الإنسان والأنانية‎

موقع عبدالله بن سليمان العُتَيِّق

 التعلق بالذات، و الميلُ إلى الـ أنا، من الأشياء التي فُطِر الإنسان عليها، و التي لا ينفكُّ عنها في حالٍ من أحواله، إلا تصنُّعاً، ذلك لأن الإنسان بداهةً يُحبُ أن يجد ذاته في صورة يريدها، فإذا وجدها كذلك مالَ إلى تقديمها على غيرها، و ربما وصلَ به الحالُ إلى تقديسها تقديساً لا مثْلَ له.
هذا الميلُ إلى الـ أنا ليس شيئاً من المرضِ الذي يعتري الإنسان، بل هو الصحة و علامة استواء الإنسان في تكوينه، يَكمُن المرَض في حالِ كون ذلك الميل، و في حالِ تلك الأنانية، ضرراً على الآخر، و لا تكون ضرراً على الآخر إلا و قد كانت ضرراً على الذات نفسها، وهنا يكون الضرر أن الإنسان غير مبالٍ بشيءٍ، لا إنسانٍ و لا غيره.
الأنانية شيءٌ من محامِد أخلاق الذات، و شيءٌ من جميل صفات النفس، شريْطةَ ألا تكون مُغالًى فيها، و مُبالغاً فيها مبالغةً لا تستقيم على قانون الصحة، فالإنسان مخلوقٌ ليكون هو قبل كل شيءٍ، كلِّ شيءٍ من الإنسان و غيره، و هذه القَبْلِيَّةُ تعني أن يكون في محالِّ الأوليَّةِ و أماكن الصدارة، فلا يُؤْثِرُ غيرَه على شيءٍ هو في حاجةٍ إليه مِثْلَه، لأن ظلم الذات، و التجرؤَ على سلبها حقها أشد من كون ذلك على غيرها.
فليس في أي قانون، و لا في أي شريعة، صحيحين سليمَيْن، مقبولاً تقديم الإنسان غيرَه على نفسه، ففي تقديم الإنسان نفسَه على غيره، في حال عدم الإضرار، انسجام مع الحياة و تناغم مع الوجود، و في تقديم الآخر على الذات قتل الذات و الآخَر في آنٍ، للآخر في عدم تقديره و معرفته، و هنا غابَ وَضْعُه في موضعه الذي يستحقه، فَسَحَقَه الإيثار. و أما قتل الذات ففي عدم إكرامها و منحها حقها الذي تستحقه، و في هذين القَتْلَيْن ضاع الإنسانان، إنسان الذات و إنسان الآخر.
الأنانية بابٌ كبيرٌ إلى الآخر، أيّ آخر، إنساناً أو غيره، إذْ من عرفَ ذاته و أحبَّها يكون عارفاً بغيره، و هذا سيجعله بعدُ قائماً بالتعايُش الصحيح مع الكلِّ. فالـ أنا حين لا تضر فهي نافعة ، و حين لا تنفع فهي ضارة.
جانبٌ من الأنانية جميلٌ و رائع، قرَّرَتُه الشرائعُ السَّويَّة التي أتتْ لأجل كرامة الذات الإنسانية، حيث الأنانية جوهر الإنسانية. و التي تعني البدء بالنفس،  عليك بخاصة نفسك. و إهمال الآخر تماماً عين الأنانية غير إنسانية، و الأنانية الإنسانية ترتكزُ في       ثم ابدأ بمن تعول و ليس منا من لم يهتم بأمرنا. ففرقت بينهما سين السواء.
في غياب هذا النوع من الأنانية صار ما نراه من سلوكٍ لا يستقيم و قوانين الوجود، فغيابُ الأنانية الصحيحة القائمة على نواميس و قوانين الإنسان و العمران صنعتْ أنانيةً لا تتصِلُّ بشريفٍ من المخلوقات، و قلَّ أن نرى في مخلوقات الوجود حيواناً فيه أنانيةً مُضِرَّةً بالآخر، و ليست إلا عند إنسانٍ لمْ يَدْرِ ما الإنسانية.
الأنانية الصحيحة هي أنانيةُ الانسجام، تبدأ من النفْسِ بالنفسِ لتكتملَ، ثم تتهيَّأُ لتنسجم مع الآخر في هذا الوجود، و هنا يكون الإنسان أنانياً كونياً في صورة إنسانية سليمة صحيحة، و الأنانية المضادَّة ليست إلا أنانية متجرِّدَة من وصف الإنسانية، و حتى الحيوانية، إذْ الحياة تبادُلٌ و تفاعُلٌ و تكامُلٌ، ثمَّ تفاضُلٌ.
هذه الأنانية الفاضلة هي التي صنعتْ حضارات الحياة، و هي التي هيأتْ نفوساً كثيرة لتكونَ في مقامات العظماء، حينما عرَفَتْ قيمتها، و أحبَّتْ نفسَها، فتحرَّكَتْ بِحُبِّ الـ أنا لصناعة الحياة من حولها.
الأنانية هي حبُّ الذات، و كلُّ أحدٍ يُحبُّ ذاته كما يريد، و لكن ما لا يُمكنُ هو أن يُحبَّ الإنسان ذاته، أو يكون أنانياً و هو لا يعرف شيئاً عن تلك الذات، فالأنانيةُ السيئة هي أنانيةُ من لا يعرِفُ ذاته و لا يعرف من يكون، و الأنانية الحسَنَة هي أنانيةُ مَن عرفَ قيمته، و أدرك حقيقة ذاته، فانطلَقَ من تلك المعرفة يغترفُ أسرار الكون ليَهَبَها لذاته و للآخر في هذا الوجود، فالكلُّ مُتَنَعِّمٌ بهذه الأنانية الفاضلة.
أنانية الإنسان الفاضلة هي من جوهر إنسانيته، وهي كمال و انسجام و تناغم مع الحياة، و الأنانيةُ الأخرى انعزالٌ عن سِر الوجود.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين