الإصلاح بالدعوة لا بالسلاح

 

لجأت بعضُ الجماعات التي "تحكم" بعضَ الأرياف في المناطق المحررة إلى استغلال قوّتها واستعراض سلطانها على الناس، فأصدرت قراراً بمنع التدخين ومنع بيع الدخان، ثم قامت بملاحقته والقضاء عليه بالمصادرة والتحريق.

 

والتدخين عادة قبيحة لا ينبغي لعاقل أن يعبّد نفسَه لها، فإن المدخن يحرق ماله ويقتل نفسه، ولأنه ثبتَ ضررُه بتفاوت بين الناس فقد اختلف العلماء فيه بين الكراهة والتحريم. فلا ريب أن المجتمع الصالح المتحضّر سيحرص على تخليص أفراده من هذه الآفة وسوف يجتهد في إنتاج مجتمع خال من التدخين، ولكن هل يكون تنظيف المجتمع من الدخان بالقوة والإكراه؟

 

هذا عمل تَقْدر عليه أيُّ جماعة تملك السلاح، أيْ أن المناطق المحررة كلها يمكن أن تصبح خالية من الدخان. ولكنّ السلاحَ لن يبقى في أيدي الناس إلى الأبد؛ سوف يسقط النظام ذات يوم (عسى أن يكون قريباً) وتنشأ دولة حرة مستقلة لها جيش وطني سيلتحق به من شاء من أهل السلاح ويعود الباقون إلى حَيَواتهم وأعمالهم، وعندئذ ستعود المناطق المحررة إلى حضن الدولة السورية، فهل سيستمر سكانها في ترك التدخين والامتناع عن بيع الدخان بعد انحسار القوة التي حملتهم على تركه بالقَسْر والإكراه؟

 

*   *   *

 

كنت ألقي قبل سنوات محاضرات في التربية، فكنت أحذّر مما أسمّيه "التربية الزنبركية". سألني الحاضرون: وما التربية الزنبركية؟ قلت: هل تعرفون الزّنْبَرك؟ (كذا نسميه في الشام، ويُسمّى "النابض" في بعض البلدان). إنك لو ضغطتَه انضغط إلى ثلث طوله الأصلي أو ربعه، ويبقى مضغوطاً ما أبقيتَ إصبعك عليه، وفي اللحظة التي تزيح فيها الإصبعَ سوف يقفز في الهواء وينقذف بعيداً، فلا هو بقي مضغوطاً ولا هو بقي في موضعه الذي كان فيه قبل الضغط.

 

هذا مثال التربية بالإكراه. إنك تستطيع أن تسيطر على ولدك الضعيف بالقوة، لكن سيطرتك لن تستمر إلى الأبد، يوماً ما سيكبر ويخرج عن السيطرة، وعندها سيطير بعيداً وينتقل إلى حالة أسوأ من التي كان عليها قبل الضغط. أما لو ربيت في نفسه الإيمان وزرعت الخير والصلاح فسوف يجد له من نفسه هادياً ومراقباً طول حياته، فيكون الصلاح فيه طبعاً أصلياً لا تطبّعاً وسلوكاً ذاتياً بلا توجيه خارجي ولا إكراه.

 

هذه القاعدة تنطبق على الصغار ويحسن أن يتنبّه إليها الوالدون والمربّون، وهي تنطبق أيضاً على الراشدين وينبغي أن يراعيها الدعاة والمصلحون.

 

*   *   *

 

سألت ذات يوم أحد الغربيين عن مسألة شغلت ذهني طويلاً، قلت: لماذا ترك أكثرُ الناس في بلادكم التدخينَ ولم يتركوا معاقرة الخمور؟ أليس الضرر متحقّقاً فيهما جميعاً؟ قال: لم يحاول أحدٌ أن يقاوم الخمور لأنها جزء من الثقافة الاجتماعية للمجتمعات الغربية، أما التدخين فقد تعرض إلى حملات إعلامية مركّزة لسنوات طويلة أوصلت الناسَ إلى قناعة ذاتية بضرره فتخلَّوا عنه طوعاً، واتسعت هذه الثقافة وانتشرت حتى صارت ثقافةَ الأغلبية، ففرضوها على الأقلية المدخنة، وصار التدخين ممنوعاً بالقانون في الحافلات والطائرات والقطارات والمطارات وغيرها من الأماكن العامة.

 

حسناً، ها هي كلمة السر إذن: "وصل الناس إلى قناعة ذاتية بضرره فتخلوا عنه طوعاً"، أي أن القوانين القسرية لم تطبَّق إلا على الأقلية التي خالفت الرأي العام، والرأي العام لم ينشأ بقوة القانون بل بقوة الفكر والإقناع. وقد صنعَت ذلك عندهم أجهزةُ الإعلام، أما عندنا فإنها مسؤولية الدعاة والعلماء والمربين والمفكرين والمصلحين.

 

*   *   *

 

إننا نتأكد مرة بعد مرة أن الدعوة والإقناع هما الطريق إلى الحياة الأخلاقية الإسلامية الصحيحة، ولقد قلتها من قبل ولن أمَلّ من تكرارها: لا حاجة لنا بإسلام يأتي بالقهر والاستبداد، فإن القوة التي تفرضه تزول ذات يوم فيزول التدين معها ويعود الناس إلى حال أسوأ من الذي كانوا عليه، أما القناعة فإنها تبقى ويبقى معها الدين.

 

نريد أن يصل المسلمون اليوم إلى ما وصل إليه المسلمون بالأمس، حينما حرّم الله الخمر فأهرقوه حتى سالت منه جوانب الطرق في المدينة. نريد أن يصنع المسلمون اليوم ما صنعه المسلمون الأوّلون حينما حُرِّم لحم الحمير الأهلية؛ أخرج البخاري في حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر منادياً فنادى في الناس: "إن الله ورسوله يَنهَيانِكم عن لحوم الحُمُر الأهلية". قال (وهنا الشاهد): فأُكفِئَت القُدورُ وإنها لَتَفورُ باللحم.

 

لم يرسل النبي صلى الله عليه وسلم الشُّرَط والحرس يدورون على المتاجر والبيوت ليمنعوا بيع لحوم الحُمُر وطبخها، ولم يُصدر فرمانات ولا أنذر بعقوبات. لقد ربّى الإيمانَ في نفوس الناس وزرع في قلوبهم خوف الله، ثم أخبرهم بما أحل الله لهم وما حرّم عليهم، فاستجابوا -بأغلبيتهم ومجموعهم- لقانون الإسلام وكانوا هم الحرّاس على حمايته وتطبيقه.

 

متى يدرك الدعاة والمصلحون والناس جميعاً أن هذا هو الطريق؟

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين