الإيثار

أذيعت صباح يوم الاثنين 11 من رمضان 1377، جعلها الله خالصة لوجهه الكريم ونفعني بها يوم القدوم عليه. آمين.

أيها المستمع الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد.

فعنوان حديثي إليك اليوم: الإيثار.

وهي كلمة صغيرة اللفظ كبيرة المعنى، لها أثرها في المجتمع والحياة، ومعناها أن تُقدِّم حاجةَ غيرك ومصلحتَه على حاجتك ومصلحتك، رغبةً منك في ثواب الله تعالى وحسن جزائه، وعملاً بالعاطفة الإنسانية التي أودعها الله فيك، وميَّزَك بها على سواك لتجود بنفسك أو ما يَعِزُّ عليك.

وهذه الصفة الكريمة النبيلة من أفضل ما تتحلى به النفوس وأجمل ما تمتاز به الذوات الإنسانية، وللإيثار ألوان كثيرة فهناك إيثار بالراحة والرفاهية، وإيثار بالعلم والمعرفة، وإيثار بالطعام والماء، وإيثار بالمال والنَشَب، وإيثار بالنفس والروح، وقد جاء في تاريخنا الإسلامي حوادث في الإيثار تفوق الخيال وتسبق الأمثال، إذا وقف الإنسان عليها راعته عظمتها وأدهشته ضخامة صورها ومعانيها، وذلك لأن الإيثار إنما ينبع من العقيدة، وينشأ عن كرم النفس وطيبها، وكلما رسخت العقيدة في النفس واستنارت بها الجوارح أعطت أفضل الثمرات وأروع التضحيات والبطولات، وإن أمتنا هذه العريقة بالمجد جاءت من ألوان الإيثار بالأعاجيب.

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهودٌ - أي جائع - فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. ثم أرسل إلى الأخرى فقالت مثل ذلك، حتى قُلنَ كلُّهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يضيف هذا الليلة، رحمه الله؟ فقال رجل من الأنصار اسمه أبو طلحة الأنصاري: أنا يا رسول الله. فانطَلقَ به إلى بيته فقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني. فقال: هيئي طعامك وأصبِحي سراجك ونوِّمي صبيانك إذا أرادوا عشاءً. فهيأت طعامها وأصبَحَت سراجها ونوَّمت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يُريان الضيف أنهما يأكلان وباتا طاويين، فلما أصبح أبو طلحة غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عليه الصلاة والسلام: لقد عَجِبَ الله من صنيعكما بضيفكما الليلة. أي رضيَ غاية الرضى، فأنزل الله قوله: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾.

ويُروى في نزول هذه الآية سبب آخر هو الإيثار أيضاً، فقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنه قال: أُهْديَ لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسُ شاة مشوي، وكان مجهوداً أي محتاجاً إليه، فقال: إن أخي فلانا وعياله أحوجَ إلى هذا منا. فبعث به إليه، فلم يزل يَبعَثُ به واحدٌ إلى آخر حتى تداوله أهل سبعة أبيات، ثم عاد إلى الأول، فنزلت الآية الكريمة: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾.

وكان قوم أبي موسى الأشعري إذا كانوا في السفر أو في الحضر يتقاسمون ما بقي معهم بالسَّوِية، وكان ذلك عادة لهم، ولهذا انتسب رسول الله إليهم ونسبهم إلى نفسه، روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الأشعريين إذا أرْمَلُوا - أي فَنِيَ زادُهم - في الغزو، أو قَلَّ طعامُهم في المدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فَهُمْ مني وأنا منهم.

وجاء في سيرة عبد الله بن جعفر بن أبي طالب أحد الأجواد الأسخياء في الإسلام أنه خرج إلى ضيعة له فنزل في طريقه إليها على نخيل قوم وفيهم غلام ـ أي أجير رقيق ـ يعمل في النخيل، فأُتيَ الغلامُ بقوُته، فدخل بستانَ النخيل كلبٌ ودنا من الغلام، فرمى إليه الغلام بقرص من الخبز فأكله، ثم رمى إليه بالثاني والثالث فأكلهما، وعبد الله بن جعفر ينظر إليه، ثم قال له: يا غلام كم قوُتُك كل يوم؟ قال: ما رأيتَ. قال: ففيمَ آثرتَ به هذا الكلب؟ قال: إن أرضنا ما هي بأرض كلاب، إنه جاء من مسافة بعيدة جائعا، فكرهت أن أشبع وهو جائع. قال: فما أنت صانع اليوم؟ قال: أطوي يومي هذا. فقال عبد الله بن جعفر: أُلامُ على السخاء؟ إنَّ هذا الغلام لأسخى مني! فاشترى الغلام والبستان وما فيه، وأعتق الغلام ووهب له البستان بما فيه.

وحكى قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة رحمه الله، أن الشيخ العز بن عبد السلام لما كان بدمشق وقع مرة غلاء كبير حتى صارت البساتين تباع بالثمن القليل، فأعطته زوجته مَصاغاً لها، وقالت: اشتر لنا به بستاناً نَصيف به. فأخذ المصاغ وباعه، وتصدق بثمنه، فقالت: يا سيدي اشتريتَ لنا؟ قال: نعم، بستاناً في الجنة، إني وجدت الناس في شدة فتصدقت بثمنه. فقالت له: جزاك الله خيراً.

وتحدث حذيفة العدوي فقال: انطلقتُ يوم اليرموك أطلب ابن عم لي ومعي شيء من الماء، وأنا أقول إن كان به رمق سقيته، فإذا أنا به، فقلت له: أَسقيك؟ فأشار برأسه أن نعم، فإذا برجل يقول آه آه، فأشار إليَّ ابنُ عمي أن انطلق إليه، فجئته فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك؟ فأشار أن نعم، فسمِعَ آخرَ يقول: آه آه، فأشار هشام أن انطلِقْ إليه فجئتُه فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.

إن هذه الحادثة وأمثالها ليست من نسج الخيال ولا أحلام الخاطر، وإنما هي من حقائق التاريخ ومما يضع الإسلام في النفوس، ولقد تفنن أسلافنا بالإيثار تفنناً عجبا حتى لكأنهم كانوا يرونه من ملاذِّ النفوس ومشتهياتها، فقد جاء عن عبد الله المَرْوَزي أن أبا علي الرِباطي صحبه في سفر، وتذاكرا فيمن يكون منهما أميراً في السفر كما هي السُّنّة، فقال أبو علي الرباطي لعبد الله المروزي: أنت الأمير. فلم يزل عبد الله هذا يحمل الزاد لنفسه ولأبي عليٍّ صاحِبِهِ على ظهره طول سفرهما، وأمطرت السماء ذات ليلة فقام عبد الله طَوَال الليل على رأس أبي عليٍّ رفيقِه يغطيه بكسائه من المطر، وكلما قال له: لا تفعل. يقول له: ألستُ أنا الأمير، وعليك السمعُ والانقياد والطاعة.

وجاء عن أحمد بن سلمان النجاد أحد فقهاء الحنابلة أنه كان يصوم ويتابع الصوم، وكان فقيراً مملقاً، وكانت نفسه تتوق إلى الصدقة وبذل المال ولكنه لا يجده، فكان يُفطِرُ كل ليلة على رغيف، ويترك منه لقمة، فإذا كانت ليلة الجمعة تصدق بالرغيف الصحيح، وأكل تلك اللُّقَم التي استفضلها.

وأفضل ألوان هذا الإيثار: الإيثار بالنفس والروح، ولهذا قيل فيه:

يجودُ بالنفس إذ ضنَّ الجواد بها=والجودُ بالنفس أقصى غاية الجود

وقد جاء في سيرة الصحابة من ذلك الغرائبُ العجائب، ففي غزوة أُحد حينما ثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت معه جماعة من الصحابة، وتفرق الكثير، كان فيمن ثبت أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه فقد استمر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يَصُدُّ عنه سهام العدو بتُرْسِه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم ماذا يفعلون، فيقول له أبو طلحة: لا تُشرِف يا رسول الله، وجهي لوجهك فداء، بأبي أنت وأمي لا يصيبوك، نحري دون نحرك. ويُترِّسُ على رسول الله بيده حتى شَلَّتْ يده رضي الله عنه، ومثل هذا أيضاً مبيت سيدنا علي رضي الله عنه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة إذ عزم المشركين على قتل رسول الله، وأمثال هذا في السيرة النبوية كثير.

ولقد مرَّ بي خبرٌ من أخبار الإيثار كلما ذكرته أكبرته وأُدهِشتُ لروعته وجَلَلِه، ولكنه ليس بغريب في تاريخنا ولا وحيد، روى الإمام أبو بكر الطُرطُوشي رحمه الله تعالى في كتابه سراج الملوك عن أبي محمد الأَزدي أنه قال: لما احترق المسجد بمصر، وظن المسلمون أن النصارى أحرقوه، فأحرقوا خانا لهم، فقبض السلطان على جماعة من المسلمين الذين أحرقوا الخان، وعاقبهم بأن كتب رِقاعا فيها القتل، وفيها القَطْعُ، وفيها الجَلْدُ، ونَثَرَها عليهم، فمن وقعت عليه رُقْعةٌ فُعِلَ به ما فيها، فوقعت رقعة فيها القتل بيد رجل فقال: ما كنت أبالي لولا أمٌّ لي. وكان بجانبه بعض الفتيان فقال له: في رقعتي الجلد وليست لي أم، فادفع إلي رقعتك وخذ رقعتي. ففعلا فقُتِلَ ذاك وتخلَّص هذا. إنَّ هذا الخبر لا يُقضَى منه العجب، ذلك لأن فيه جوداً بالنفس عن طواعية واختيار غريب، وما دفع المقتول إلى إيثار صاحبه بالحياة إلا أن لصاحبه أماً فهو من أجلها كان أحق بالبقاء.

هذه أخبارٌ سقتُها لا للسرد التاريخي ولكن لنستشعرها في هذه الأيام، فتتحرك فينا عاطفة السخاء والبذل، وتجود أيدينا بالخير الذي أنعم الله علينا على من كان في حاجة أو عَدَمٍ من أقارب أو أباعد، فيكون ذلك عونا لهم مما هم فيه من بؤس وإملاق، وأشد من يحتاج إلى الغوث بالمال الآن هم المجاهدون المرابطون في الجزائر، وفي بطاح المسجد الأقصى، فلنبذل لهم من أموالنا قَدْرا قليلا يتلاقى مع حقوق الأخوة ورابطة العقيدة والدم، في حين أنهم يبذلون هناك من أجل كرامتنا وحقنا السليب المُهَج والأرواح، ولسنا بمدركي فضلهم ولو بذلنا الكثير، ولذلك قيل:

كم بين قوم إنما إنفاقهم=مالٌ، وقومٍ يُنفِقُون نُفُوسا

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

من كتاب:" أيها المستمع الكريم" إعداد ومراجعة: محمد زاهد أبو غدة

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين