الإمام المجاهد القدوة: محيي الدين النووي


بقلم عبد الحكيم الأنيس
 
          "كان نائماً إلى جنب أبيه وقد بلغ من العمر سبع سنين ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان, فانتبه نحو نصف الليل وقال: يا أبتِ: ما هذا الضوء الذي ملأ الدار؟ فاستيقظ الأهلُ جميعاً, قال والدُه: ولكنْ لم نر كلَنا شيئاً, وعرفتُ أنها ليلة القدر".
         
    حَدَثَ هذا عام (638هـ) من الهجرة في قرية تُدعى (نوى) قرب دمشق, وكان ذلك أول مؤشِّر على مستقبل هذا الصبي الذي غدا فيما بعدُ رمزاً من رموز تاريخ الإسلام العلمي والعملي.
         
وبعد ثلاث سنوات من هذا التاريخ رآه الرجل الصالح, الشيخ ياسين بن يوسف المُرّاكشي, وقد تحدّث عن هذه الرؤية فقال:
 
          "رأيتُ الشيخ محيي الدين وهو ابن عشر سنين بـ (نوى), والبيان يُكرهونه على اللعب معهم وهو يهربُ منهم, ويَبكي لإكراههم, ويَقرأ القرآن في تلك الحال فوقع في قلبي حبُّه, وجعله أبوه في دكان فجعل لا يشتغل بالبيع والشراء عن القرآن, فأتيتُ الذي يُقرئه القرآن فوصّيتُهُ به وقلتُ: هذا الصبي يُرجى أن يكون أعلمَ أهل زمانه وأزهدَهم, ويَنتفع الناسُ به, فقال لي: أمنجِّم أنت؟! فقلت: لا, وإنما أنطقني اللهُ بذلك, فذكر ذلك لوالده فحرص عليه إلى أن ختمَ القرآن وقد ناهز الاحتلام".
 
          وقد صدقتْ فراسة الشيخ, فكان النووي مِنْ أعلم أهل زمانه وأزهدهم, وانتفع الناس به, وما يزالون يَنتفعون.
 
          إنها ثلاثة محاور حدّدها الشيخ المُرّاكشي دارت عليها حياةُ هذا الإمام القصيرة التي لم تتجاوز (45) سنة: علم وزهد ونفع.
         
ولعل أقواله هذه هي التي دفعت بوالده ليتوجه به إلى تحصيل العلم.
         
وقبل منتصف القرن السابع الهجري بسنة واحدة دخل النوويُّ مدينة دمشق ليبدأ عهداً جديداً من عمره المبارك, فسكن المدرسة (الرواحية) الواقعة خلف الجامع الأموي، وانصرف إلى العلم انصرافاً كاملاً, أما قوتُه فكان خبز المدرسة لا غير.
         
وبعد ست سنوات استوى عالماً قديراً محقِّقاً.
     ورأى أنه لا بد من منعطف جديد في حياته, فأخذ في التصنيفِ والإفادة والنصيحة وقول الحق، كما جاء على لسان أشهر تلامذته الشيخ ابن العطار.
         
إنها – إذن- ثلاثة بنود ألزمَ النوويُّ بها نفسه, وطبَّقها تطبيقاً كاملاً, وكان ذلك شعار (21) سنة, وهي التي بقيتْ من عمره.
         
فأمّا التصنيفُ فقد قال العلماء في ذلك: إنه "قد ترك من التآليف المجوَّدة المحققة الكبيرة الكثيرة, والمصنفات المستوعبة النادرة المفيدة, ما لو ألَّفه في ضعف هذا العمر لكان كثيراً مدهشاً".
     ويُلاحظ بوضوح أنَّ مؤلفاته انتفع بها الخاصّة والعامّة على السواء, وقد لاقتْ قبولاً رائعاً, ورواجاً واسعاً, وكانت قريبة من قلوب جمهور المسلمين, وأذهانهم.
          ويكفي أنْ يًُذكر هنا: رياض الصالحين, والأذكار, والتبيان في آداب حملة القرآن, وبستان العارفين, والمنهاج, والمجموع, وشرح صحيح مسلم, وغيرها ممّا طبع, وممّا لم يطبع فهو ينتظر النور..
          وأما الإفادة فقد لازم التدريسَ ونشر العلم, وتخرج به جماعةٌ من العلماء... إنَّ هذا الصبي الذي دخل دمشق بكل هدوء لم يغادرها حتى أصبح أستاذ دار الحديث, وبقي في هذا المنصب الرفيع عشرَ سنوات... وبعد (66) سنة سيسكن في قاعة دار الحديث هذه الإمام الكبير تقي الدين السبكي, وسيمرِّغ وجهه على البساط الذي كان يجلس عليه الإمام النووي وسينشد:
وفي دار الحديث لطيف معنىً             على بُسط لها أصبو وآوي
عسى أني أمـسُّ بـحرِّ وجـهـي               مـكانـاً مـسَّه قــدمُ الـنواوي
          وأمّا النصيحة وقول الحق فقد بلغ فيهما الغاية, وكان حجةً من حجج الله على العلماء, لقد كان يواجِه الملوك والظلمة بالإنكار عليهم, ويَكتب إليهم ويخوِّفهم بالله تعالى, وقد حفظ لنا التاريخُ بعضَ رسائله إلى الملك الظاهر ملك دمشق في الأمر بالمعروف... وقد واقفه بدار العدل غيرَ مرةً, فحُكي عن الظاهر أنه قال: أنا أفزعُ منه.
          هكذا قال الظاهرُ فليسمعِ المتزلفون بالباطل.
          إنَّ حياة النووي معلمٌ بارز من المعالم الإيجابية الناصعة في تاريخنا المجيد, ومحطة تغذينا بكل نافع وماتع من التوجيهات والتعليمات.
          فتحية لشخصه العظيم وهو يرقدُ في رحاب (نوى) العاطرة.
          وتحية لروحه وهي تعلِّمنا أَنْ نواجهَ الظلمَ ونحرِّر الإنسان.
 
ويا أيها النوويُّ المجاهد: يداً بيد على طريق العلم والجهاد والتحرير...

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين