الاجتهاد والتقليد -2-

 

من المعلوم بداهةً عنـد الفقهاء أنَّ لله تعالى في كل حادثة وكل فعل من أفعال العباد حكماً شرعياً، فإن لم يكن في القرآن الكريم أوفي السنَّة الصحيحة أوفي الإجماع، فلابدَّ وأن يكون في اجتهاد المجتهدين؛ لأنَّه لا يخلو فعل من الأفعال من أن يتعلَّق به حكمٌ من الأحكام الخمسة، وإلا لاختلط الحلالُ بالحرام، والمأمور به بالمنهي عنه، وأصبح الناس في حالة تشبه حالة الفترة التي انقطع فيها وجودُ رسولٍ من الرسل يبيِّن شرع الله تعالى لعباده، وهذا قول لا يَستسيغه مسلم ولا يستطيع فقيه أن يقول به، خصوصاً في شريعة هي خاتمة الشرائع، ورسولها خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، كتب الله تعالى لها البقاء والخلود إلى أن يرثَ اللهُ سبحانه الأرضَ ومن عليها، وهو خير الوارثين.

وذلك مما يُوجبُ علينا ونحن بصدد الكلام على الاجتهاد والتقليد أن نُبيِّن في وضوح - بمقدار ما نستطيع - حكم الاجتهاد؛ وهذا أمر ضروري يُميط لنا اللثام عن هـذه القضية حتى يسفر وجهها وضاءَ الجبين، ليتبين لكلِّ مُنصف الحدَّ الذي يجب عليه أن يأخذ به إن أراد الفلاح، أو ينكص عنه إن ألمَّ به فزع من الشيطان أو طاف بخياله وهم من الأوهام، فزلت قدمه عن سلوك محجَّة الأمان والاطمئنان: [إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ] {القصص:56}.

وللعلماء في حكم الاجتهاد تقسيم وحصر يجمل بنا أن نسوقه حتى لا تتشعب المسالك على القارئ؛ فتراهم تارةً يجعلون الاجتهاد من فروض الكفايات، ومن الواضح في تعريف فرض الكفاية أنَّه إذا توفَّر عليه وقام بتحصيله واحد أو أكثر ممن كان من أهله سقط الفرض عن الجميع، وإن قصَّر فيه أهل عصر أَثِموا وعصوا بتركه، ووقع الجمع في خطر عظيم وإثم كبير، لأنهم انحرفوا عن جادَّة الصواب، وقصَّروا فيما تتطلبه الحياة، ويقتضيه نظام المجتمع، وتسبَّبوا في جعل حياتهم فوضَى لا تَستند إلى دعائمَ تقيم أركانها وتحفظ كيانها كأمة أو جماعة تريد تحقيق حكمة الله تعالى من خلافة البشر في الأرض، وبسط جناح الرحمة على الناس. 

فالأحكام الشرعيَّة الاجتهاديَّة ناشئة منه ومُترتبة عليه ترتب المسبب على السبب، فإذا لم يوجد السبب فُقد المسبب، ففي فقد الاجتهاد فقد للأحكام، واختلاط للحلال بالحرام، وفي وجود المجتهد عصمة للأمَّة، وملاذ للمكلَّفين وبيان لأحكام الله في أفعال عباده المؤمنين. 

ولخطورة هذا البحث وتطلُّع كل محبٍّ لمعرفة أحكام أفعاله قام فقهاؤنا بتلمُّس العلاج والوقوف على حقيقة الأمر في هذه القضية؛ لأنَّها تنادي وتلح في أن تعرف منزلتها وترمق مكانتها عند العلماء - وقد رأيناهم ينظرون إليها نظرات مختلفة، فيعرضها بعض المؤلفين على الوجه الآتي: 

(اختلف العلماء في جواز خلوِّ العصر عن المجتهدين أو عدم خلوه، فذهب جمع إلى أنَّه لا يجوز خلوُّ الزمان عن مجتهد قائم بحجج الله تعالى يُبيِّن للناس ما نزل إليهم، وبه قالت الحنابلة، ويدلُّ على ذلك ما صحَّ عنه عليه الصلاة والسلام من قوله (ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة). 

وقد حكى الزركشي في (البحر) عن الأكثرين: أنَّه يجوز خلو العصر عن المجتهد، وبه جزم الرازي والرافعي والغزالي. 

وقال بعضُ الأصوليين: (لن تخلوَ الأرضُ من قائمٍ لله تعالى بالحجَّة في كل وقت ودهر وزمان) ورجَّح ذلك ابنُ دقيقِ العيد.

والذي أراه وأظنَّ أنَّ القواعدَ العامَّة للشريعة الإسلامية، وتجدد الحوادث ونشوء النوازل وتاريخ التشريع الإسلامي وما كان يجتهد فيه الخلفاء الراشدون ومن بعدهم، وتاريخ التشريع في القرون الأولى وفي أيام مجد الإسلام وعزته وقوته، كل أولئك يقتضي ضرورة عدم خلو العصر من مجتهد. 

ووقوف العلماء مكتوفي الأيدي، خُرْسَ الألسن لا يَستطيعون إجابة السائلين ولا بيان أحكام رب العالمين، لا يَرضاه مُنصف ولا يَستسيغه مفكر. 

وتارة أخرى يصبح الاجتهاد فرضَ عين على المجتهد، وضربة لازب لا يَستطيع الفكاك عنها، ويكون توليه عن الإجابة وكفه عن الاجتهاد شبيهاً بتولي الجندي عن القتال عند لقاء العدو، لأنَّ كلاً من المجتهدِ والمجاهد في تلك الحالة قد أهمل استعمال ما أنعم الله تعالى به عليه وما أعدَّه له، فالجندي المجاهد أُعِدَّ للطعن والنِّزَال واستعمال قوته الجسمانيَّة، والفقيه قد قعد عن استعمال ما كرَّمه الله تعالى به من رجاحة العقل، وفطانة اللبِّ، وكل واحد منهما قد خان الأمانة التي ائتمنه الله تعالى عليها، فهو بعيدٌ عن رحمة الله قريب من غضبه. 

والحالة التي تتعيَّن على المجتهد أن يقوم ببذل جهده لاستنباط حكم الله تعالى في الحادثة التي عُرضت عليه ?ي: ما إذا لم يكن هناك إلا مجتهد واحد، ويخاف السائل فوت الحادثة التي نزلت به وعدم وقوفه على حكمها. 

وطوراً آخر يصبح الاجتهاد مَندوباً إذا قام به المجتهد قبل نزول الحادثة ووقوع النازلة تحصيلاً لأحكام الحوادث قبل نزولها.

وقد تصدَّى كثير من الفقهاء مُستعملين قرائحهم مفكرين فيما سيجدُّ من الحوادث اعتقاداً منهم أنَّ الفلك دائر، وأنَّ الزمان مُتجدِّد، وأنَّ الليالي من الزمان حبالى تلدن وقائع وتنجبن حوادث لم يرَ الزمان الماضي مثلها، فهم يعدون العدة ويتخذون للأمر ما يتطلبه، فهم أشبه بالجنود الذين يتصوَّرون معاركَ لم يَسبق لهم مثلها، ويفكرون في حروب لم يركضوا في ميدانها، فيأخذون في الأهبة والاستعداد لمواجهة العمل في كل ميـدان. 

وهؤلاء المجتهدون قد قاموا باستنباط كثيرٍ من أحكام الحوادث قبل وقوعها ودوَّنوها في كتبهم، فجاء من بعدهم ووقف على تلك الذخيرة فأسعفته في كثير من الأحيان وأراحته من عناء البحث، وعناء التنقيب والاستقراء والتطلع إلى استنباط الأحكام.

وطوراً آخر يصير الاجتهاد محرَّماً إذا كان اجتهاداً في مُقابلة دليل قاطع من نص أو إجماع.

وقد عُرف للمجتهدين منذ عُرف الاجتهاد مدرستان مُتمايزتان لكل منها ميدان تعمل فيه وتجد وتجتهد في تمكين دعائمه وتوضيح معالمه: فهناك مدرسة الحديث، وهناك مدرسة الرأي، فمالك رضي الله عنه في المدينة يتزعَّم مدرسة الحديث، يتمسَّك بالعمل به ولا يحيد عنه، ويضمُّ إلى تلك المدرسة وينخرط في سلكها ويدور في فلكها أصحاب الشافعي، وأصحاب سفيان الثوري، وأصحاب أحمد بن حنبل، وغيرهم ممن ركن إلى استنباط الأحكام من الأحاديث.

ومنشأ وصف هذه المدرسة بالمدرسة الحديثية أنَّ جُلَّ عنايتها وغاية قصدها تحصيل الأحاديث وجمع الأخبار، وتتبُّع الآثار، والتوفر على الإحاطة على قدر الطاقة بالسنة النبوية قولية كانت أو فعلية أو تقريرية. 

فلعمل أهل المدينة عندها مكانة ملحوظة، ومنزلة رفيعة، فلا سلوك للقياس في هذه المدرسة عنـد وجود خبر أو أثر. حتى لقد روي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: (إذا وجدتم لي مذهباً ووجدتم خبراً على خلاف مذهبي فاعلموا أنَّ مذهبي الخبر). 

وسلك تلاميذه ومن بعدهم ممن اتبعوا مذهبه ذلك المنهج، فهم قـد حصروا اجتهادهم فيما نُقل عنه توجيهاً واستنباطاً دون خروج عن قواعده، أو زيادة على أصوله التي بنى عليها مذهبه. 

ولمدرسة الرأي بالعراق زعيمها أبو حنيفة النعمان بن ثابت وأصحابه الذين أخذوا طريقتهم عنه. وقد كان شعارُهم الذي اشتهر عنهم وأصبح لازمة من لوازمهم قول أبي حنيفة: (علمنا هذا رأي، وهذا أحسنُ ما قدرنا عليه، فمن قدر على غير ذلك فله ما رأى ولنا ما رأينا).

وقد أخطأ بعضُ الناس في فهم مدلول هذه العبارة، وفهم منها أنَّ أبا حنيفة يرفض الأحاديث كلها جملة وتفصيلاً، والمطَّلع على قواعد أبي حنيفة في استنباط الأحكام أنَّ للسنَّة مكانتها السامية عنده، بل يراه قد تمسَّك ببعض الأحاديث المرسلة لبعض المحدثين على حين أنَّ غيره من مدرسة الحديث يَرفضها، فأبو حنيفة في الواقع مُتمسِّك بالأحاديث حريص عليها حفيظ على معانيها وما دلَّت عليه، لكنه كان بعيد النظر، واسع الأفق ينظر إلى المستقبل وتجدد الحوادث، فأعدَّ لها العُدَّة إذ كان لا يغيب عنه ولا يغرب عن فكره أنَّ النصوص من الكتاب والسنة محدودة محصورة، وما تأتي به الأيام وما تلده الليالي من النازلات غير محصور، فكيف توفِّي هذه النصوص المحصورة أحكام الحوادث التي لا تَتناهى ولا تنحصر في حد معين. 

وسُميِّت هذه المدرسة بذلك الاسم لأنَّ أكثر همِّها وأعظم عنايتها واستفراغ جُهدها كان في تحصيل وجه القياس، والمعنى المستنبط من الأحكام المنصوصة وبناء الحوادث عليها.

وقد كان للحريَّة الفكرية التي جعلها أبو حنيفة شِعاراً لمذهبه أثرٌ عظيم في أصحابه وتلاميذه، فزادت المذهب خصباً ونمواً وقوة ربَّما كانت هي السبب في أن أصبح هذا المذهب قوي العارضة، مَكين الحجَّة قادراً على مُواجهة الحوادث وإخضاعها للأحكام الشرعيَّة وللقواعد الأصوليَّة، وربما كانت هي السبب في ظهور أصحاب أبي حنيفة وإلباسهم ثوب الاجتهاد المستقلِّ في بعض المسائل. وكتب الفقه الحنفي مليئة بأقوال ترجح فيها رأي الصاحبين لملائمته للحياة ومُناسبته لها.

وبعد أن بسطنا القول في حكم الاجتهاد، ووجوب قيام مجتهد في كل عصر، نذكِّر كل من ألقي على عَاتقهم عبء هذه الشريعة، بأنَّ من الواجب ألا يغفل عن إعداد العُدَّة وتهيئة الفرصة والأخذ بالوسائل القريبة والبعيدة وجمع شمل العلماء في جميع البلاد الإسلاميَّة وتوحيد كلمتهم حتى يبقى سُلطان هذه الشريعة وحتى يوفي لهذه الأمانة حقها، والله المستعان وهو على كل شيء قدير.

 وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة الأزهر، المجلد السابع والعشرون، 1صفر 1375 - العدد 2).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين