الإمام الأوزاعي

 

 

حدث في الثامن والعشرين من صفر سنة 175

 

في الثامن والعشرين من صفر من سنة 157 توفي في بيروت، عن 69 سنة، الإمام الأوزاعي، أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن يُـحْمِد، إمام أهل الشام في الحديث والفقه. قال تلميذ الإمام مالك؛ الإمام الحافظ عبد الرحمن بن مهدي: أئمة الناس في زمانهم: سفيان الثوري بالكوفة، وحماد بن زيد بالبصرة، ومالك بن أنس بالحجاز، والأوزاعي بالشام. والأوزاعي: نسبة إلى بطن من حِميَر من همدان اليمن سكنت خارج باب الفراديس في دمشق في محلة قيل لها الأوزاع، ويُظن أنها التي تسمى العقيبة أو باب العمارة اليوم، وقيل بل الأوزاع هم أوزاع القبائل أي شتاتها الذين سكنوا تلك المنطقة.

 

ولد الأوزاعي في بعلبك سنة 88، وهي اليوم حاضرة سهل البقاع في لبنان، وأدرك أباه الذي توفي وهو صغير، فعاش في البقاع بضع سنوات يتيماً في حجر أمه، ثم انتقلت به أمه إلى بيروت، وكان له أخ أكبر منه اسمه عبد الله روى عنه الأوزاعي بعض الأخبار.

 

وقيض الله للأوزاعي أحد أصدقاء والده فتعهده حتى بلغ، فألحقه في ديوان الجند ليكون له راتب يرتزق منه، قال الأوزاعي: مات أبي وأنا صغير، فذهبت ألعب مع الغلمان، فمر بنا فلان، وذكر شيخاً من العرب جليلاً، ففر الصبيان حين رأوه، وثَبَتُّ أنا، فقال: ابن من أنت؟ فأخبرته، فقال: ابن أخي، يرحم الله أباك! فذهب بي إلى بيته، فكنت معه حتى بلغت، فألحقني في الديوان.

 

ولعل أول من أخذ عنهم الأوزاعي العلم والعمل هو الإمام القدوة الحافظ أبي عروة الهمداني الكوفي، القاسم بن مخيمرة، المتوفى في حدود  سنة 101،  وكان يأتي بيروت مرابطاً متطوعاً، قال الأوزاعي: كان القاسم بن مخيمرة، يقدم علينا ها هنا متطوعا، فإذا أراد أن يرجع، استأذن الوالي، فقيل له: أرأيت إن لم يأذن لك؟ قال: إذاً أُقيم، ثم قرأ قوله تعالى في سورة النور ?وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه?؛ من عصى من بعثه، لم تقبل له صلاة حتى يرجع!

 

وأخذ الأوزاعي الحديث عن الإمام الحافظ يحيى بن أبي كثير المتوفى سنة 129، وذلك في اليمامة فقد خرج إليها الأوزاعي في بعث، ولعل ذلك في نحو سنة 108، فلما وصلها دخل مسجدها، فاستقبل سارية يصلي إليها، وكان يحيى بن أبي كثير قريباً منه، فجعل يحيى ينظر إلى صلاته فأعجبته، وقال: ما أشبه صلاة هذا الفتى بصلاة عمر بن عبد العزيز، فقام رجل من جلساء يحيى فانتظر حتى إذا فرغ الأوزاعي من صلاته أخبره بما قال يحيى، فترك الأوزاعي الديوان وأقام عند يحيى مدة يكتب عنه، ويسمع منه، فكتب عنه أربعة عشر كتاباً أو ثلاثة عشر.

 

وهذا الهدوء والسكينة التي أعجب بها الإمام الحافظ يحيى بن أبي كثير كانت خلقاً لدى الأوزاعي أكرمه الله به، فكان أدبه سجية لا تأدباً، قال تلميذه الوليد بن مزيد متعجباً من ذلك: سبحانك اللهم تفعل ما تشاء! ولد الأوزاعي ببعلبك، ونشأ بالبقاع، ثم نقلته أمه إلى بيروت، فنشأ يتيماً فقيراً في حجر امرأة تنقله من بلد إلى بلد، وقد جرى حكمك فيه بأن بلَّغتَه حيث رأيتُه! وكان الوليد بن مزيد يقول لابنه: يا بُني، عجزت الملوك أن تؤدب أنفسها وأولادها، أما الأوزاعي فأدبُه في نفسه، ما سمعت منه كلمة قط فاضلة إلا احتاج مستمعوها إلى إثباتها عنه، ولا رأيته ضاحكاً قط حتى يقهقه، ولا يلتفت إلى شيء إلا باكياً، ولقد كان إذا أخذ في ذكر المعاد أقول في نفسي: أترى في المجلس قلب لم يبك، ولا يُرى ذلك فيه.

 

ثم قال يحيى بن أبي كثير للأوزاعي: ينبغي لك أن تبادر إلى البصرة لعلك أن تدرك الحسن البصري ومحمد بن سيرين، فتأخذ عنهما، فانطلق إليهما في سنة 110، فوجد الحسن قد مات قبل دخوله بشهرين، وأما ابن سيرين فكان لا يزال على قيد الحياة ولكنه مريض، قال الأوزاعي: فكنا ندخل فنعوده، ونحن قيام لا نتكلم، وهو أيضاً لا يتكلم، فمكثنا أياماً فخرج إلينا الرجل الذي كان يوصلنا إليه، فقلنا له: ما خبر الشيخ؟ قال: تركته قد لزق لسانه بحنكه، وهو يقول: لا إله إلا الله، ومات من يومه ذلك، وكان به داء البطن. وتوفي ابن سيرين في التاسع من شوال سنة 110 وبينه وبين الحسن البصري مئة يوم، رحمهما الله.

 

وأخذ الأوزاعي عن جملة من علماء عصره منهم التابعي الكبير عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، فقيه أهل الطائف ومحدثهم، والمتوفى سنة 118 بالطائف، وقال الأوزاعي عنه: ما رأيت قرشيا أكمل من عمرو بن شعيب.

 

وأخذ الأوزاعي عن الحكم بن عتيبة الكندي الكوفي، الإمام الكبير عالم أهل الكوفة، المولود حوالي سنة 46 والمتوفى سنة 115، أخذ عنه في الحج، قال الأوزاعي: لقيت الحَكَم بمِنى، فإذا رجل حسن السمت متقنعا، وسأله شيخه يحيى بن أبي كثير وهما بمنى: لقيتَ الحكم بن عتيبة؟ قلت: نعم، قال: ما بين لابتيها أحد أفقه منه.

 

وأخذ الأوزاعي عن مكحول الشامي، مكحول بن عبد الله الكابلي الشامي، المتوفى نحو سنة 120، والذي سمع أنس بن مالك وواثلة بن الأسقع وأبا هند الداري وغيرهم، ولم يكن في زمنه أبصر منه بالفتيا، وكان لا يفتي حتى يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، هذا رأي؛ والرأي يخطئ ويصيب.

 

وأخذ الأوزاعي عن الإمام الحافظ العلم ابن شهاب الزُهري، محمد بن مسلم ، المولود سنة 52 والمتوفى سنة 124، ومما رواه عنه قوله: إنما يُذهبُ العلمَ النسيانُ وتركُ المذاكرة. ومما استفاده الأوزاعي من شيخه الزُهري قبول السنة النبوية كما جاءت، فقد حدثه الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، فسأله الأوزاعي: فما هو تفسيره؟ فأجابه: من الله القول، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم، أمِرْوا حديثَ رسول الله كما جاء بلا كيف.

 

وأخذ الأوزاعي بعده عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر المخزومي الدمشقي، الإمام الكبير الثقة، ووالي عمر بن بعد العزيز على المغرب، والمتوفى بدمشق سنة 132، وأخذ الأوزاعي عن الإمام المحدث يزيد بن يزيد بن جابر الأزدي الدمشقي، المتوفى سنة 134، وكان من كبار الأئمة الأعلام، ذُكر للقضاء مرة فإذا هو أكبر من القضاء.

 

وأخذ الأوزاعي عن أبي الهذيل الزبيدي، محمد بن الوليد بن عامر، الإمام الحافظ الحجة، قاضي حمص، المولود سنة 78 والمتوفى سنة 148، وكان من ألباء العلماء، كان من الحفاظ المتقنين، أقام معه الزهري عشر سنين حتى احتوى على أكثر علمه، وهو من الطبقة الأولى من أصحابه، وكان الأوزاعي يفضل محمد بن الوليد الزبيدي على جميع من سمع من الزهري.

 

وتأثر الأوزاعي بواعظ كبير كان في دمشق هو أبو عمرو الدمشقي، بلال بن سعد بن تميم السكوني، المولود سنة والمتوفى بعد سنة 110، قال الأوزاعي: لم أسمع واعظا قط أبلغ من بلال بن سعد، سمعته يقول: لا تنظر إلى صِغر الخطيئة، ولكن انظر من عصيت، ولا تكن ولياً لله في العلانية وعدواً له في السر.

 

ودخل الأوزاعي ميدان الفتيا في سنة 113 وعمره 25 سنة، ولم يزل يفتي بعد ذلك إلى أن توفاه الله تعالى، وقدر أحد أصحابه أنه أفتى في سبعين ألف مسألة، قال كاتبه الـهِقل بن زياد: أفتى الأوزاعي في سبعين ألف مسألة، وسئل يوما عن مسألة فقال: ليس عندي فيه خبر. أي أن التي أفتيتها كلها كان عندي أخبار. وهذا دليل على جلالة قدره في معرفة الحديث وأقوال الصحابة والتابعين والاجتهاد على ضوء ذلك، وهو مؤشر على أنه كان مقصوداً بالفتيا ولماذا أصبح صاحب مذهب يتناقله الناس ويعملون برأيه.

 

ولم يكن الفقه الميدان الوحيد أو الأول للأوزاعي، بل كان رحمه الله محدثاً واسع الرواية حافظاً ضابطاً، ولذا توارد عليه المحدثون، وتحفل كتب الحديث والأخبار اليوم برواياته، ومما يحسن ذكره في هذا المجال ما قاله تلميذه الوليد بن مزيد، قال: قلت لأبي عمرو الأوزاعي: كتبتُ عنك حديثا كثيرا، فما تقول فيه؟ قال: ما قرأتُه عليك وحدك، فقل فيه: حدَّثَني. وما قرأتُه على جماعة أنت فيهم، فقل فيه: أخبرنا. وما أخبرتُه لك وحدك فقل فيه: أخبرني. وما أخبرتُه لجماعة أنت فيهم فقل فيه: خبرنا. وكان الأوزاعي رحمه الله يرى أن لا بأس بإصلاح اللحن والخطأ في الحديث، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتكلم إلا بعربي.

 

ومن أقران الأوزاعي الإمام سفيان الثوري، المولود سنة 95 والمتوفى بالبصرة متوارياً من السلطان سنة 161، ولما حج الأوزاعي بلغ سفيانَ مقدمه فخرج حتى لقيه بذي طوى في مكة المكرمة، فحل سفيان رأس بعير الأوزاعي عن قطار الإبل ووضعه على رقبته، فكان إذا مر بجماعة قال: الطريق للشيخ. وقال الأوزاعي عما استفاده من سفيان الثوري: كنت أقول فيمن ضحك في الصلاة قولاً لا أدري كيف هو، فلما لقيت سفيان الثوري سألته فقال: يعيد الصلاة والوضوء. فأخذتُ به.

 

ويعد أيضاً من أقرانه الإمام مالك بن أنس، إمام دار الهجرة المولود سنة 93 والمتوفى سنة 179، والذي التقى به في المدينة المنورة وأثنى عليه ورأى فيه معالم الإمامة الشرعية والدنيوية، وأشار إليه كعالم الشام، قال الإمام مالك: قال لي المهدي: ضع يا أبا عبد الله كتابا أحمل الأمة عليه. فقلت: يا أمير المؤمنين، أما هذا الصقع وأشرت إلى المغرب فقد كُفيته، وأما الشام، ففيهم الأوزاعي، وأما العراق، فهم أهل العراق.

 

ومن أبرز تلاميذ الأوزاعي وألصقهم به أبو العباس الوليد بن مزيد الشامي العذري البيروتي، الحافظ الثقة الفقيه، المولود سنة 126 والمتوفى سنة 203 ، فقد  أخذ عن الأوزاعي تصانيفه، وكتبها سماعاً عنه، وكان يقابلها عليه، حتى قال الأوزاعي: ما عُرِض عليَّ كتاب أصح من كتب الوليد بن مزيد، عليكم بكتبه فإنها صحيحة. قال أبو مسهر الغساني، عبد الأعلى بن مسهر، المولود في سنة 140 والمتوفى سنة 218، وكان شيخ الشام في وقته، وكان قد التقى بالأوزاعي في شبابه، قال أبو مسهر للعباس بن الوليد: لقد حرصتُ على جمع علم الأوزاعي، حتى كتبت عن إسماعيل بن سماعة ثلاثة عشر كتابا، حتى لقيت أباك، فوجدت عنده علما، لم يكن عند القوم.

 

وكان للأوزاعي كاتبان أولهما الِهقل بن زياد الدمشقي، المتوفى سنة 179، وكان  فقيهاً ثقة، من أعلم الناس بالأوزاعي وبمجلسه وفتياه، والآخر هو أبو سعيد البيروتي، عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين، ولكنه كان مجرد كاتب صالح ولم يكن من أصحاب الحديث.

 

ولا يحصى من أخذ عن الأوزاعي الحديث أو الفقه، ومن أبرزهم الإمام محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة، والإمام عبد الله بن المبارك، حتى قال النسائي: أثبتُ أصحاب الأوزاعي عبدُ الله بن المبارك. وفي حياة الأوزاعي ظهر الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى واشتُهِر أمره وتوسع مذهبه، وقد استنكر المحدثون منهجه الفقهي بادئ الأمر، وتناولوه بالنقد، ووصل خبره إلى الأوزاعي على غير حقيقته، ولذلك قصة لعبد الله بن المبارك مع الأوزاعي نوردها لأهميتها، قال عبد الله بن المبارك: قدمت الشام على الأوزاعي فرأيته بيروت فقال لي: يا خُراساني من هذا الذي خرج بالكوفة؟ يعني أبا حنيفة، فرجعت إلى بيتي فأقبلت على كتب أبي حنيفة فأخرجت منها مسائل من جياد المسائل، وبقيت في ذلك ثلاثة أيام، فجئته يوم الثالث، وهو مؤذن مسجدهم وإمامهم، والكتاب في يدي فقال: أي شيء هذا الكتاب؟ فناولته فنظر في مسألة منها وقّعتُ عليها: قال النعمان بن ثابت. فما زال قائما بعدما أذَّن حتى قرأ صدرا من الكتاب، ثم وضع الكتاب في كمه، ثم أقام وصلى، ثم أخرج الكتاب حتى أتى عليها، فقال لي: يا خراساني، مَنِ النعمان بن ثابت هذا؟ قلت: شيخ لقيته بالعراق، فقال: هذا نبيل من المشايخ، اذهب  فاستكثر منه. قلت: هذا أبو حنيفة الذي نهيتني عنه.

 

وبعد وفاة الأوزاعي صارت الفتيا في الشام إلى أحد أقران الأوزاعي؛ أبي محمد التنوخي، سعيد بن عبد العزيز، المولود سنة 90 والمتوفى سنة 167، وكان الأوزاعي إذا سئل عن مسألة، وسعيد بن عبد العزيز حاضر، قال: سلوا أبا محمد. وهذا مثال على تواضع الأوزاعي واحترامه لمن حوله من العلماء، وإن لم تكن ثمة غرابة في ذلك، فقد كان سعيد بن عبد العزيز حجة في الحديث، يضرب المثل بورعه وتقواه.

 

وممن اتبع مذهب الأوزاعي القاضي الإمام أبو سعيد عبد الرحمن ابن إبراهيم، المعروف بدحيم، والمولود سنة 170 والمتوفى سنة 245، وكان قاضياً فقيها ومحدثاً ثقة، روى عنه البخاري وأبو داود وغيرهما.

 

وتذكر كتب التاريخ أن الخيزران زوجة الخليفة العباسي المهدي وأم ولديه الهادي وهارون الرشيد، والمتوفاة سنة 173، أخذت الفقه عن الأوزاعي، وهو أمر غريب لكونها جارية يمانية الأصل، فلعل ذلك كان في مكة المكرمة عندما كانت جارية صغيرة قبل أن يشتريها المهدي.

 

ودخل مذهب الأوزاعي إلى الأندلس علي يد أبي عبد الله صعصة بن سلام الدمشقي الذي رحل إلى الأندلس ماراً بمصر، فحدَّث فيهما بعلم الأوزاعي وحديثه، واستقر بالأندلس، ودارت عليه الفتيا بالأندلس أيام الأمير عبد الرحمن بن معاوية وصدرا من أيام هشام بن عبد الرحمن، وولي الصلاة بقرطبة، وفي أيامه غُرست الشجر في المسجد الجامع، وهو مذهب الأوزاعي والشاميين، ويكرهه مالك وأصحابه، وتوفي رحمه الله سنة 192.

 

وبقي مذهب الأوزاعي المذهب الذي عليه الفتيا في الشام، حتى تولى القضاء فيها أبو زرعة القاضي، محمد بن عثمان بن إبراهيم بن زرعة، المتوفى سنة 302، وكان شافعياً حسن المذهب عفيفاً متثبتاً، اهتم كثيراً بنشر مذهب الشافعي، فأدخله إلى دمشق، وجعل لمن حفظ مختصر المزني جائزة مئة دينار، ولعل آخر من درَّس فقه الأوزاعي في الشام كان القاضي أبو الحسن ابن حذلم، أحمد بن سليمان بن أيوب الأسدي الدمشقي الأوزاعي، المتوفى سنة 347 عن 89 سنة، والذي كانت له حلقة في جامع دمشق، يدرس فيها مذهب الأوزاعي، وبعد ذلك تلاشى اهتمام طلبة العلم بالمذهب فاندثر اتِّباعه، ولكن آراء الأوزاعي الفقهية لا تزال مبثوثة في كتب الفقه والحديث والتفسير.

 

ومن طريف فتاوى الأمام الأوزاعي ما رواه تلميذه الوليد بن المزيد، قال: كان رجل من أهل الأوزاع ولدت له امرأة تسع بنات، فقال لها وقد حملت منه: إن ولدت جارية لأطلقنك! وخرج إلى المسجد فولدت جارية فلفتها في رقاعها وحملتها وألقتها في كنيسة توما، وجاء الرجل فدخل عليها فنظر إلى حالها فلم يزل بها حتى أقرت له وأعلمته بمكانها، فذهب ليجئ بها فوجدها ومعها أخرى، فحملهما إليها فقال لها: أيتهن بنتك؟ قالت: لا أدري. فسئل الأوزاعي فقال: ترثان منه ومنها؛ ميراث جارية، وترث منهما؛ ميراث جارية، ولا تتوارثان إذا ماتتا؛ لأنهما ليستا بأختين.

 

وفي سنة 145 وقعت هزة أرضية ضربت شرقي البحر المتوسط ونتج عنها أن احترقت كتب الأوزاعي التي تضم مروياته، ومنها الكتب التي كتبها عن يحيى بن أبي كثير، فقال له أصحابه: يا أبا عمرو، إن نسخها عند أبي الأسود. وكان أبو الأسود رجلاً فاضلاً، وكان قد كتب كتب الأوزاعي، وصححها مراراً، ومنزله ببيروت عند قبلة الجامع فقال الأوزاعي: بل نحدث بما حفظنا منها. وما حدث بحرف من ذلك إلا ما كان يحفظه.

 

 لم يكن الأوزاعي عالماً أو فقيهاً منعزلاً عن ما يجري في البلاد من حوله من قضايا وأمور تتعلق بصلاح الدين أو الدنيا، ومن هذه القضايا، قضية تكفير الناس والمجتمع، وترك الصلاة في مساجد أئمّة الجور، والتي حمل لواءها الخوارج في العهد الأموي، ونورد هنا رسالة كتبها الأوزاعي إلى أحد رؤوسهم وهو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، المولود سنة 75 والمتوفى سنة 165، وكان والده عالماً من المحدثين الثقات وصديقاً للأوزاعي:

 

أما بعد، فقد كنتَ بحال أبيك لي وخاصةِ منزلتي منه عالما، فرأيتُ أن صلتي إياه تعاهدي إياك بالنصيحة في أول ما بلغني عنك في تخلفك عن الجمعة والصلوات، فجددتُ ولهجت، ثم بررتُ بك فوعظتُك، فأجبتني بما ليس لك فيه حجة ولا عذر، وقد أحببتُ أن أقرن بنصيحتي إياك عهدا عسى الله أن يحدث به خيرا، وقد بلغنا أن خمسا كان عليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان: اتباع السنة، وتلاوة القرآن، ولزوم الجماعة، وعِمارة المساجد، والجهاد في سبيل الله، وحدثني سفيان الثوري أن حذيفة بن اليمان كان يقول: من أحب أن يعلم أصابته الفتنة أو لا؟ فلينظر: فإن رأى حلالا كان يراه حراما، أو يرى حراما كان يراه حلالا، فليعلم أن قد أصابته! وقد كنتَ قبل وفاة أبيك رحمه الله ترى ترك الجمعة والصلوات في الجماعة حراما، فأصبحت تراه حلالا! وكنتَ ترى عمارة المساجد من أشرف الأعمال، فأصبحت لها هاجرا، وكنت ترى أن تَرْكَ عصابتك من الحرس في سبيل الله حرجا، فأصبحت تراه جميلا! وحدثني سفيان منقطع عن ابن عباس أنه قال: من ترك الجمعة أربعا متواليات من غير عذر، فقد نبذ الإسلام من وراء ظهره! وحدثني الزهري عن أبي هريرة: أنه من ترك الجمعة ثلاثا من غير عذر، طُبِع على قلبه! وقد خاطرت بنفسك من هذين الحديثين عظيما، فاتْهِم رأيك فإنه شرُّ ما أخذتَ به، وارْضَ بأسلافك إماما، قد كنتَ في ثلاث سنوات مررن والمساجد والديار تُحرق، والدماء تُسفك، والأموال تنتهب، مع أبيك لا تخالفه في ترك جمعة ولا حضور صلاة مسجد،  ولا ترغب عنه حتى مضي لسبيله، وأنت ترى أنك بوجه هذا الحديث: كن حِلْس بيتك. ومثله من الأحاديث، أعلم بها من أبيك وممن أدرك من أهل العلم، فأعيذك بالله وأنشدك به أن تعتصم برأيك شاذا به دون أبيك وأهل العلم قبله، وأن يكون لأصحاب الأهواء قوة وللسفهاء في تركهم الجمعة فتنة؛ يحتجون بك إذا عوتبوا على تركها، أسأل الله أن لا يجعل مصيبتك في دينك، ولا يغلب عليك شقاء ولا اتباع هوى بغير هدى منه، والسلام عليك.

 

ثم أوردُ خبراً آخر في الموضوع ذاته، وهو يلقي الضوء على زاوية أخرى من اهتمام الأوزاعي بهذه القضايا وفقهه فيها، فهو يرى وجوب مصادرة أموال الوالي الظالم الفاسد، روى أبو حفص الثقفي، عمر بن هارون البلخي، المولود نحو سنة 128 والمتوفى سنة 194، قال: لما قدمت الشام وذلك في أول أيام دولة بني العباس، أتيتُ الأوزاعي فسألني عن أحوال الناس بخراسان، فأخبرته حتى انتهيت إلى ذكر وال عندنا من أصحاب أبي مسلم الخراساني، فوصفت له جوره وظلمه وانتهاكه المحارم، وأخذه أموال الناس بالباطل، فقال الأوزاعي: ولِـمَ تصبروا عليه؟ قلت: فما عسينا أن نصنع به؟ قال: ترفعون أمره إلى السلطان، فقلت: إن السلطان في هذا الوقت شديد البأس والسطوة، ونخشى إن رفعنا أمره إليه أن يهلكه، فنكون نحن السبب في ذلك، فقال الأوزاعي: أبعده الله، وما عليكم مما يكون منه؟ قلتُ: فما نصنع بالخبر؟ فقال: وأي خبر تعني؟ قلت: قوله في الأثر: فاصبروا حتى يستريح بَرٌ أو يستراح من فاجر، فقال: إنما هذا في الأصول لا في الفروع، فقلت: يا أبا عمرو، فإن رفعنا أمره إلى السلطان فردَّ الأمر فيه إلينا، وقال لنا: ما تسألون فيه؟ ما ترى أن نقول؟ قال: تسألونه أن يزيله عنكم، ويعاقبه وينكل به، ويستخرج الحقوق من يده لأهلها. قلت: فإن لم يحضر أهلها فيطالبوه بها، قال: لا تُترك في يده يقوى بها على الباطل إذا عُلِم أنه أخذها بغير حق، ولكن ينزعها الإمام. قلت: فما يعمل إذاً فيها؟ قال: إن قدر على أصحابها ردها عليهم، وإلا صرفها في مصالح المسلمين.

 

ولعل أخطر موقف وقفه الأوزاعي وصدع فيه بالحق كان مع عبد الله بن علي بن عباس الذي كان قائد جيوش العباسيين إلى الشام سنة 132، بعد هزيمته الخليفة الأموي مروان بن محمد، وفتحه دمشق وهدمه سورها، واستباحته مسجدها، ويقدر من قتله من أهلها بقرابة 50.000 شخص، وبعد ذلك قتل في فلسطين 80 رجلاً من أعيان بني أمية كان قد أعطاهم الأمان، واستدعى عبدُ الله بن علي الإمامَ الأوزاعي لكونه العالم الأبرز في الشام، ويروي الأوزاعي ما جرى في هذا اللقاء، فيقول:

 

لما فرغ عبد الله بن علي من قتل بني أمية بعث إلي، فدخلت عليه أتخطى القتلى، وقد أقام أولئك الجند بالسيوف والعمد، فسلمت، فأشار بيده، فقعدت، فقال: يا عبد الرحمن، أيُعد مقامنا هذا ومسيرنا رباطا؟ قلت: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها أو إلى الله ورسوله فهجرته إلى ما هاجر إليه، قال: فما تقول في أموال بني أمية؟ قلت: إن كانوا أخذوها حرام فهي عليهم حرام أبدا وعلى من أخذها منهم، وإن كانوا أخذوها حلالا فهي حرام على من أخذها منهم، فقال: ما تقول في دماء بني أمية؟ وسأل مسألة رجل يريد أن يقتل رجلاً، فأخذتُ في حديث غيره وذكرت له أن أخاه داود بن علي كان صاحبي، فقال: قد علمتُ من حيث حِدتَ، أجب إلى ما سألتك عنه. قال الأوزاعي: وما لقيت مفوهاً مثله قط، فقلت لأصدقنه، واستبسلت للموت، ثم قلت: كأن لهم عليك عهداً، وإن كان ينبغي لك أن تفي لهم بالعهد الذي جعلته. فقال لي: فاجعلني وإياهم، ولا عهد لهم علي، ما تقول في دمائهم؟ قلت: هي عليك حرام، حدثني أخوك داود بن علي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحل قتل مسلم إلا في ثلاث: الدم بالدم، والثيب الزاني، والمرتد عن الإسلام. فقال لي: ولم ويلك؟ أو ليست الخلافة وصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاتل عليها عليٌ بصفين؟ قلت: لو كانت الخلافة وصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترك علي رضي الله عنه أحدا يتقدمه وما رضي عليٌ بالحكمين، قال: فنكس، ونكستُ أنتظر، فأطلت ثم قلت: البولة، قال: فأشار بيده: هكذا، أي اذهب.

 

قال الأوزاعي: فقمت، فجعلت لا أخطو خطوة إلا ظننت أن رأسي يقع عندها، فركبت دابتي، فلما سرت غير بعيد، إذا فارس يتلوني، فنزلت إلى الأرض، فقلت: قد بعث ليأخذ رأسي، أصلي ركعتين، فكبرت، فجاء وأنا قائم أصلي فسلم، وقال: إن الأمير قد بعث إليك بهذه الدنانير فخذها. فأخذتها، ففرقتها، وانسللت منه هرباً إلى جبل الجليل فنزلت بواصل بن أبي جميل السلاماني، فما تهنأت بضيافة أحد كما تهنأت بضيافة هذا الرجل، وَارَاني في هُرَي له فيه عدس، فكانت خادمه تجئ في كل يوم فتأخذ من ذلك العدس فتطبخ لنا منه. فكان لا يتكلف لي، فتهنأت بضيافته.

 

قال الإمام الذهبي بعد أن أورد الخبر: قد كان عبد الله بن علي ملكا جبارا، سفاكا للدماء، صعب المراس، ومع هذا فالإمام الأوزاعي يصدعه بمُرِّ الحق كما ترى، لا كخَلْق من علماء السوء، الذين يحسِّنون للأمراء ما يقتحمون به من الظلم والعسف، ويقلبون لهم الباطل حقا، قاتلهم الله، أو يسكتون مع القدرة على بيان الحق.

 

ونذكر هنا أن أحد الناس سأل الأوزاعي: يا أبا عمرو، هذا جيش عبد الله بن علي قد جاء، فنبيعهم علفاً؟ قال: لا، ولا إبرة.

 

ولما تولى الحكم أبو جعفر المنصور، وكان صاحب فقه وعلم، كتب إلى الأوزاعي رسالة جاء فيها: جعل أميرُ المؤمنين في عنقك ما جعل الله لرعيته قِبَلَك في عنقه، فاكتب إلي بما رأيت فيه المصلحة مما أحببت. فأجابه الأوزاعي: أما بعد، فعليك بتقوى الله، وتواضَع يرفعك الله يوم يضع المتكبرين في الأرض بغير الحق، واعلم أن قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لن تزيد حق الله عليك إلا عِظَما، ولا طاعتَه إلا وجوبا. وهناك أخبار أخرى في هذا الباب للأوزاعي في لقائه مع الخلفاء والأمراء ورسائله لهم يضيق المقام عن ذكرها، فراجعها إن شئت في كتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم.

 

كان الأوزاعي فصيحاً حسن الترسل، صاحب حكمة ورأي، على أنه كان يطيل الصمت، قال أحد أصحابه: كان من ينظر في رسائل الأوزاعي وجواباته؛ يقول هذا صاحب كلام، وما رأينا أكثر سكوتا منه إلا عند الحاجة. وكانت كلماته تؤثر عنه وتكتب، دخل الأوزاعي على محمد بن كثير وهو عليل، وكان أبو حاتم الرازي عنده، فقال له:  رفع الله جنبك، وغفر ذنبك، وفرَّغك لعبادة ربك. فقام أبو حاتم وكتبه بيده. ومن أقواله رحمه الله: من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام، وما ابتدع رجل بدعة إلا سُلِب ورعه، إن المؤمن يُقلّ الكلام، ويكثر العمل، وإن المنافق يكثر الكلام ويقل العمل.  وقال: طالب العلم بلا سكينة ولا حلم، كالإناء المنخرق كلما حُمِلَ فيه شيء تناثر.

 

تزوج الأوزاعي أم أبي سعيد البابلتي، يحيى بن عبد الله بن الضحاك، البابلتي الحراني، وبابلت موضع في الجزيرة الفراتية، وله ولد اسمه محمد كان من أعبد خلق الله في زمانه، ونقل محمد عن والده قوله: ما من امرئ يشاور من هو دونه في النبل والرأي، تواضعا لله تعالى عز وجل واستكانة، إلا عزم الله له الرشد. قال: فربما رأيته يشاور الخادم الذي يخدمه. ونصحه والده فقال: يا بني لو كنا نقبل من الناس كل ما يعرضون علينا، لأوشك بنا أن نهون عليهم.

 

كان للأوزاعي ثلاث بنات منهن ابنة اسمها رواحة روت عنه بعض الأحاديث، وتزوجت ابنته هذه أو غيرها من إسماعيل بن يزيد بن حجر البيروتي، وله منها ولد، ولهما رواية عن الأوزاعي، وأفتى الأوزاعي جارية من جواري أبي جعفر المنصور في أمر، فأرادت أن تهديه، فسألت عن ولده فأخبرت أن له ثلاث بنات، فأخرجت إليه ثلاث درات هدية لهن، فلما قدم على بناته قال لهن: إن هؤلاء الدرات أُهدين لكن، ولا يصلحن إلا مع شبههن من الحلي، ولكن رأيت رأيا إن أحببتن فعلته، قلن: وما هو؟ قال: نبيعهن ونتجر بأثمانهن، لعل الله أن ينفعكن وإيانا به، قلن: نعم، فبعث بهن إلى دمشق فبُعن بثمانين ومئتي دينار، وكان مدخل الشتاء فأمر الذي باعهن أن يشتري له قطيفا وقطعاً من القماش الأنْبِجاني وبعث بهن إليه.

 

وكان الأوزاعي حاضر الخشوع شديد الخشية، ما رئي باكيا قط ولا ضاحكا حتى تبدو نواجذه، وإنما كان يتبسم أحيانا كما روي في الحديث، وكان يقول في هذا: كنا قبل اليوم نمرح ونضحك فلما أن صرنا أئمة ينظر إلينا ويقتدى بنا فينبغي لنا أن نتحفظ.

 

وكان الأوزاعي رحمه الله يحيي الليل صلاة وقرآنا وبكاء، وكان رقيق الشعور،  ذكر يوماً  أباه، فبكى بكاءً خفيفاً لم ينتبه له إلاّ من قرب منه وتأمّله، واتسم الأوزاعي بالتواضع الشديد على جلالة قدره في العلم وتفرده به في الشام، قال أبو إسحاق الفزاري: ما رأيت أحدا كان أشد تواضعا من الأوزاعي، ولا أرحم بالناس منه، وإن كان الرجل ليناديه فيقول: لبيك!

 

وكان الأوزاعي رحمه الله كريم النفس واليد، يقبل الهدية إذا قبل صاحبها منه أن يردها بهدية، نزل مرة بالبقاع بأهل بيت من النصارى فرفقوا به وخدموه، فقال لرجل منهم: ألك حاجة؟ فشكا إليه ما أُلزم من الخراج، فكتب له إلى عامل أبي جعفر المنصور على الخراج، فلما دفع إليه الكتاب وضعه على عينيه فقال: حاجتك؟ فذكرها فقضاها له، فلما انصرف الذمي ذكر لامرأته فقالت: ويحك، أهدِ له هدية! وكان صاحب نحل، فملأ قمقما له من نحاس شهدا وأقبل به إلى الأوزاعي، فأمر الأوزاعي بقبض القمقم، وسأله عن خراجه، فأخبره أنه قد بقى عليه ثمانية دنانير، قال: فتجدها؟ قال: قد عسرت علي في أيامي هذه. فدخل الأوزاعي منزله وأخرج إليه الدنانير فقال: اذهب حتى تؤديها عنك، فأبى، قال: فخذ قمقمك، قال: يا أبا عمرو وأي شيء ذاك؟ إنما ذاك من نحلي، قال: أنت أعلم، إن شئتَ قبلنا منك وقبلت منا، وإلا رددنا عليك كما رددت علينا. فأخذ النصراني الدنانير وأخذ الأوزاعي القمقم.

 

كان الأوزاعي في طوله فوق الربعة، خفيف اللحية، به سمرة، وكان يخضب بالحناء، يلبس طيلسانا أسود أو أخضر، وكره لبس السواد الذي فرضه العباسيون على الناس، ولذلك قصة طريفة، وهي أنه لما دخل على أبي جعفر، فلما أراد أن ينصرف، استعفى من لبس السواد، فأجابه أبو جعفر، فلما خرج الأوزاعي، قال أبو جعفر للربيع: الحقه فاسأله لم استعفى من لبس السواد ولا يعلم أنى أمرتك، فلحقه الربيع فقال: يا أبا عمرو رأيتك استعفيت أمير المؤمنين من السواد، فما بأس بالسواد؟ قال: يا ابن أخي، لم يحرِم فيه محرِم، ولا كُفِن فيه ميت، ولم تزين فيه عروس، فما أصنع بلبسه.

 

توفي الأوزاعي مختنقاً في الحمام ببيروت، اختضب بعد انصرافه من صلاة الصبح، ودخل في حمام له في منزله، وأدخلت معه امرأته كانونا فيه فحم لئلا يصيبه البرد، فقد كان الوقت في شدة الشتاء، وأغلقت الباب خارجه، فلما فسد الهواء بفعل الكانون، عالج الباب ليفتحه فامتنع عليه، فألقى نفسه فوجدوه متوسدا ذراعه إلى القبلة.

 

قال سالم بن المنذر: لما سمعت الصيحة بوفاة الأوزاعي خرجت، وأول من رأيت نصرانياً قد ذر على رأسه الرماد، فلم يزل المسلمون أهل بيروت يعرفون ذلك له، وخرجت في جنازته أربع أمم ليس منها واحدة مع صاحبتها، وخرجنا يحمله المسلمون، وخرجت اليهود في ناحية، والنصارى في ناحية، والقبط في ناحية، ولا عجب في ذلك فقد كان يدافع عنهم ويطالب بإنصافهم تجاه الولاة في بيروت ودمشق، ولذا وقف على قبره والي الساحل بعد دفنه فقال: رحمك الله أبا عمرو، فو الله لقد كنت لك أشد خوفاً من الذي ولاني، فمن ظُلِم بعدك فليصبر.

 

وألهم الله سفيان الثوري بوفاة الأوزاعي، فقد جاءه رجل فقال له: اكتب لي إلى الأوزاعي يحدثني، فقال: أما إني أكتب لك، ولا أراك تجده إلا ميتا، لأني رأيت ريحانة رفعت من قبل المغرب، ولا أراه إلا موت الأوزاعي. فأتاه، فإذا هو قد مات.

 

صار إلى الأوزاعي أكثر من سبعين ألف دينار من بني أمية وبني العباس، أخرجها كلها في سبيل الله والفقراء، فلما مات ما خلف إلا سبعة دنانير بقية من عطائه، وما كان له أرض ولا دار.

 

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى? نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين