إن همة القائد غالباً ما تكون أعلى من همم المرؤوسين والأتباع, وقد تنطلق به همته وروحه أحياناً نحو الهدف الذي يصبوا إليه فيصل إليه قبل أتباعه, إلا أن مهمته كقائدٍ تتعطل, ويتحول من قائد إلى فرد مجتهدٍ صاحب علم وهمة, فالقائد مهمته السير بالقوم إلى الهدف وليس سبقهم إليه رغم أنَّ روحه وهمته تمكنه من فعل ذلك, إلا أن هذه المسألة مناطة بالعلماء والأفراد الجيدين وليست مناطة بالقادة.

 

فبينما يسبق العالم الناس إلى خير ما, يظل القائد يدير أمر الأتباع فتارةً يسير أمامهم وتارةً خلفهم حتى يراعي سير أضعفهم, وإذا تخلى عن مهمته كقائد بدأت تنزل عليه المشكلات ويضل الأتباع الطريق, فيضطر للعودة إلى مكانه لمعالجة هذه المشاكل من خلال إجرائية إدارية مضبوطةٍ ومرتبة بخطوات محددة.

 

وفي قصة موسى –عليه السلام- عندما سبق قومه إلى لقاء الله وأوكل عليهم أخاه هارون, ففتنهم السامري بعجله, نستخرج اجرائية إدارية معتبرة في حل المشاكل, نختصرها بالأتي:

 

فلما سبق موسى قومه, عاتبه الرب سبحانه فقال: "وما أعجلك عن قومك يا موسى" فقال موسى "عجلت إليك ربي لترضى", فأبلغه الله سبحانه أن قومه تعرضوا لفتنة بسبب تركه لهم وهي فتنة اتباع عجل السامري.

 

فعاد موسى إلى قومه يعتريه الغضب من قومه بسبب ما ألحقوا به من تفويت لقاءه بالرب سبحانه وتكليمه, وأسفاً على ما قصر في حق الله سبحانه بسباق قومه والتعجل إلى لقاء الله.

 

فلما واجه موسى –عليه السلام- قومه, عاد إلى استخدام عقلية القائد بعد أن اكتشف أن تخليه عنها لوقتٍ قصير -ولو كان في الخير- تسبب بفتنة عظيمة لقومه, فالقائد لا يجب أن يبحث عن حظ نفسه حتى لو كان ذلك الحظ شوقٌ إلى الله سبحانه, أو تقوى, فبدأ بتوصيف المشكلة كخطوة أولى فسأل واستفسر ووصّف حتى صار عنده تصور عن كامل المشكلة, ثم حدد مفاصل القضية, عند السامري الذي تولى أمر الفتنة وعند هارون أخيه –عليه السلام – الذي خلفه في قومه وكانت مهمته متابعة هذه القضايا, وفي الأداة التي هي العجل, فبدأ بوكيله على شؤون الأتباع –هارون عليه السلام- فعاتبه عتاباً شديداً وحمّله كامل المسؤولية عماحصل, إلا أن هارون -المدير المحنك- وصاحب العقل الراجح والذي لم يكن يتمتع بهيبة القيادة التي تمتع بها موسى عليه السلام كما يظهر من الآيات حيث رفض بنو اسرائيل متابعته لهم وأبلغوه أنهم لن يستمعوا إلا إلى موسى وأمره, أبلغه هارون أنه لما فوّت متابعة بني اسرائيل للهدف الذي خرجوا من أجله, حاول الحفاظ على الواقع وخشي أن يتهدور الوضع أكثر فيصطف الناس في صفين فيقتتلا, فأدار الأزمة وأحاطها دون أن يحل المشكلة الأصلية.

 

ولما اقتنع موسى بكلام هارون وحجته القوية التي تدل على حنكةٍ وتفكيرٍ استراتيجي عظيم, توجه نحو السامري فسائله وتابعه فيما فعل واستفسر منه وبيّن للناس غشه لهم, ثم بتر أداة المشكلة من جذورها بحرقه للعجل ورميه في النهر, ولما حُلّت المشكلة وعاد الأتباع للاصطفاف خلف القائد, كان لابد من إعادة توجيه البوصلة وضبطها بكلمات بسيطة مختصرة سهلة الفهم" إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو, وسع كل شيء علماً".

 

قائدٌ أدرك خطأه بسباق قومه للحظات إلى الخير, فالتزمهم حتى خاض بهم البحر فيما بعد, وبنى لهم نموذجاً في القيادة يتفوق على النموذج الفرعوني الذي اشتهر بالجرأة والشجاعة, فنافسه حتى غلبه في أكثر من موضع هذا أحدها, ثم أرسى اجرائية لحل المشاكل بخطوات متتابعة بسيطة, تتقدم فيها شخصية القائد الفذ وتظهر فيها قدرته على إدارة المشكلات حتى بترها من أصولها.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين