الاجتماع في بلاد المهجر فرصة مميزة للمراجعات

الحمد لله منزل الكتاب، الحمد لله مسبب الأسباب، الحمد لله فاتح الأبواب، والصلاة والسلام على من ذِكرُهُ يُؤنس من فارق الأحباب، وبعد.

تضيق تطلعات المُهجّر من أُولي النهى وتزفر أنفاسه وهو يرمق ما فارق من مطامح أغلقت عليه في بلاده، وتتملك ذاكرته الشعور بالفرار عن ساحات البذل إلى ركن مظلم يعيشه في مهجره، ولو أمعن النظر في إنجازات نظرائه لآنس خيرًا عظيمًا في زوايا ركنه المظلم.

فما هُجّر ذو لبّ إلا لإخباء سناه، ورجاء قطع سبل مبتغاه، وفي قول ورقة بن نوفل ما يعين على إدراك نوائب الحياة، حين قال للنبي بعد أن استشعر بزوغ نور رسالته، "يا لَيتني فيها جذعًا - أي: شابًا قويًا - ليتني أكون حيًّا إذ يُخرجك قومك. فقال رسول الله : أوَمُخرِجيَّ هم؟! قال ورقة: نعم، لم يأتِ رجل قطُّ بمثل ما جئتَ به إلا عُودي، وإن يدركني يومُكَ أنصُرْك نصرًا مؤزَّرًا." صحيح البخاري.

وهذه حقيقة يعيشها الكثير إلى يومنا هذا، ففي البلاد التي تظللها أنظمة مستبدة، ما أن يبرز صاحب مشروع ينهض بالأمة، إلا سعى أكابر مجرمي بلده بوأد بنات أفكاره، عبر تغييبه في غياهب سراديبهم، أو تتاح له فرصة الفرار لينجو بنفسه، وهذا ما لاقاه صاحب أعظم مشروع شهدته الدنيا منذ بعثته ، فما أدبر نصف عقد من حديث المصطفى مع ورقة بن نوفل إلا وأمر النبي أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، لما ألم بهم من ظلم أهل مكة، وما أدبر بعدها عقد إلا وهاجر النبي بأصحابه من مكة إلى المدينة، بعد أن أغلق طغاة مكة على النبي جميع سبل الفوز والفلاح، التي لو اتبعوها لعادت عليهم بالنفع بادئ ذي بدء؛ وهكذا هم حملة النظرية الفرعونية، فلا يقرون سبل الخير، إلا التي تعود بالنعيم عليهم دون غيرهم، قال تعالى: ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ [غافر: 29]. فجل الطغاة يتبنون هذه النمطية الفرعونية، التي ترسخ خطاب الغطرسة، وتؤطر سبل الارتقاء بمنظورهم الفردي، عبر ما يعرف اليوم بسيكولوجية[1] أحادية الرؤية. وما يتبنى الطغاة هذه النمطية الرخيصة، إلا للإجهاز على الأفكار النيرة والبطش بأصحابها أو تهجيرهم، ويصف الله تعالى برلمان الشرِّ في مكة حين مكروا وأجمعوا على تبني نمط فرعون في إزهاق المشاريع النيرة، فقال تعالى: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30]. وفي خضم تلاطم أفكار المُهجّر يفوته، أن مسبب الأسباب جل جلاله، إن يغلق بابًا بحكمته يفتح ألف باب برحمته.

في بعض بلدان المهجر ما يبسط حصافة المتأمل، ويمهد سبيل المتبصر للمضي قدمًا في تحصيل ما فاته وتوثيق ما هاب إثباته، ففي المهجر فرصة ترتيب ما تبعثر من الأوراق، وتدبير ما عجز عن تنظيمه.

في بعض بلاد المهجر ما يعطيك حرية التعبير والتنظيم والتألق والسمو، وفي بلاد المهجر فرصة مميزة للمراجعات، وجلّ من هُجّر من أولي الألباب عاد إلى دياره منتصرًا، ولنا في قصص الأنبياء عبرة، فهذا نبي الله موسى عليه السلام فرّ من آل فرعون قال تعالى:﴿ وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ﴿20﴾ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴿21﴾ [القصص: 29]. وفي خروج موسى عليه السلام يكمن الخير، فيجتمع بشعيب الذي آواه وزوجه ونصح له، وأكرمه الله بالظفر على فرعون أطغى أهل الأرض في زمانه.

وهاجر رسول الله ، فأقام في دار هجرته، فأسس نظامًا سياسيًا واقتصاديًا وإعلاميًا، ليقوم بدولته التي استأصلت شأفة الطواغيت، وأدَّبت جبابرة الأرض، وقهرت طغاة البشر. ولنا في الحبيب المصطفى قدوة حسنة.

 وفي وقتنا الراهن من الأمثلة ما يستضاء به ويقتدى، ففي فلسطين العزة ترمق من أسباب صمود أصحاب الحق في ثغورهم ما تعاضدت عليه جهود نخبة من الجالية الفلسطينية المهاجرة، من الترتيب والتنظيم والإعداد المحدود بحسب المتاح لهم، لدعم القضية والسمو نحو تحقيقها.

فهذه التجارب تخبرنا بأن بلاد المَهجر هي فرصة حقيقية لإعادة ترتيب الأولويات، واستقطاب ذوي الهمم وتشييد الأفكار ورسم السبل وهيكلة المشاريع وامتطاء الوسيلة وإمضاء الغاية.

فالحرص الحرص على المضي للارتقاء، فالفطِن لا تعجزه الغربة ولا تكسره كربة، بل يقلب فراره إلى انتصار، وليكن من ثوابت الأهداف لقلب الفرار إلى انتصار، أن يكون من مرابط الوصول، التوكل على الصمد الرحمن، والتشبث بالإيمان، والإخلاص إلى حافة الفناء، والإعداد في شتى صعد القوة، فالمؤمن القوي أحب إلى الله تعالى، كما في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: "الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ. احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ، وإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ، فلا تَقُلْ: لو أَنِّي فَعَلْتُ كانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَما شَاءَ فَعَلَ؛ فإنَّ لو تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ". صحيح مسلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 



[1] علم السيكولوجي: هو علم يهتم بدراسة سلوك البشر وتفكيرهم، كما يُعنى بدراسة عمليات الإدراك الحسي، والتفكير، والتعلم، والانفعالات، والدوافع، كما يدرس تكوين الشخصية، والسلوك غير الطبيعي عند الإنسان.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين