الإيمانُ والعبَادة

أطفالنا والعبادة (7)

الإيمانُ والعبَادة

د. عبد المجيد أسعد البيانوني

 

الإيمان هبة إلهيّة كريمة، تمْنحُ العبد القوّةَ والعزيمةَ، والسعادةَ والسكينةَ، وراحةَ القلب والطمأنينة.. والعبادة مظهَرُ الإيمان وعُنوَانُه، وروحُه وحقيقتُه وبرهانُه، وهو الدافع إليها، الباعث القويّ على الاجتهاد فيها، والحرص عليها.. وكمَا لا يُتصوّر للإنسان وجود بغير روحه وجسده، فكذلك لا يتصوّر للإيمان وجود بغير العبادة، بمفهومهَا الشامل الجامع..

 

وإنّ مَن يتدبّر كتاب الله تعالى يجد أنّ الله جلّ وعلا ربط بين الإيمان والعمل الصالح في كلّ مناسبة، فلا يذكر الذين آمنوا إلاّ ويعقبهم وصفُ: "وعملوا الصالحات"، ولا يذكر الإيمان إلاّ وتربط به بعض الأعمال الصالحة، وقد تكرّر ذلك في القرآن أكثر من خمسين مرّة، ممّا يؤكّد هذه الحقيقة، ويقدّم لها أوضحَ برهان..

 

وقد جاء ذكر العمل الصالح في القرآن الكريم مطلقاً بغير قيد، ليشملَ كلّ عمل قام بِه الإنسان وفق دين الله تعالى وشرْعه مُبتغياً بذلك وجهَ الله ومرضاته، يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَأَقَامُوا الصَّلاةَ، وَآتَوْا الزَّكَاةَ، لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} البقرة (277).

وهنا يجتمع مفهوم العبادة في دين الله تعالى بسعته وشموله، مع مفهوم العمل الصالح، ويحقّ للإنسان أن يجزم أنّهما مترادفان..

 

والإيمان والعمل الصالح شَرط لنفي الحرج والجناح، على المؤمن فيما يأكل ويشربُ، ممّا أحلّ الله وأباح لعباده، يقول الله تَعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا، إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا، ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا، وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} المائدة (93).

 

وأهل الإيمان والعمل الصالح موعودون من الله بالتمكِين في الأرض، كما يقول تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً، يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً، وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} النور (55).

وهمْ موعودون بتكفير السيّئات، وأن يجزيَهم الله أحسن الجزاء، كما يقول تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} العنكبوت (7).

وهم قلّة في الناس نَادرة، كما هي المعادن النفيسة الثمينة: {... إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ..} ص (24).

 

وهم مَحلّ عناية الله ورعايته، إذ يخرجهم في الدنيا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، ويدخلهم في الآخرة جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ، خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً، كما يقول تعالى: {رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللهِ مُبَيِّنَاتٍ، لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ، خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً، قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً} الطلاق (11).

 

والعلاقة بين الإيمان والعمل الصالح علاقة طرديّة لا تتخلّف، فكلّما قوي الإيمان نَشِطَ الجسد إلى العمل الصالح، وقويت رغبته، وكلّما ضعف الإيمان فتر الجسد عن العمل الصالح، وضعفت همّته، وهذا ما يدعو الوالد والمربّي إلى أن يعتنيَ بإيمان الطفل والناشئ، غرساً وتعهّداً ورعايةً، لأنّ الإيمان هو المُرتكزُ الأوّل في بناء شخصيّة الإنسان وتقويم سُلوكه، وعلّة أنواع الاختلالات الفكريّة والسلوكيّة في حياة شباب الأمّة اليوم، إنّما هو ضعف الإيمان واليقين، أو اعتلاله وفساد قصْده.

 

وقد طفحت آيات الكتاب العزيز ببَيان هذه الحقيقة وتأكيدها، فمن ذلك قولُ الله تعالى فيمن ينكص عن العمل الصالح، والالتزام بدين الله: {.. أفتؤمنون ببعض الكتاب، وتكفرون ببعض، فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزيٌ في الحياة الدنيا، ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب، وما الله بغَافلٍ عمّا تعملون} البقرة (85).

 

وعندما أخذ الله ميثاق بني إسْرائيل، ورفع فوقهم الطور، وقيل لهم: خذوا ما آتيناكم بقوّة واسمَعوا، فقالوا: سمعنا وعصينا، قال الله تعالى فيهم: {.. وأشربوا في قلوبهم العجلَ بكفرهم، قل: بئسَما يأمركم به إيمانكم، إن كنتم مؤمنين} البقرة (93).

 

وبعد ؛ فإنّ على المربّي أن يركّز جهوده الصادقة المخلصة على أن يُترجَم الإيمان في حياة الطفل والناشئ إلى سلوك عمليّ صالح، يعمّ خيره، وتتّسع آفاقه، ولا يقتصر على جانب من جوانب حياته، وأن يعلّم الطفل والناشئ أنّ العمل الصالح عبادة، وربّما كان أحبّ إلى الله من نافلة الصلاة والصيام، لأنّه أنفع للعباد، وأعظم أثراً في حياتهم.. وأن يحبّب بالأعمال الصالحة، ويدرّب عليها، حتّى له عادة راسخة، وجزءاً من شخصيّته وسلوكه.

 

وممّا ينبغي أن يغرس في نفس الطفل والناشئ أنّ من اتّبع غير منهج الله تعالى معتقداً أنّه أحسن أو أعدل من منهج الله، فقد أشرك في عبادة الله وتوحيده، ونجد مصداق ذلك في كتاب الله عزّ وجلّ، إذ يقول الله تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنّه لكم عدوّ مبين (60) وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم (61)} يس، ويقول تعالى: (.. وإنْ أطعتُمُوهُم إنّكُم لَمُشرِكُون (121)} الأنعام.

 

فإذا أدّى الوالد والمربّي هذه الرسالة فإنّه يكون قد قام بمسئوليّة تحصينيّة للطفل تقيه من تيّارات المسخ والتشويه، التي تستهدف كيان الأمّة، وشخصيّة جيلها المعاصر..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين