجلاً كان أو امرأةً، كياناً أرضيّاً ترابيّاً لا قيمة إنسانيّةً له، ولا علاقة له بالروح أو بالسماء.

ومن حقّ المرء اليوم، وهو يسمع عبارة "إيماني المسيحيّ" من مسؤولٍ غربيّ، أن يتساءل بدهشة: أيجري هذا حقّاً في الغرب؟ وهل بقي مكانٌ لمثل هذا النوع من التفكير في وجدان مسؤولٍ غربيّ، وفي دولةٍ كبيرةٍ مثل أمريكا؟

بل ربّما بات من حقّ المرء أن يتساءل: هل سنجد مسؤولاً في الشرق يتحدّث بمثل هذه الصراحة والشفافية والوضوح في اعتذاره؟ أم سيحاول، لو حدث أن وُجد مثلُ هذا المسؤول، أن يبحث عن مخرجٍ "أكثر دبلوماسيّةً" لمثل هذا النوع من الاعتذارات الواقعيّة، والصريحة، والمباشرة، لأنّ المشكلة مع كثيرٍ من الحاملات للِواء النسويّة؛ أنّهنّ، في الوقت نفسه، من الحاملات لإطلاق الحرّيات العامّة، والحرّيات الشخصيّة، وحرّية الرأي، وحرّية التعبير، ولكن حين يصل الأمر إلى حرّية معارضتهنّ في آرائهنّ، وإلى ما يمسّ دعواهنّ هذه بسوء، يتوقّف مفعول هذه الحرّيات، ويُعْنِتْنَ أولئك الذين يقفون على الجانب الآخر، ويتّهمنَهُم بشتّى صنوف التهم التي اتُّهم بها روبرت فوستر.

أمّا العبارات الني استخدمتها كامبل، مثل "تحيّز ضدّ النساء" و "يرى في المرأة كياناً جنسيّاً في المقام الأول"، فقد اعتادت الآذان، في الشرق وفي الغرب على السواء، سماع هذا النوع من الخطاب في مثل هذا النوع من المواقف، وعلى ألسنة هذا النوع من المتحيّزات.

إذا لم تكن المرأة "كياناً جنسيّاً في المقام الأوّل" – حسب تعبير الصحفيّة المذكورة - فإنّ هذا لا ينفي في النهاية حقيقةَ أنّها، مهما تعدّدت الكيانات التي تنتمي إليها، "كيانٌ جنسيّ" أيضاً، شأنها في هذا شأن الرجل، أيّاً كان مقام الرجل أو درجته الاجتماعيّة، وأنّ تجاهل هذه الحقيقة عندما يخلو هذان الكيانان الجنسيّان المتجاذبان "منفردين"؛ سيكون أشبه بوضع النار مع البارود في بوتقةٍ واحدة، مهما حاولنا تحسين أخلاق النار، ومهما لمّعنا شخصيّة البارود.

*             *             *

يردّد البريطانيّون هنا قصّةً يعدّونها نكتةً، وإن كانت في رأيي تمثّل الواقع الدينيّ في الغرب خير تمثيل.

إنّها عن راهبةٍ كانت تعيش في أحد الأديرة. وصادف أن أقيمت ورشة بناءٍ بجانب الدير، فكانت الراهبة تسمع من خلال نافذتها المطلّة على الورشة أحاديثَ العمّال ولغتَهم الخشنة، وكلماتهم البذيئة يتبادلونها فيما بينهم.

كانت الراهبة تتأذّى من سماع هذه اللغة كلّ يوم، وفكّرت مرّةً في أن تنزل إليهم وتنصحهم وتعظهم وتَهديهم إلى سواء الصراط، ولكن كيف السبيل للدخول في حديثٍ معهم أوّلاً؟

وقرّرت يوماً أن تحمل "سندويشتها" وتنزل إليهم؛ فتحيّيهم، وتتناولها معهم أثناء فترة غدائهم. إنّها أنسب وقتٍ لمثل هذا الحديث.

وحين وصلتْ إليهم كانت مجموعةٌ منهم تفترش الأرض وهم يتناولون وجبتهم السريعة، فحيّتهم بأدب، وافتتحت الحديث معهم قائلةً: هل تعرفون يسوع المسيح؟

فوجئ العمّال بعبارتها، وتلفّتوا بارتباكٍ يمنةً ويسرة، كلٌّ منهم ينظر في وجه الآخر، ثمّ ما لبث كبيرهم، بعد تردّد، أن نادى عاملاً آخر كان على مسافة أمتارٍ منهم: هيه.. هل تعرف يسوع المسيح؟ ولم تكن تقاطيع وجه هذا بأقلّ استغراباً من تقاطيع زملائه، وما لبث أن رفع رأسه لينادي عاملاً آخر أخذ مكانه على قمّة إحدى الرافعات الضخمة:

-       هيه.. هل تعرف يسوع المسيح؟

-       مَن يسأل عنه؟

-       إنّها زوجته.. أتت له بالغداء... 

هذه ليست مجرّد نكتةٍ عابرة، فهي صادرةٌ من عمق المجتمع البريطانيّ والغربيّ عامّةً. إنّها تجسّد في الواقع المسافة الشاسعة بين هذا المجتمع؛ وبين الكنيسة، والمسيح، والله.

ويؤكّد هذه الحقيقة استفتاءُ القناة الثانية في التلفزيون البريطانيّ BBC 2[1] وعرفنا منه أن أكثر البريطانيين (54 %) لا يؤمنون بالله، وأنّ الذين يؤدّون الصلاة من بين الـ 46 % الباقين لا يتجاوز 65 %،[2] بينما ترتفع نسبة المؤمنين بالله عند المسلمين في إندونيسيا إلى 98% وفي لبنان إلى 96%، وترتفع نسبة المصلّين بين هؤلاء إلى 85 %، على حين تنخفض إلى 41 % عند اليهود في إسرائيل. وكانت نسبة من أجاب بـ (نعم) من المؤمنين بين أبناء الشرائع الثلاث على سؤال (هل أنت مستعدٌّ للموت في سبيل إلهك؟) كما يلي:

-       المسلمون: 85 %

-       المسيحيّون: 59 %

-       اليهود (في إسرائيل): 35 %

 



[1] بثّته في 26/2/2004.

[2] وهي أرقامٌ جاءت متقاربةً مع أرقام معظم الدول الأوروبّية.


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين