الإصلاح الديني في دمشق مطلع القرن الرابع عشر

 
 
 
د. محمد أنس سرميني
 
 
لم تنقطع جهود رجالات الإصلاح والعلم في بلاد الشام في نشر الوعي الديني الحق بين الناس، وفي تخليص الدين مما رسب فيه من شوائب وضلالات، عمّقتها عصور التخلُّف والخرافة، وباعدت بين الناس وبين والفهم الصحيح للدين، وبرزت في مطالع القرن المنصرم، ملامح تيارين إصلاحيين في دمشق، حملا لواء نهضة فكرية علمية توعيوية دينية.
 
التيار الأول اعتمد نشر السُّنة والفقه والعلم بين الناس، من خلال الدروس العامة الشعبية التي كانت تقام في الجامع الأموي، فرفعت من ثقافة الناس الدينية، وحققت الانتشار والذيوع في نفوس العامّة، وكسرت ذلك الطوق الاجتماعي والذي به احتكرت عدة أسر دمشقية عريقة قضايا الافتاء والإمامة والخطابة والشؤون الدينية الأخرى، وأعادت مسائل الدين والفقه إلى منزلتها الصحيحة ثقافة شعبية شائعة بين الناس.
 
وكان على رأس هذا الاتجاه الشيخ بدر الدين الحسني وتلامذته،[1] الذين تولوا إمامة الجامع الأموي في دمشق، وجعلوا منه منارة علمية تتوالى فيه الدروس ليل نهار، والتي اشتهرت بجماهيريتها وإقبال الشاميين من دمشق وريفها وباقي مدن الشام إليها. وأخذ هذا التيار طابعاً إصلاحياً شعبياً، لم يُعن قادته بالتأليف وبالتصريح بمنهجهم الإصلاحي وتحريرِه، بقدر عنايتهم بالدُّروس والدَّعوة.
 
أمّا الاتجاه الإصلاحي الثاني، فإنَّه جعل اهتمامه منصباً في نشر العلم والسنة، ونبذ البدع ومحاربة الخرافة في الدين، ولكن ليس من خلال الدروس العامة الشعبية، وإنما من خلال حلقات العلم المختصة وبواسطة تأليف الكتب والموسوعات، ونشر علوم الأوائل في المطابع، واعتماد وسائل الإعلام الحديثة آنذلك وأهمها المقالة الصحفية.
 
وكان على رأس هذا الاتجاه الشيخ جمال الدين القاسمي وشيخه البيطار ومن بعدهما ابنه محمد بهجة البيطار، وأسرة الخطيب والأرناؤوط، إلا أن محاربة البدعة، وما ألفه الناس من أمور، قد وسَّعت الشُّقة بين أصحاب هذا الاتجاه والناس، فقلل من شعبيتهم، والتي تجمهرت حول أصحاب المنهج الأول، ولهذا عكفوا على التأليف والتصنيف، فأكسبهم ثراء في منهجهم الإصلاحي وَتَوضَّحت به ملامحه، وكأن الطرفين قد أكمل كل منهما جهود الآخر.
 
وأما عن العلاقة بين المنهجين، فمن الملاحظ أن كلاً منهما أغمض الطرف عن الآخر، ولا يصح أنَّ أحداً منهما قد تعرض للآخر بنقد أو بثناء، والسبب في هذا جليٌّ فالإصلاح كان غايتهما، والجهل والبدعة هو خصمهما، وإن اختلفت الوسيلة في تحقيق ذلك، وقد وردت عن الشيخ القاسمي في العلاقة مع الشيخ بدر الدين الحسني تحمل دلالات تؤكد ذلك، ومنها: أن موقف كلا الفريقين من أزمة الأمة المسلمة آنذلك واحدٌ، وأن داءها الشديد هو ترهل الخلافة العثمانية وانحرافها عن طريق الرشاد إلى الملك العضوض من ناحية، ومن ناحية أخرى بالجهل والجمود والتعصب والوقوف على ظواهر النصوص والتمسك بأباطيل المبتدعة، يثبت صحة هذا الكلام تصريح الشيخ بدر الدين الحسني "إن الخلافة الإسلامية صارت ملكاً عضوضاً". وهو موقف سياسيٌ قريبٌ من موقف القاسمي المعلوم من الخلافة العثمانية.
 
كما يؤكد تلك العلاقة الطيبة بين الطرفين أن الشيخ القاسمي وجَّه أخاه الشيخ قاسم الذي نشأ في حجره وتربيته إلى طلب العلم على يد الشيخ محمد بدر الدين الحسني، وحصل على الإجازة بين يديه، وهو يدل على ملازمة وتواصل علمي مطوَّل بين الشيخ وتلميذه.
 
ولا تزال إلى الآن آثار هذين المنهجين في دمشق حاضرة ومشرقة، يكمل أحدهما الآخر، وهي من مزايا دمشق الفيحاء التي لم تتوفر على الدرجة ذاتها في باقي مدن الشام.
 
[1] بدر الدين الحسني، محمد بن يوسف بن عبد الرحمن المغربي المراكشي 1267- 1354 هـ: محدث الشام في عصره، ولد في دمشق وتوفي فيها، انقطع للعبادة والتدريس، وكان يأبى الإفتاء ولا يرغب في التصنيف، وقيل إنه ألف نحو أربعين كتاباً قبل أن يبلغ الثلاثين من عمره. الأعلام، الزركلي، 7/ 157- 158.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين