الاجتهاد والتقليد -1-

 

 

يُثير البحثَ حول الاجتهاد والتقليد الفينة بعد الفينة فريقٌ من الناس ظانينَ أنَّ الاجتهاد والتقليد ليس لهما حدود، ولا سور حصين يَمنع تسلُّق كل من لم تتوافر فيه هذه الشروط. 

وقد يخيَّل أحياناً لبعض الناس أنَّ مَعَالم الاجتهاد قد زَالت، وأنَّ طريقه قد انطمست، فيخترع لنفسه طريقاً يَرسمها، ويحدِّدها بالاجتهاد، ويَبني أحكامَه عليها، ومثل هـذا - ولا شك - قد حاد عن الجادَّة، وانحرف عن المحجَّة، وتاه في بيداء الوهم والخيال. فهو طبيب يعالج المرضى بلا عِلم ولا تجربة، لم تتهيَّأ له الوسائل لمهمته، ومثل هذا كالنبات الخبيث لا ينبت إلا في الأرض الخبيثة، فأولى للمجتمع الصالح والبيئات العلميَّة الحيَّة أن تتخلَّص منه حتى تتقي عدواه، وتحفظ الناس من شروره وبلواه، فهو ضرر لا نفعَ فيه، وشرٌّ لا خير فيه، وداء عُضَال لا دواء له، وعبء ثقيل لا يُستطاع حمله. 

وقد آثرت لهذه المناسبة كشف طريق الاجتهاد، وطريق التقليد، وتبيين محل الاجتهاد، ومتى يكون التقليد ومتى يصح، وتفصيل شروط الاجتهاد والتقليد، ليهْلِك من هلك عن بَيِّنة ويحيا من حيَّ عن بيِّنة من أمرهم، ويَسيرون على طريق سوي حتى لا تَلعب بعقولهم الأهواء ولا تهزُّهم أعاصير الأدعياء. 

ولما كان تفاوت الناس في فهمم وإدراكهم للأمور حالة طبيعيَّة لا اختلاف فيه ولا امتراء، لزم من ذلك تفاوتهم في إدراك الأحكام، والوقوف على مصادرها الشرعية، فمنهم من يصل إلى الحكم بعد بحثٍ في النصوص ومدلولاتها والألفاظ ومعانيها، وهؤلاء يسمون المجتهدين، ومنهم من لا يستطيع النظر في النصوص، ولا الوصول إلى إدراك الأحكام، وهؤلاء يُسمَّون المقَلِّدين. 

والاجتهاد في اللغة مأخوذ من الجُهد - بضم الجيم – وهو المشقَّة والطاقة، وعند الأصوليين استنفاد الوسْع في طلب الظنِّ بحكم من الأحكام الشرعية على وجه يُدرك المجتهد من نفسه العجز عن المزيد عليه، فالمجتهد هو الفقيه المستفرغ لوسعه لتحصيل ظنٍّ بحكم شرعي.

 وليس خافياً على كل من مَارس فناً من الفنون، أو عِلْماً من العلوم، أو حرفةً من الحرف، أنَّ وصف الممارس لهذه الأشياء بصفة منها لا يصل إليه إلا بعد طول مُعاناة ومُزاولة، ورياضة طويلة لهذا الفنِّ أو العلم، ولابدَّ أن تحصل لصاحب الفن تجارب عديدة، وتعرض له مشاكل كثيرة يحاول بنفسه وضع الحلول لها، ويلمُّ بكيفية معالجتها، وهذا بعينه ما اشترطه الأصوليون في المجتهد إذ قالوا: (لابدَّ للمجتهد من حصول مَلَكة يَقتدر بها على استخراج الأحكام من مَآخِذِها).

ومن هذه الجملة القصيرة في مَبْناها، الغزيرة في مَعْناها الذي يُوحي به الواقع والحس والمشاهدة، يتبين أنَّه ليس من الحكمة ولا من العقل أن يذهب مريض يَلتمس العلاج عند من لا يعرف الطب ولم تكن عنده مَلَكة به، بل ليس من الحصافة أن يذهب من يبغي نوعاً خاصاً من النجارة إلى من لا يحذقها، ولم تكن هذه النجارة الخاصة ملكة له، وهذه قضية قد فُرغ منها عند أولي الأحلام والنهى، وعند من يَعرفون الأمور على وجوهها من أهل العلم والعرفان، وضابط هذا كله ما أرشدنا إليه القرآن الكريم بقوله تعالى: [فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ] {النحل:43}.

وبعد هـذا نعود إلى الميدان الفسيح الذي يَتبارى فيه المجتهدون، وتنحصر فيه دائرة أبحاثهم وجولاتهم، وذلك المجال هو الآن وبعد عصر النبوة: الكتاب الكريم، والسُّنة الصحيحة، والإجماع، والقياس، فهي محل البحث للعقول المستنيرة التي توفِّر لأهلها شرائط الاجتهاد، وقد سلك هذا الطريق أقوام تمرَّست عقولهم، وتدرَّبت أفئدتهم على أساليب اللغة العربية، وفهم أوضاعها، ودلالات ألفاظها الصريحة والظاهرة، والخفيَّة ونحوها، وألمُّوا بالسنَّة الصحيحة إلماماً يؤهِّلهم لدرجة الاجتهاد، وأحاطوا بمواقع الإجماع إحاطةً تكفهم من البحث والاجتهاد في الأحكام التي أجمع عليها، ونضجت قرائحهم نضوجاً يسمو بهم إلى إدراك الحكم في تشريع الأحكام المنصوص عليها، وإدراك الارتباط والجامع بين هـذه الأحكام وغيرها من الحوادث التي لم تَرِدْ نصوص فيها، ثم تفهم ما نُصَّ عليه في ما لم يُنص عليه ونقله إليه. 

وبذلك المنهاج الواضح، والدستور المحكم، والضابط الشامل، يظلُّ مَعين استنباط الأحكام مُتدفِّقاً مُتفجِّراً لا يَنضب، ولا يجفُّ ماءُ حياته، ولا تفنى عناصر وجوده، ولا يغلق بابه أمام من طَرَقه، ولا يحرم من استعطاه. 

وقد تعرَّضت الكتب الأصوليَّة لبسط شروط المجتهد، وتحديد كلِّ شرط منها، حتى لا يتسابقَ في مَيدانه من يكبو جوادُ عقله، ويخبو أوارُ فِكْره، وتتبلَّد قريحته، وأول هذه الشروط وأحراها بالتدبُّر والإمعان، معرفة قدر صالح من اللغـة يمكِّن المجتهد من فهم لغات العرب، والتمييز بين الألفاظ الوضعيَّة، والألفاظ الاستعاريَّة، والنص، والظاهر، والعام، والخاص، والمطلق، والمقيَّد، والمجمل، والمفصَّل، وفحوى الخطاب، ومفهوم الكلام، وما يدلُّ على مفهومه بالمطابقة، وما يدلُّ بالتضمُّن، وما يدلُّ بالاستتباع، والذي دعا الأصوليين إلى تحميل هذا الشرط كل هذه القيود، وإحاطته بهذه السلسلة صعبة الحلقات إنَّما هو أخذ العدَّة، واستيفاء الوسائل التي تشبه الآلة لكل صنعة من الصنائع، وكل حِرْفة من الحِرَف، أو مهنة من المهن، وقد قيل: (من لم يُحكِم الآلة والأداة، لم يصل إلى تمام الصنعة). 

ويذهب الغزالي في مُسْتَصْفَاهُ، إلى أنَّ عددَ آياتِ الأحكام التي يَلزم المجتهدُ معرفتَها خمسمائة آية، ولم يشترطْ حِفْظها عن ظهر قلب بل يكفي أن يكون المجتهدُ عالماً بمواضعها بحيث يَستطيع أن يحصل على الآية التي يحتاج إليها في وقت الحاجة. 

وهـذا الشرط يَبْدو هَيِّناً سهلاً، وعسيراً صعباً، في وقت واحد. فهو يبدو يَسيراً سهلاً لمن لم يحطْ خُبْراً بلغـة العرب، ولم يرَ بحارَها الزاخرة، وأمواجها المتلاطمة التي لا يستطيع أن يسيرَ فوق لُجَّتِها إلا كلُّ ربان ماهر خبير بمسالك البحار، فمثل هذا الدخيل على لغة العرب مأفون العقل يخبطُ خبطَ العشواء لا يَدري مَواضع أقدامه، ولا مزالق أخطائه. 

ويبدو هذا الشرط عَسيراً صعباً، وفرساً شموساً لا يَستطيع اعتلاءَه إلا كل فارس اشتدَّت شَكيمته، وقويت عَزيمته، وأحاط خُبراً بلغة العرب، وتمرَّس بأساليبها، فسلس له قِيَادها، وجلس على أَريكتها، وأخذ بناصيتها، يفهم تصريفَ القول، وتنوُّع الأساليب، ويُميز بين الصريح منها والكناية، ويلم بجيد التعابير، ورفيع الأساليب. 

ومثل هذا يَعرف أين يضعُ قدمه، وأين يَسير، وكيف يَفْهم، وكيف يُعبِّر، وكيف يجيد الخطاب ويتصرَّف في القول. 

وقد أطلنا بعضَ الإطالة في هذا الشرط لنضع حداً فاصلاً، وأعلاماً واضحة، بين رأيين اشتجرت بينهما الخصومة، واشتدَّ الجدل، وحمي الوطيس، حتى أدَّى النزاع بينهما إلى الحيرة والاضطراب، وبلبلة الأفكار في أمر الاجتهاد، وفتح بابه أو غلقه، ووجود مجتهد في كل عصر أو عدم وجوده، وبالتالي أدَّى إلى أنَّ الحوادث الطارئة والنوازل المستجدَّة، هل تستطيع الشريعة الإسلاميَّة أن تحكم فيها بما يُؤدِّي إليه اجتهاد المجتهد على فَرْض وُجوده في كل عصرٍ وزمان، أم تقف الشريعة مكتوفة الأيدي، عاجزةً عن أن تحكم في هذه الحوادث لعدم وُجود مجتهد يستطيع أن يحكم فيها بما يُؤدِّي إليه اجتهاده. 

وثاني الشروط: معرفة تَفسير القرآن خصوصاً ما يتعلَّق منه بالأحكام، وما ورد من الآثار في معاني الآيات وما روي عن الصحابة المعتبرين من أهل التفسير، وكيف سلكوا مناهجها، وأي معنى فهموا من مدارجها. 

ولو جهل تفسير سائر الآيات التي تتعلَّق بالمواعظ والقصص، قيل: لم يضره ذلك في الاجتهاد، فإنَّ من الصحابة رضي الله عنه من كان لا يَدري تلك المواعظ، ولم يتعلم بعد جميع القرآن، وقد كان يُعدُّ من أهل الاجتهاد.

ثالثها: معرفة الأحاديث، والفرق بين الأحكام، فمعرفة الأخبار بمتونها وأسانيدها، والإحاطة بأحوال النقلة والرواة، عدولها وثقاتها، ومطعونها ومردودها، والإحاطة بالوقائع الخاصَّة فيها وما هو عام ورد في حادثة خاصة، وما هو خاص عمم في الكل حكمه، ثم الفرق بين الواجب، والندب، والإباحة، والحظر، والكراهة، حتى لا يشذ عن وجه من هذه الوجوه، ولا يختلط عليه موضوع بموضوع، كل ذلك لازم للمجتهد ليكون محيطاً بالسنَّة على وجه يمكنه من الاجتهاد. 

واكتفى الغزالي من السنَّة بمعرفة الأحاديث التي تتعلَّق بالأحكام، ولم يشترطْ حفظها بل تكفي استطاعة الرجوع إليها عند الحاجة. وقيل: يكفيه من السنة خمسمائة حديث، وضعف هذا القول بأنَّ الأحاديث التي تؤخذ منها الأحكام الشرعية ألوف مؤلفة. وقال ابن العربي في المحصول هي ثلاثة آلاف. وقال أحمد بن حنبل: الأصول التي يَدور عليها العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تكون ألفاً ومائتين. وقال الغزالي وجماعة من الأصوليين: يكفيه مثل سنن أبي داود، ومعرفة السنن للبيهقي مما يجمع أحاديث الأحكام. 

ونازعه النووي قائلاً: (لا يصحُّ التمثيل بسنن أبي داود فإنها لم تستوعب، وكم في البخاري ومسلم من حديث حكمي ليس فيها)!. كما نازعه ابن دقيق العيد قائلاً: (إنَّ كلام أهل العلم في هذا الباب من قبيل الإفراط أو التفريط، والحق الذي لا شكَّ فيه ولا شبهة أنَّ المجتهد لابدَّ أن يكون عالماً بما اشتملت عليه مجاميع السنة التي صنَّفها أهل الفن كالأمهات الست، وما يلحق بها، والكتب التي التزم مصنفوها الصِّحَّة. ولا نشترط في هذا أن تكون محفوظة له، مُستحضرة في ذهنه، بل يكون ممن يتمكن من استخراجها من مَواضعها بالبحث عند الحاجة إلى ذلك لتمييز الصحيح منها، والحسن، والضعيف. 

وكذا يتمكَّن بالبحث في كتب الجرح والتعديل من معرفة حال الرجال، وما يوجب الجرح، وما لا يُوجبه من الأسباب، وما هو مقبول منها، وما هو مردود، وما هو قادح من العِلَل، وما ليس بقادح. 

را بعاً: معرفة مواقع إجماع الصحابة والتابعين، وتابعي التابعين من السلف الصالحين حتى لا يقع اجتهاده في مخالفة إجماع، وليس بلازم أن يحفظ جميع مواقع الإجماع والخلاف، بل كل مسألة يفتي فيها ينبغي أن يعلم أنَّ فتواه ليست مخالفة للإجماع.

خامساً: أن يكون قادراً على الوصول إلى مواضع الأقيسة، وكيفية النظر فيها، من طلب أصل في أول الأمر، ثم طلب معنى يُستنبط منه عِلَّة الحكم فيعلق الحكم عليه، وبذلك يستطيع إلحاق الفرع بالأصل لوجود العِلَّة المشتركة بينهما.

فهذه الشروط الخمسة لابد من مُراعاتها حتى يكون المجتهد مجتهداً واجب الاتباع، ويجب على العامي تقليده، فلو أثبتت الأحكام بغير هذا الطريق، كانت أحكاماً مُرسلة نابعة للهوى، ليست صادرة من الشارع، فإذا حصَّل المجتهد هذه المعارف ساغ له الاجتهاد، ويكون الحكم الذي أدَّى إليه اجتهاده سائغاً في الشرع، ووجب على العامي تقليده والأخذ بفتواه.

ومن غريب أمر المثقفين فينا أنَّهم يضعون حواجزَ مَنيعة، وحدوداً مَكينة، وأسواراً ثابتة، لكل علم، ولكلِّ فن من الفنون التي يقوم بالتخصص فيها طائفة مُعيَّنة، فتراهم يرمون بالجهل والادِّعاء كلَّ من حاول الخوض والتكلم في علم لم يكن من أهله، ولا مُتخصصاً فيه، على حين أنَّ الخوض في العلوم الشرعيَّة أصبح مُباحاً لمن ليس من أهله، ولم يكن متخصصاً فيه، بحجَّة أنَّ الشريعة مباحة للجميع، وليست قاصرة على من يُسمَّون رجال الشرع، ورجال الدين. 

وهذه مُغالطة صريحة، ومحاجة غريبة، لم تسلك سلك المعقول، ولم تسرْ على طريق المنطق. فالشريعة مباحة لكل أحد، وكل فنٍّ من الفنون مُباح لكل أحد، إذا ما توفَّرت له شروط الدخول والبحث في هذا الفن أو العلم. 

فالطب مُباح للجميع، والجنديَّة مُباحة لجميع، فلا يجوز لدجَّال غير ملم بالطب أن يتعرَّض لعلاج المرضى، أو يجوز لمن لم يتدرَّب على الفنون العسكريَّة أن يخرج إلى ميدان القتال، والدفاع عن الأوطان، وهل يقول عاقل بذلك؟ أم يجبُ الحَجْر على الطبيب الدجَّال، والجاهل بفنون الحرب من أن يمارس كل منهما ما يريد أن يمارسه، وأن يعمل ما يريد عمله؟

ولعلَّ من في قلوبهم حبُّ الشهرة، والظهور والتكلم والكتابة والقول في كل ميدان أن يلتزموا الحدود، وأن يعملوا بقول الله تعالى: [وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا] {الإسراء:36}.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة الأزهر، المجلد السادس والعشرون، 1 ذي القعدة 1374 - العدد 19).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين