الاجتهاد في العمل السياسي

عبد العزيز كحيل
بدأ الأمل في استئناف الحياة الإسلامية يحدو الأمّة بعد ظهور انحياز أغلبية أفرادها للمشروع الإسلامي كلّما أُتيح لهم أن تختاروا بحرية ونزاهة، ومع وصول التنظيمات الإسلامية إلى السلطة في عدد من البلاد العربية وتوقّع امتداد ذلك على نحو واسع – بإذن الله – في الفترة المقبلة فسنكون أمام حاجة ماسّة مستعجلة إلى إحياء معالم السياسة الشرعية التي اندرست منذ عقود من الزمن بفعل الهجمة العلمانية التغريبية الشرسة، وهذا يتطلّب إمداد علماء الدين لرجال السياسة والحكم بكمّ هائل من الاجتهادات العصرية القوية المتينة، مراعين أمرين اثنين:
 
-         الانطلاق من مبدأ سيادة الشريعة والعمل الدؤوب على العودة إليها والتحرّك في إطارها وأرجائها، على أن تكون الأولوية للحقائق بدل الشعارات ، ويكون التركيز على المقاصد والمعاني لا على الألفاظ والمباني.
 
-         التحلّي بقدر كبير جدًّا من الحنكة والحكمة والحصافة والمرونة – من طرف العلماء والساسة والدعاة – لتفادي الاستعجال من جهة، وللثبات أمام مؤامرات الخصوم وتحرّكهم الحثيث إعلاميًا وسياسيًا وفكريًا وخارجيًا لتشويه المشروع الإسلامي وإعاقة العاملين له عن خدمته وإنجازه ومتابعته.
 
·       مرحلة جديدة: إنّ الزمن لم يعُد زمنَ الشعارات والحشد والتجييش بقدر ما أصبح وقتَ البرامج التفصيلية والخطط المُحكمَة في مجالات السياسة والاقتصاد والمال والتربية والعلاقات الخارجية ونحوها، ثمّ السعي الواعي البصير المُحكَم لتجسيدها وفق قواعد المرحلية والتدرّج، وسيكون القائمون على المشروع – من القاعدة إلى القمّة – وجهًا لوجه مع المستعجلين من جهة والمتربّصين من جهة أخرى، ممّا يعرّضهم لعَنَت شديد يحتاجون معه – بالإضافة إلى زاد الصبر الجميل  والتحمّل القوي – إلى ثروة فقهية تُصدر عن علماء فحول ثقات ويحتضنها قادة مخلصون متمرّسون، لالتزام المنهج وفهم المشكلات والوقائع وحسن التعامل معها وتقديم الإجابات والحلول المناسبة خدمةً لقضايا الأمة مع الانسجام الكامل مع مقتضيات الانتماء والاختيار الشعبي.
 
ونحبّ في هذا الإطار أن نتناول بشيء من التفصيل موضعين متلازمين هما:
-         الاجتهاد في العمل السياسي.
-         إحياء المصالح المرسلة.
 
الاجتهاد في العمل السياسي
·       مع السياسة الشرعية: تتميّز السياسة الشرعية من حيث الأداء بأنّها قربة إلى الله تندرج في مسعى الخلافة في الأرض وعمارة الكون، وتختلف من هذا الوجه عن السياسة المتعارف عليها بين الأمم و التي لا تعدو كونَها واسطة للوصول إلى السلطة لتنفيذ برنامج وضعي، يستبيح أصحابها كلّ الوسائل لبلوغ أغراضهم ،لا يحتكمون في ذلك إلاّ إلى القانون – الذي يمكن التحايل عليه بألف طريقة – ولا يقيمون وزنا للأخلاق والضمائر، لكنّنا نجد في المقابل كثيرا من أصحاب المشروع الإسلامي لا يملكون رؤية واضحة عن الممارسة السياسية في العصر الحاضر بسبب الغبش في التفكير والتنظير واستصحاب أشكال ممارسات الماضي كأنها شرع ملزم، فقد أثّرت قوالب الرؤية الماضوية والضوابط الاجتهادية على العقل المسلم المعاصر فحوّل – ذهنيًّا على الأقلّ -  العمل السياسي إلى طقوس دينية، أي تطبيق آية قرآنية هنا وحديث نبوي هناك، وفق ممارسة ظاهرية حرفية تقفز على مقتضيات الحال والعصر والمصلحة والاجتهاد الجزئي في الحياة الاجتماعية، فأصبح العمل السياسي عند جمهرة من الإسلاميين يُصاغ صياغة عقدية ويدور بين الحلال والحرام بل بين الحقّ والباطل والإيمان والكفروالهدى والضلال،، في حين أنّه في الغالب الأعمّ يتحرّك في مساحة العفو، بمفردات الصواب والخطأ والفاضل والمفضول والأَولى وخلاف الأَولى والأنسب والمهمّ والأهمّ والأقلّ أهمية، ونحو ذلك من المقاربات التي يتعاطاها السياسيون وتقبل الاجتهاد وتغيّره تبَعًا لظروف الزمان والمكان والحال ، على أن يتمّ كلّ ذلك ضمن المنظومة الشرعية بضوابطها وأحكامها ومقاصدها وروحها، لأنّ العمل السياسي يختلف من حيث الطبيعة والمناط عن أداء الشعائر، فهو ليس صلاة لها أحكام تفصيلية توقيفية، ولا هو صيام أو حجّ يتقيّد بصور لا يملك أيّ مكلّف تجاوزها بقياس أو نظر إلى علّة أو مصلحة أو ترجيح، بل ليس أيضا من قبيل الواجبات الدينية النصيّة التي لا تدور إلاّ بين الائتمار والانتهاء، لأنّه ينتمي في أكثر تحرّكاته إلى منطقة العفو التي تحتلّ في مراتب الأحكام مساحة واسعة، وهي عبارة عن فرصة لتحرّك مَرن يُصدر عن نيّة إرضاء الله وخدمة الصالح العامّ، ويُراعي ألاّ يصادم نصّا شرعيّا قطعي الدلالة والثبوت، وألاّ يخرج باجتهاد مخالف للنسق الإسلامي الذي يتمثّله المسلمون الملتزمون بدينهم، فالسياسي المسلم لا يُشترط فيه أن يكون من أصحاب الاجتهاد المطلق لأنّه ليس مجتهدا بالمعنى الأصولي، لكنّ عمله أقرب إلى الاجتهاد الجزئي الذي يتناول قضية بعينها بالنظر التفصيلي وفق أدوات القياس والترجيح والموازنة بناء على معطيات الواقع والحال وحيثياتهما .
 
إنّ استقاء أحكام السياسة الشرعية من أصولها مهمّة علماء الدين المتخصّصين، أمّا أرباب هذه السياسة فدورهم انتقائي وتنفيذي في إطار اجتهاد أولئك العلماء المتنوّع، فلا يلزم إذًا أن يبلغ المسلم مرتبة الاجتهاد حتى يخوض غمار السياسة ولو كان عضوا في مجلس تشريعي أو وزيرا أو حتى رئيس دولة، ونؤكّد على هذه القضية لأنّ الغبش الذي مسّ الذهنية المسلمة في عصور التراجع أورث المسلمين تهيّبًا سلبيًّا مبالغا فيه من اقتحام مجالات العمل السياسي فانحازوا اضطراريا إلى المدرسة الفقهية النصّية التي لا ترى في النشاط الإنساني – ومنه السياسة – سوى تطبيق حرفي لنصوص جزئية على وقائع فرعية آنية، فتغيب بذلك الرؤية المقاصدية للحركة التغييرية ، ويتعذّر عليها بالتالي أداء واجب الخلافة والعمارة الذي يقتضي حسن التصرّف مع حوادث الدنيا المتجدّدة ليس بالضرورة تنفيذا لنصوص جزئية - هي محدودة بطبيعتها – وإنما بإعمال القرائح على هدى من الكتاب والسنة، لأنّ الغاية تتمثّل في جلب المصالح ودفع المفاسد بكلّ وسيلة شرعية، وليس الاقتصار على تطبيق النصوص الجزئية المتّسمة بالمحدودية مقارنة مع الوقائع المتجدّدة اللامتناهية.
 
·       اجتهاد...لا انفلات: هذا مجال الاجتهاد الانتقائي والتطبيقي الذي لا يقلّ أهمية عن الاجتهاد الاستنباطي، وهو يُعنى بمواجهة الوقائع الحادثة والمرتقبة وتكييفها شرعيًّا في جميع مجالات الحياة الأُسرية والاجتماعية بما فيها من تنوّع وتعدّد أوجه وأشكال، إلى جانب المستجدّات التي تستدعي الاستنباط من مصادر التشريع المعروفة، وكلّ هذا يضع أصحاب المشروع الإسلامي في محكّ التجربة الميدانية وما تقتضيه من علم شرعي ومعارف عصرية كثيرة تلفّها المرونة والكياسة لعدم مُصادَمة النواميس، وأخطر ما قد يُعانونه هو حملات التثبيط التي تنطلق من وسطهم وتضع من الشروط التعجيزية ما يجعل العمل السياسي يتراجع ولا يتقدّم، وهذا إشكال حقيقي تعيشه فصائل إسلامية إذ تجعل عزيمة التحرّك الجادّ في ميدان السياسة الشرعية يصطدم بصرامة ضوابط نظرية هي في حدّ ذاتها مجرّد اجتهادات بشرية تندرج ضمن منظومة تربوية تفتقر إلى التجديد فتؤدي إلى شلّ المواهب وتعطّل الطاقات ولا تسمح ببروز تجربة سياسية إسلامية نشطة وناضجة تجمع بين صلابة المبادئ ومرونة الأساليب وتتّجه إلى استثمار الإنسان وتفعيله بدل اعتباره مجرّد أداة لتطبيق النصوص وتطويقه بالحواجز الخارجة عن دائرة قَطعيّات الشرع، وكما نُحذّر من التهوّر والارتجال والعفوية في مجال السياسة الشرعية حتّى لا تغدوَ مرتَعا للممارسات غير المنضبطة فإنّنا نُنكر الجنوح إلى التشدّد غير المبرّر الذي يؤدّي إلى الجمود على مستوى الرؤية والفعل والذي سيُلحق الفشل بتجربة استئناف الحياة الإسلامية الحالية التي تشقّ طريقها وسط تحدّيات ضخمة وعراقيل لا حصر لها تتربّص بها جميعًا حتى تتعثّر وتتراجع، ومعلوم أنّ المنبتّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى، ولا بدّ أن أكرّر هنا أننا لسنا بصدد أحكام تعبّدية بحتة تقتضي الانصياع من غير التفات إلى علل ولا حتى حكّم بل نحن نتحدّث عن معاملات تخصّ المعاملات بأوسع معانيها من أحوال شخصية وحياة أُسرية واقتصاد ومال واستثمار  وسياسة داخلية وخارجية وبرامج تربوية وفنية وحماية البيئة ونحوها ممّا تمور به تعقيدات الحياة المعاصرة، والقضية ليست إذًا مجرّد تطبيق نصّ جزئي على واقعة بعينها نلتمس لها آية محكمة أو سنّة صحيحة أو إجماعًا متيقّنًا بل تتعدّاها إلى حوادث دقيقة متداخلة يتصدّى لها القادة عبر مقاصد الشريعة وقاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد، أي تيسير حياة الناس وإمضاء مصالحهم بعيدا عن تحليل الحرام وتحريم الحلال، إذ حيث وُجدت المصلحة فثمّ شرع الله كما قرّر ابن القيم وأيّدته جماهير العلماء قديمًا وحديثًا، ومقصود الحاكم المسلم – ومعه الفقيه – تعبيد الناس لله باستصحاب معاني التيسير ورفع الحرج كما نصّت عليها الشريعة.
 
·       طلب النصوص وسدّ الذرائع: إنّ الحرص على إنفاذ شرع الله لاعني بالضرورة طلب النصوص في كلّ مسألة من مسائل المعاملات، وهذا ممّا عيب على المذهب الظاهري والمدرسة النصية لأنّ النصوص محدودة بخلاف الوقائع، ثمّ لأنّ النصوص ليست هدفًا بحدّ ذاتها في مجال المعاملات ذلك أن أكثرها قواعد تقريرية تترك هامشا كبيرا للتحرّك وفق القياس والاستحسان والمصالح المرسلة، وهي الأدلّة الأصولية أو الوسائل الشرعية المناسبة للسياسة الشرعية إلى حدّ بعيد .
 
ومن الواضح أنّ بعض المنظّرين للعمل السياسي الإسلامي يتوسّعون في قاعدة سدّ الذرائع خوفًا من الانفلات من قبضة الشريعة، وهذا قصد مشروع ومفهوم لكنّه أصبح مسوّغًا لمزيد من تأخّر المسلمين في الحياة العامة بسبب التوسّع في وضع الضوابط واختيار الأحوَط والميل إلى التحريم فيما لا نصّ فيه ، وإنما الحلّ يكمن – في تقديرنا – في تكبيل السياسيين بضوابط صارمة لم ترد في قرآن ولا سنّة ولا هي محلّ إجماع – بل في تأطيرهم بالتربية الفكرية والروحية المستمرّة ضمن خطّة إعداد الكوادر الربانية التي تسوس شؤون الأرض بالمنظومة الشرعية وقلوبها معلّقة بالسماء، وبتوفير الفقهاء والخبراء المقتدرين المتضلّعين في فقه السنن والأولويات والموازنات الذين لا يميّزون بين الخير والشرّ فقط – فهذا أمر ميسور – ولكن يعرفون خير الشرَّين وأهون المصيبتين ويعبّدون للقادة الطرق الوعرة ويمدّون باجتهادات مناسبة للعصر مستعينين بكلّ المذاهب والآراء المعتبَرة مع رجوع مباشر إلى القرآن والسنّة، وهذا يقتضي إحياء المصالح المرسلة
 
·       بين الضوابط والحوافز: إنّ عدم التوازن بين الضوابط والحوافز إشكالية فكرية تعاني منها بعض الفصائل الإسلامية  لأنها تؤدّي إلى تضخيم القيود والشروط إلى درجة إعاقة التحرّك ، وذلك خوفًا على الشريعة من الجديد ومن الاجتهاد غير المنضبط ومن دعاة التيسير ونحو ذلك، والحقيقة أن أحدًا من أنصار المشروع الإسلامي الأصيل لم يدع إلى اطّراح شيء من دين الله بل لا يحدونا إلاّ نصرة هذا الدين، لكنّ الظرف أحوج ما يكون إلى الدوافع والحوافز لاستدراك التخلف والتأخر واقتحام ساحات التمكين للمشروع الإسلامي وإحداث التغيير وإصلاح الحياة الاجتماعية التي أفسدتها الجاهلية الحديثة ، ويجب الانتباه إلى المغالطة السائدة التي تربط آليًّا بين التحرّك القويّ والاجتهاد المعاصر والتجديد وبين السقوط في تعدّي حدود الله والتهوّر، فهي مغالطة واضحة تقود حثيثًا إلى حالة العجز والجمود بسبب قراءة الإسلام من خلال الجزئيات المتناثرة في حين هو بناء متكامل ممتدّ طولاً وعرضًا وعمقًا في الآفاق والأنفس يسمح بالمقاربات المرنة كما يعرف الراسخون في العلم من خلال مصادر متنوّعة ووسائل شرعية مختلفة من أهمّها المصالح المرسلة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين