عندما نقلب صفحات الماضي، ولا سيما كتب التراجم، نعجب للإنتاج الغزير الذي قدمه أولئك الأفذاذ خلال أعمارهم القصيرة ووسائلهم الأولية؟! ونتساءل: أي درجة علمية تليق بهم. بحسب تقويمات عصرنا....
وماذا يمكن – على سبيل المثال – أن نقول عن ابن كثير، الذي قدم التاريخ تحت عنوان (البداية والنهاية) في أربعة عشر مجلدا ومثله فعل الخطيب البغدادي في كتابه (تاريخ بغداد) في أربعة عشر مجلدا، و ابن الأثير في (الكامل) في اثني عشر مجلدا وسبط ابن الجوزي (في مرآة الزمان) البالغ أربعين مجلدا؟!
وأما (شرح النبات)لأبي حنيفة الدينوري فقد بلغ ستين مجلدا وقبل أن ننتهي من تعجبنا، وتتركنا الدهشة، يفاجئنا الإمام ابن الجوزي بأن هناك من زاد على الستين؛ وهو صاحب كتاب (الفنون) أبو الوفاء علي بن عقيل البغدادي المتوفى 513هـ.. وكتاب الفنون كما يقول ابن الجوزي كبير جدا، فيه فوائد كثيرة جليلة في الوعظ والتفسير والفقه وأصول الفقه، وأصول الدين والنحو واللغة والشعر والتاريخ والحكايات،وفيه مناظراته ومجالسته التي وقعت له، وخواطره ونتائج فكره قيدها فيه؟!
وقد قال الحافظ الذهبي عنه: لم يصنف في الدنيا أكبر من هذا الكتاب، و السؤال: كيف استطاع هؤلاء العلماء توفير الوقت اللازم لمثل هذه التآليف؟
يجيبنا أبو الوفاء البغدادي قائلا: إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة أو مناظرة، وبصري عن مطالعة أعملت فكري في حال راحتي، وأنا منطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرص على العلم، وأنا في عشر الثمانين أشد مما كنت أجده، وأنا ابن عشرين سنة؟!
ويضيف: وأنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى إنني أختار (سف الكعك) وتحسيه الماء على الخبز لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، توفرا على المطالعة، أو تسطير فائدة لم أدركها فيه، وإن أجل تحصيل عند العقلاء بإجماع العلماء، هو الوقت، فهو غنيمة تنتهز فيها الفرص، فالتكاليف كثيرة، والأوقات خاطفة...
ولو أن هؤلاء احتاجوا إلى بصلة ما تعلموا مسألة... كما قال بعض الأقدمين. فتخففوا من أعباء الدنيا، وقللوا من حاجاتهم، ولم يستشرفوا ما عند الآخرين إلا من سبقهم بالعلم وفاقهم بالتقوى!!
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول