سأقص عليكم حكاية رجلين أصابهما البلاء، أحدهما صاحبُ تجارات وعقارات في بعض المناطق التي تعرضت للقصف الروسي المجنون، أصيبت واحدةٌ من عماراته فتهدمت وبقيت له عمارات أُخَر وثروات وممتلكات، فقدَ قليلاً وبقي له الكثير. رأيته بعدها فإذا به يشكو ويتسخّط ويندب حظه قائلاً: لماذا أنا؟ لماذا من بين كل العمارات لم يجد الصاروخ سوى عمارتي ليضربها؟! لم أسمع منه كلمة شكر لله الذي أصيبت عمارتُه تلك بقدَره ثم نجّى بفضله سائرَ عماراته فسلمت من الأذى والتدمير. ما رأيت منه إلا كل غضب وسخط وضيق وانزعاج، كأن مصائب الدنيا كلها وقعت على رأسه. ولعلكم تقولون إنه أثر الصدمة، فإذا أفاق منها بعد يوم أو اثنين استغفر ورضي وحمد الله، ولكني كنت ألقاه بعدها مرة بعد مرة فأجده على حالته الأولى، ضيّقَ الصدر دائمَ التسخّط، لا يرضى ولا يحس بالاطمئنان.
الثاني رجل فاضل آتاه الله عدداً من الأبناء البررة الصالحين، ثم ابتلاه بواحد منهم استُشهد في قصف شديد تعرضت له بلدته ذات يوم، فلما اتصلت به لأعزيه وأُسمعه شيئاً من معاني الصبر والرضا وجدته أحفظَ مني لها وأسبقَ لجوءاً إليها، ورأيته على قدر عال من التسليم والاطمئنان، يقول: الحمد لله الذي أبقى بعدما أخذ، فقد أخذ واحداً ممّن وهب وأبقى لي غيرَه كثيرين. قلت لنفسي: ربما كان الرجل يتصبّر ولعله لم يستوعب مصيبته بعد، فإذا فعل فارقَه صبرُه واطمئنانه ورضاه. فلما اتصلت به بعد شهر وشهرين وجدته أعظمَ صبراً ممّا كان في أيامه الأولى وأكثرَ رضاً واطمئناناً وسكينةً وتسليماً لأمر الله.
* * *
تعلمت من هذه الحادثة وتلك معنى من أعظم معاني الإيمان، معنى جميلاً جليلاً يكاد أكثر الناس يَغفُلون عنه ولا ينتبهون إليه.
لعل كثيرين من المتدينين والمؤمنين يظنون أن إيمانهم بربّهم ودينهم يحمّلهم أعباء كبيرة ولا يعطيهم مقابلها سوى أجر أخروي موعود، إلا أن المرء إذا تأمل في أمثال هذه الحوادث سيدرك أن الإيمان يعطينا في دنيانا (قبل آخرتنا) أكثرَ من الذي يأخذه منا بكثير. سوف يعلم أن التديّن ليس عبئاً وحملاً ثقيلاً كما هو ظاهره، وإنما هو منحة عظيمة وهِبَةٌ من الله لعباده المؤمنين. إن الدين يحمّلنا أعباء ويكلفنا بواجبات ويَحْرمنا من متع ورغبات، ولكن لنتذكر دائماً: إننا نحصل بالمقابل على العمر كله سكينةً وسعادةً واطمئناناً وراحةَ بال.
إن المؤمنين يصبرون بإيمانهم على الكوارث والمصائب والشدائد التي تعصف بحياة الناس في كل مكان، لأنهم يدركون ذلك المعنى العظيم الذي قدمه لنا النبي عليه الصلاة والسلام في حديثه الرائع، حينما أوصى ابنَ عباس فقال: "اعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجَفَّت الصحف". نعم، انتهى الأمر، كُتب القدر ولم يبقَ إلا أن يجري في الأرض على الناس، فليرضَ كل واحد بما قُدر له وما قُدر عليه في هذه الدنيا يَعِشْ سعيداً راضياً متصالحاً مع نفسه ومع الحياة.
* * *
لعل هذا المعنى هو المقصود بقوله تعالى: {مَن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنُحيِيَنّه حياة طيبة، ولَنَجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}. فأما الجزاء الحسن فهو ما يلقاه المؤمن في آخرته لقاء إيمانه وعمله الصالح، وأما "الحياة الطيبة" فاختلف فيها أهل التفسير، ولعل ألطف معنى يُستخرَج منها هو "السعادة"، نقله الطبري عن ابن عباس، وهو متحقق في كل مؤمن صادق الإيمان على الوجه الذي رأيناه في هذه المقالة.
إنها هديّة المؤمنين المعجَّلة في الدنيا قبل ثوابهم المؤجَّل في الآخرة. وليس كل مسلم التزم بالشعائر المجردة أهلاً لهذا الجزاء العظيم، إنما يُعطاه المؤمنون على حسب إيمانهم، فمَن كان أشدَّ إيماناً ازداد في حياته اطمئناناً وسكينة وعاش من السعداء.
اللهم اجعلنا من الراضين بقضائك، ومن السعداء المطمئنين في هذه الدنيا الفانية وفي دار الخلود والبقاء.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول