الإسْلامُ والغَرْبُ نَظَراتٌ بقلم العلامةِ محمود محمد شاكر

 

العلامة البحّاثة المرحوم محمود شاكر (توفي عام 1997) من الشهرة وجميلِ الذكر، وطيب النشر بمكان، وجلُّ شهرته تتكئ على علمه الذي لا يدانَى في عالم الأدب واللغة والشعر، وما إلى ذلك؛ فتحقيقاته وتقريراته في هذه العلوم بلغت من النّفاسة، والدّقة، وصواب الرأي، وبُعْد النظر، وسموّ الخيال مبلغاً فاق فيه الأقران، بل كثيراً ممن أتى عليهم الزمان. وأزيد فأقول: إنّه ليخيَّل لمن يُنعِم النظرَ في آثار محمود شاكر أنّ بينه وبين كتب السلف إصراً، وهو أن تخصَّه وحده بمكنون فهمها، وتناجيه ويناجيها بما به يستثير دفينَ سطورها ومرامي عباراتها، وكأنها ألقت إليه مَقادها وأعطته مفاتيح أسرارها.

 

وإن التحقيقات الفريدة التي عرف بها الشيخ شاكر ليست بمقصورة على الأدب واللغة والشعر، إنما تتعداها إلى قضايا مهمّة في الفكر والتاريخ والسياسة، قارع فيها كثيراً من المستشرقين والمبشّرين، وخلفاءهم من أباء جِلدتنا، ممن حطبوا في حبلهم ومالوا إلى هواهم. جعل الشيخ شاكرٌ هَمَّه وسَدَمه- أوّلاً وآخراً، ليلاً ونهاراً، صحةً وسقماً - الدفاعَ عن أمّته العربية الإسلامية، التي طوّقتها قوى الشر والفساد والفجور من جميع الجهات، وشدت عليها القبضة أن تقاوم أو تتفلت.

 

يقول في كتابه أباطيل وأسمار:

«إنَّ فصول هذا الكتاب لها غرضٌ واحد، هو الدفاعُ عن أمّة برمّتها، هي أمّتي العربيةُ الإسلامية. وجعلت طريقي أن أهتك الأستارَ المسدَلة التي عمل من ورائها رجالٌ فيما خلا من الزمان، ورجالٌ آخرون قد ورثوهم في زماننا. وهمّهم جميعاً كان: أن يحقّقوا للثقافة الغربيةِ الوثنية كلّ الغلبة على عقولنا، وعلى مجتمعنا، وعلى حياتنا، وعلى ثقافتنا.... فصار حقّاً عليَّ واجباً أن لا أتلجْلجَ أو أُحجِم أو أُجَمجِم أو أداري ما دمت قد نصّبتُ نفسي للدفاع عن أمتي ما استطعت إلى ذلك سبيلا = وصار حقّاً عليَّ واجباً أن أستخلص تجاربَ خمسين سنةً من عمري قضيتها قلقاً حائراً، أصارع في نفسي آثارَ عدوٍ خفيّ، شديدِ النِّكاية، لم يلفتني عن هولِ صراعه شيءٌ منذ استحكمتْ قوّتي واستنارت بصيرتي، ومنذ استطعت أن أهتك السترَ عن هذا العدوّ الماكر الخبيث= ثم صار حقّاً عليَّ واجباً أن لا أعرّج على بُنيَّات الطريق إلا بعد أن أجعل الطريق الأعظم الذي تشعبتْ منه واضحاً لاحباً مستبيناً= ثم صار حقّاً عليّ واجباً أن لا آلو جُهداً في الكشف عن حقيقة هذا العدو، وعن حقيقة الصراع الذي عانيته وحدي على وجهٍ من الوجوه، والذي عانيته مع أمتي العربيّة الإسلاميّة على وجوه آخر [1]».

 

إن الشيخ شاكر بحقٍّ إنسانٌ عجيبُ الفراسة مُلْهم، بعيد الغَور، نِقابٌ متدسّس، يستشفّ بواطن الأمور، ويقف على مخبوء حقائقها ومقاديرها. يغوص في التاريخ بعين البصر والبصيرة، متسعيناً بما حباه مولاه من فهمٍ نادر، وملكة في البحث والنقد راسخة، وذوقٍ أدبي باسقٍ مستَحكم، ثم يعود إليك بجواهر الرأي ودرر القول وفرائد الفوائد. وأسوق كلاماً للرافعي رحمه الله تعالى يبين فيه شروط كتابة التاريخ، تأمّلْه طويلاً، وتدبره ملياً، لجلالة العلم الذي حواه من جهة، ولخروجه عليه دمغةٌ رافعية من جهة أخرى.

 

يقول: «إنّ أخصَّ شروطِ الطّريقة العلمية في دَرْس التّاريخ و كتابته أن يستوعب المؤرّخُ كلّ ما قيل و كُتب في موضعه، ممّا يتعلّق بحادثٍ أو شخصٍ أو موضوعٍ، لا يفوته من ذلك شيءٍ، فإذا هو أتى على المادة، ووضع يدَه منها حيث أراد وأمِنَ أن يكون ندّ عنه أمرٌ ذو بالٍ جاء الشرطُ الثاني لهذه الطريقة، ووجب حينئذٍ أن يتجرّد من أهواءه ونزَعاته، ويتجرّدَ من شخْصه الإنساني، ليصبح في عمله شخصاً، كما يتجرّد القاضي ليكون في قضائه شخصاً قانونياً ليس غير... ومع أن الطّريقة العلميةَ قائمةٌ على استقراء المادّة و الإحاطة بها من جميع جهاتها، فهي لا تُخرِج التاريخَ نفسه كما هو في الواقع، وإنّما تجيء برأيٍ فيه يكون معيارُه دائماً ذكاءَ صاحبِه وعقله وخياله. ولهذا اشترطوا في صاحب تلك الطّريقة أن يكون ممن رُزقوا البراعةَ كلّ البراعة في إصابة الحَدس، وقوّة الخاطر، وسُموّ الخيال، وإلا خرج عملُه بلا معنى، أو بمعنىً لا قيمة له، أو بقيمةٍ ضعيفةٍ تنزل من التاريخ منزلة الهيكل العظمي من الجسم الحي[2]».

 

هذه الشروط التي لا مندوحة عنها لكل من خاض في لجج التاريخ يمكنك أن تراها، بل أن تمسّها، بل أن تجسّها في كتب الشيخ شاكر ومقالاته. وستراها هنا أيضاً فيما عرض له الشيخ شاكر في طوايا بحوثه ومقالاته عن العلاقة بين الإسلام والغرب من عدة أقطار.

 

أولاً: نبدأ بكتابه المعجِب "المتنبي"، الذي صدّره بمقدمة مهمّة جداً سماها "رسالةٌ في الطريق إلى ثقافتنا". أماط فيها الشيخ شاكر اللثامَ عن خفايا وأسباب التفريغ والتجهيل الثقافي الذي مُني به جيلنا. وكشف فيها عن حقيقة الاستشراق وما فعله دهاقينه الكبار في دار الإسلام عموماً، وفي مصر خصوصاً، والآثار الماحقة التي خلّفها التراث الاستشراقي. وبيّن - وهذا في رأيي أهم بحث تضمنته الرسالة - الأسبابَ الموجبة لنفي الصفة العلمية عن كتب المستشرقين[3]، وأنّ كتبهم في الأصل موجّهةٌ للمثقف الأوروبي.

 

وفيما له صلة بما نحن بصدده، يتحدث الشيخ شاكر عن مراحل الصراع الأربعة التي دارت بين المسيحية الشمالية و الإسلام:

المرحلة الأولى: صراعُ الغضب لهزيمة المسيحية في أرض الشّام، ودخولِ أهلها في الإسلام، فبالغضب أمّلت اختراقَ دار الإسلام لتستردَّ ما ضاع، تدفعها بغضاءُ، حيّةٌ، متسامحةٌ، لم تمنع ملِكاً ولا أميراً ولا راهباً أن يمِدَّ المسلمين بما يطلبونه من كتب(علوم الأوائل)، (الإغريق) التي كانت تحت يد المسيحية يعلوها التراب. وظلَّ الصّراعُ قائما لم يفتُر أكثرَ من أربعة قرون.

 

المرحلة الثانية: صراعُ الغضبِ المتفجِّر المتدفّق من قلب أوروبة، مشحوناً ببغضاءَ جاهلةٍ عاتيةٍ عنيفةٍ، مكتسحةٍ مدمّرةٍ، سفاحة للدماء، سفحت أولَ ما سفحت دماء أهل دينها من رعايا البيزنطيّة، جاءت تريد هي الأخرى، اختراقَ دار الإسلام، وذلك عهدَ الحروبِ الصليبية الذي بقي في الشام قرنين، ثم ارتدّ خائباً إلى مواطنه في قلب أوروبة.

 

المرحلة الثالثة: صراعُ الغضبِ المكظوم الذي أورثه انحدارُ الكتائبِ الصّليبية، من تحته بغضاءُ متوهّجةٌ عنيفةٌ، ولكنها متردّدة، يكبحها اليأسُ من اختراقِ دار الإسلام مرّة ثالثةً بالسلاح وبالحرب، فارتدعت لكي تبدأ في إصلاح خلل الحياة المسيحية، بالاتّكاء الشديد الكامل على علوم دار الإسلام، ولكي تستعدَّ لإخراج المسيحية من مأزقٍ ضنكٍ موئِسٍ، و ظلّت على ذلك قرناً و نصف قرن.

 

وهذه المراحلُ الثلاث كانت ترسُف في أغلال(القرون الوسطى) أغلالِ الجهل والضياع، ولم تصنع هذه المراحلُ شيئاً ذا بال.

 

المرحلة الرابعة: صراعُ الغضب المشتعلِ بعد فتح القسطنطينية، يزيده اشتعالاً وتوهجاً وقودٌ من لهيب البغضاء، والحقدِ الغائر في العظام على (الترك)، أي المسلمين، وهم شبحٌ مخيفٌ مندفع في قلب أوروبة، يلقي ظلّه على كلّ شيء، ويفزع كلّ كائنٍ حيٍّ أو غير حيٍّ بالليل وبالنهار[4]، وإذا كانت المراحل الثلاث الأُوَلُ لم تصنع للمسيحية شيئاً ذال بال، فصراعُ الغضبِ المشتعل بلهيب البغضاء والحقد هو وحده الذي صنع لأوروبا كلَّ شيء إلى يومنا هذا.

 

صَنعَ كلَّ شيء لأنّه هو الذي أدّى بهم إلى يقظةٍ شاملة قامت على الإصرار، وعلى المجاهدةِ المثابرة على تحصيل العلم، وعلى إصلاح خلل الحياةِ المسيحية، ولكن لم يكن لها يومئذٍ من سبيلٍ ولا مدَدٍ إلا المددُ الكائنُ من دار الإسلام، من العلم الحيِّ عند علماء المسلمين، أو العلم المسطَّر في كتب أهل الإسلام. فلم يتردّدوا، وبالجهاِد الخارق، وبالحماسة المتوقّدة، وبالصّبر الطّويل، انفكّت أغلالُ القرون الوسطى بغتةً عن قلب أوروبة، وانبعثت نهضة العصور الحديثة مستمرّةً إلى هذا اليوم[5].

 

ومع اليقظة ازدادت الأهدافُ وضوحاً وجلاءً، وازدادت الوسائلُ دقةً وتحديداً وشمولاً، بعد أن وعظت أوروبا المراحلُ الثلاث الأًوَلُ التي لم تصنع للمسيحية المحصورةِ في الشمال شيئاً ذا بالٍ. (الأهداف) معروفة لك الآن، أكبرها شأناً هو اختراقُ دار الإسلام، ثم تمزيقُها من قلبها، ثم الظفَر بالكنوزٍ الغالية التي كانت ولم تزل تراود كلّ قلب ينبض في أوروبا بأحلامٍ شرهة مسعورةٍ إلى الغنى والثروة والمتاع، غَرَست بذورَها في أعماق النّفوس أحاديثُ العائدين من حملات الحروب الصليبية القديمة. أمّا الوسائلُ فقد وُضعت لها قواعدُ راسخة تجنّبهم أخطاءَ المراحلِ الثلاث السابقة التي مُنيت بالإخفاق.

 

كان على رأس هذه القواعد تنحيةُ السلاح جانباً، بعد أن ثبت لهم إخفاقُه في اختراق دار الإسلام، لأنه يستثير ما لا يعلمون مغبَّته من سوء العواقب. وكفى بالتجارب الثلاثِ الغابرة واعظاً. فمن يومئذٍ صارت القاعدةُ الراسخة في سياسة أوروبا هي اجتنابَ استثارة هذا العالم الضخم المبهم الذي كان التركُ هم طلائعَه المظفرةَ، الناشبةَ أظافيرُها في صميم المسيحية الشمالية في قلب أوروبة= ثم العملَ الدائبَ البصير الصامت الذي يتيح لهم يوماً ما تقليم هذه الأظافر وخلعَها من جذورها= ثم استنفادَ قوته بالمناوشة والمطاولة والمثابرة، بالدهاء والمكر والسياسة والصبر المتمادي، حتى يأتي عليه يوم لا يملك إلا أن يستكين ويستسلم. وليكن كلّ ذلك من وراء الغفلة، وبالدهاء والرفق تارةً، وبالتنمّر والتكشير عن الأنياب تارةً أخرى. وكذلك كان ما كان، وما هو كائنٌ إلى هذه الساعة. ولله الأمرُ من قبلُ ومن بعد[6].

 

وزحف إلى قلب ديارِ الإسلام أعدادٌ وافرةٌ من الرجال يجيدون اللسانَ العربيَّ مع ألسنة أُخَر. جاؤوا يلبسون للمسلمين كلّ زيٍّ: زيِّ التّاجر، وزيّ السائح، وزيّ الصديق الناصح، وزيّ العابد المسلم المتبتّل. وتوغّلوا يستخرجون كلّ مخبوءٍ كان عنهم من أحوال دار الإسلام، فلم يتركوا شيئاً إلا خَبَروه وعَجموه، وفتّشوه وسبروه، وذاقوه واستشفوه. ومن هؤلاء ومن خبرتهم وتجربتهم خرجت أهمُّ طبقةٍ تمخّضت عنها اليقظةُ الأوروبية (طبقة المستشرقين) الكبار، وعلى علمِهم وخبرتهم و تجاربهم رست دعائمُ الاستعمار، ورسخت قواعدُ التبشير[7].

 

ثانياً: ينبّه الشيخ شاكر في مقالة له بعنوان:(لا هَوادةَ بعد اليوم[8] كلَّ عربيٍّ، وكلّ مسلم أن يهبّ من رَقْدته، ويفيق من طول غفلته معلناً الجهادَ بجميع الوسائل لاسترداد شرف وعزّة وكرامة الأمّة العربية الإسلامية التي تكالبت عليها الأمم الغربية، وجرّعوها كأس الذل، بل كؤوساً عديدة، وعلى رأسهم بريطانيا وأختها في الرّضاع أمريكا. فيقول: «إنّ بريطانيا وأمريكا وسائرَ الدول التي تدير لهما الساقيةَ، قد كشفت عن طواياها بما لا يدع لأحدٍ علةً يتعلّل بها أو يتشبّث، فقط قالوا الكلمةَ الصريحة الواضحة بأنهم عدوٌّ لنا وحربٌ علينا[9]، وأنهم يبغون أن يحطّموا هذا الجيلَ العربي، وأن يسلّطوا على رقابه أنذال اليهود وأوباش الاستعمار، وأنهم يعتقدون أننا قومٌ لا نصلح لأن نحكم أنفسَنا بأنفسنا، أو أننا أمم قُصّر لم نبلغ رشدنا، ولا يظن بنا بلوغُ الرشد. فهذا ترجمةُ موقف الدول المعادية حيال قضيةِ مصرَ والسودان، وحيال قضية فلسطين.

 

وسرّ هذه العداوة -ولا نكتم الحق- هو أن أوروبا وأمريكا جميعاً لا يزالون يعيشون في أنفسهم، إذا ذُكر العرب، في أحقادٍ صليبية، لم تستطع المدنيّةُ، ولا استطاع العلم، ولا استطاعت سهولةُ المواصلات، ولا استطاعت كثرةُ الهجرة والرحلة أن تنفيها عن قلوبهم بل لعلها زادتهم أضغاناً على أضغانٍ، ولا تزال أوروبا وأمريكا تقول: خطر الإسلام وخطر العرب، كما كانوا يقولون الخطر الأصفر والخطر الآسيوي. وإذا كان بعضُ ساستنا الذين لقوا ساسةَ الأوروبيين والأمريكيين قد انخدعوا بظاهرٍ من القول حين سمعوا أحاديثَ أولئك المرائين والمنافقين من ساسة أوروبا وأمريكا، وظنوا أنّ لين القول دليلٌ على صدق العقيدة حتى أجرَوْا في أحاديثهم ذكرَ(عطف أمريكا على العرب) و(عطف بريطانيا على العرب) فقد ضلّوا ضلالاً مبيناً.

 

إن أوروبا وأمريكا لا تعرف العطف على العرب، بل هي العدو وهي البلاء المصبوبُ علينا، وإلا فكيف تعطف بريطانيا على العرب وهي التي لا تزال تفعل الأفاعيل في مصر والسودان؟ وكيف تعطف أمريكا على العرب وهي التي خذلت مصر والسودان في مجلس الأمن؟ وكيف تعطف بريطانيا وهي التي ورّطت الدنيا كلّها في مشكلة فلسطين، ثم تجيء فتطلب من هذه الدنيا أن تحلّ لها المشكلة؟ وكيف تعطف أمريكا وهي التي تمدّ اليهود بالمال والقوة والسلاح والدعاية؟ وكيف وهي التي تبيح لشركات النشر والإذاعة والصحافة أن تدلّس وتكذب، وتخدع في شأن العرب، ولا تجد منكِراً ينكر، ولا لساناً يدافع، ولا قلماًَ يشمئز من هذه الوسائل التي تطفح بالغدر والبغي والنذالة[10]؟!».

 

ثالثاً: ما هو تعريف الحضارة؟ وما أُسّها الذي يمدّها بأسباب البقاء؟ وهل الصّراع النّاشب بين الإسلام والغرب يسمى صراعاً حضارياً أو صراعاً من نوع آخر؟

تعال معي لنقف على رأي الشيخ شاكر، حيث يقول: «كل ما نسمّيه (حضارةً) مما تداولته أممُ الأرض منذ أقدم الأزمان دالٌّ على أن الحضارةَ بناء متكاملٌ، لا تستحقّه أمّةٌ إلا بعد أن تجتاز مراحلَ كثيرةً معقّدةَ التركيب، حتى تنتهي إلى أن يكون لأهلها سلطانٌ كاملٌُ على الفكر، وعلى العلم، وعلى عمارة الأرض، وعلى أسباب هذه العمارة من صناعةٍ وتجارة، وعلى أسباب كثيرة من القوّة، ترغم سائرَ الأمم على الاعتراف لها بالغلبة والسيادة. وإذا صحّ هذا - وهو صحيح إن شاء الله تعالى - فالذي لا شكّ فيه أن عالمنا نحن اليوم ليس له سلطانٌ كامل على هذه الأصول والشروط التي يستحقّ حائزها أن يسمّى ما هو فيه (حضارة)، والذي لا شكّ فيه أيضاً أن عالم الاستعمار الذي نصارعه، هو المستحقّ اليوم، وإلى أجلٍ محدود، أن يسمّى ما هو فيه(حضارة) لأنه يملك هذا السلطانَ على الفكر والعلم وعمارة الأرض وعلى الصناعة والتجارة، وعلى أسباب قوّة باغيةٍ، ترغم العالمَ على أن يعترف له بالغلبة والسيادة. وإذن فمن المغالطة المعيبة أن نلهج نحن بوصف هذا الصراع الذي لا شك في أنه كائنٌ ومستمرّ بأنه صراعٌ بين الحضارة العربية الإسلامية، والحضارة الغربية المسيحية[11]».

 

ويضيف الشيخ شاكر بأن حضارة الأمّة مرتبةٌُ لاحقةٌ، مسبوقة بأساسٍ ترتبط به ارتباطاً لا فكاكَ منه البتّة. وبهذا الأساس يقع التمايز بين الحضارات، وبموجبه نَصِفُ حضارةً ما بأنها شريفةٌ وكريمة، وأخرى بأنها لئيمةُ المنبت، خسيسةُ الأصل. وهذا الأساس هو ما يسمى (الثقافة) التي عناها شاكر بقوله آنفاً: أن الحضارة بناء متكاملٌ، لا تستحقّه أمّة إلا بعد أن تجتاز مراحلَ كثيرةً معقّدةَ التركيب، إلى أن تصل إلى عالم الحضارة.

 

إنّ عالم الاستعمار إنما يدير الصّراع كلّه بيننا وبينه على هذا الأساس الذي هو شرطٌ ضروريٌ لقيام أية حضارة وهو الثقافة. إذن فالصراع بيننا و بين عالم الاستعمار هو صراع بين (الثقافة العربية الإسلامية)، و(الثقافة الأوروبية المسيحية الوثنية). وسببُ هذا الصراع هو الحيلولةُ بيننا وبين أن تتجدّد الثقافةُ العربية الإسلامية حتى نصبح نحن قادرين بها على أن نسير في الطريق الصحيح الذي يصل بنا إلى أن تكون ثقافتنا حاملةً للقوّة المتحرّكة التي تدفعنا إلى أول الطريق الذي تلتقي عنده الثقافة وحركتها الدافعة الدافقة، بالأسباب التي تجعلها قادرة على تملّك السلطان الكامل على الفكر والعلم وعمارة الأرض، وعلى الصّناعة والتّجارة، وعلى القوّة التي سيتاح لنا نحن أن نصنعها بأيدينا[12].

 

وتعريف الثقافة ليس بالسهل الميسور، إذ مفهوم الثقافة لا يكون إلا بعد مراحلَ متداخلةٍ، متطاولة الأزمان، اجتازها الشعبُ بعد مئات من فترات الارتفاع والانخفاض، والتقدم والتأخر، والحركة والسكون... وثمة اختلافٌ بين الأمم في تحديد و تعريف الثقافة. لكن مع هذا الاختلاف نجدهم يضعون مميزات تميز ثقافة هذا الشعب من ذاك. وتكاد تنحصر هذه المميزات في العقائد والأخلاق والعادات والتقاليد والأفكار واللغة.

 

ولا شك في صحّة هذه المميزات من ناحية النظر المجرد، ولكنها مميزات مبعثرة. وقد أراد بعض الغربيين جمعها في سياق واحد فقال: (إنّ ثقافةَ الشعب ودين الشعب مظهران مختلفان لشيء واحد، لأن الثقافة في جوهرها تجسيد لدين الشعب)[13]. وقال أيضا: إنّ السير إلى الإيمان الديني عن طريق الاجتذاب الثقافي ظاهرةٌ طبيعية مقبولة. وهو تعبير صحيح في جوهره يجمع هذه المميزات المبعثرة في إطار واحد. ويجعل تمييزَ ثقافةٍ من ثقافة واضحاً من خلال النظر في أصول التدين الذي هو فطرةٌ في طبيعة الإنسان، حامل الثقافة ومؤدّيها إلى من بعده[14].

 

وفي نهاية جولتنا في غمار هذا الفكر المتراحب الدقيق، يستوقفنا الشيخ شاكر ليقول ناصحاً ومحذراً: «إنه وقبل كلّ شيءٍ ينبغي علينا ولا سيّما ناشئتنا، أن نعرف تمامَ المعرفة أنّ الشّعار الذي ترفعه الحضارةُ الغربيّةُ وتلحُّ على إذاعته وبثّه في العالم كلّه، بادّعائها أنها حضارةٌ عالميّةٌ إنما هو شعارٌ مزيّفٌ، وغشٌّ فاضحٌ، تريد أن تفرضه فرضاً على العقول حتى تستسلم، وتنفذه إلى غيَّب الضّمائر حتى تتخدّر. وحقيقةُ الشّعار كما هو واضحٌ في دنيانا أنها حضارةٌ خاصةٌ بأقوامٍ بأعيانهم، يرون أن لها الحقَّ كلَّ الحقِّ في السيطرة على العالم، وإذلاله وترويضه واستغلاله لتطيل بناءها على الأرض. هذه هي الحقيقة المجرّدة من الزيف والغشّ. والحقيقة الأخرى أنها تريد أن تبيد ثقافةَ كلّ شعبٍ من شعوب عالمنا هذا، لتحلّ محلَّه قشوراً مزيفة من ثقافتها هي، بشعارٍ آخرَ يتولّى إذاعتَه و بثّه أصحابُ دعواتٍ خبيثةٍ، بكثرة إلحاحهم على إقناع جماهير قرّائنا وناشئتنا في عالمنا العربي الإسلامي، وهو شعارُ وحدة الثقافة الإنسانية[15]».

 

وبعد فهذا فرعٌ من فروع دوحة العلم والمعرفة عند الشيخ محمود شاكر. رحمك الله يا أبا فِهرٍ، وجزاك الجزاءَ الأوفى عما قدّمت لأمتك العربية والإسلامية.

 

المصادر:

♦ أباطيل وأسمار. محمود محمد شاكر. مطبعة المدني. جدة ط2 1972.

 

♦ تحت راية القرآن. مصطفى صادق الرافعي، دار الكتاب العربي ط8 1983م.

 

♦ جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر. جمعها و قرأها الدكتور عادل سليمان جمال. مكتبة الخانجي. القاهرة 2003م.

 

♦ المتنبي: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا. محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي. القاهرة 1987م.

 

♦ المفترون: خطاب التطرف العلماني في الميزان. فهمي هويدي. نشر دار الشروق: القاهرة، ط3 2005.

 

♦ مقدمة إلى الحوار الإسلامي المسيحي. محمد السماك، دار النفائس. بيروت ط1 1998م.

 

♦ موقع الإسلام في صراع الحضارات والنظام العالمي الجديد. محمد السماك، دار النفائس. بيروت ط1 1995م.

 

[1] أباطيل وأسمار، ص 9 - 11

[2] تحت راية القرآن، ص143.

[3] المتنبي: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، ص 61 وما بعد.

[4] لم تجزع أوروبة المسيحية من شيء جزعها من الانتصارات الساحقة للعثمانيين الذين وصفهم بعض المؤرخين في ذاك الوقت بأنهم رعب العالم الحالي.

John Esposito,The Islamic Threat Myth Reality?.(Oxford:Oxford University Press,1999) p. 40

[5] المتنبي: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، ص 44 -45

[6] المرجع السابق، ص51.

[7] المرجع السابق 53 بتصرف يسير، واختصار

[8] كتبها الشيخ شاكر في عام 1947 - مع مقالات آخر - يجلي فيها الرأي حول قضية مصر و السودان، ومشكلة المشاكل فلسطين. ويؤكد أن ذاك الذي يسمى مجلس الأمن، إنْ هو إلا محكوم وليس بحاكم، مقود وليس بقائد، فلا قيمة له ولا غناء فيه.

[9] أجل وربك، هي حرب يدعى إليها بالطبول. فحيثما وُجد الإسلام والمسلمون، فثمّ تدميرٌ وقتل وإبادة تحيق بهم: في الشيشان، والبوسنة و الهرسك، وكشمير، وفلسطين. وفي دراسة لمؤرخ تركي، أنه منذ عام 1798إلى 1953م تعرض العالم الإسلامي إلى 318 هجوم واعتداء حمله إليه الغرب. وأحصى الأستاذ محمد السماك خمسة عشر اعتداء وهجوماً على العالم الإسلامي بين 1956وحتى 1994م. موقع الإسلام في صراع الحضارات ص 18 لمحمد السماك. وإن استهداف العالم الإسلامي مر بمراحل ثلاثة: مرحلة التطويق من عام 1500 إلى 1800م. ومرحلة الاحتلال من عام 1800 إلى 1915م. ومرحلة التقسيم من عام 1915م إلى يومنا هذا. الكتاب السابق ص27. قال الجنرال جون كالفان في احتفال أقيم له بمناسبة انتهاء مدته قائداً أعلى لقوات حلف شمال الأطلسي: لقد ربحنا الحرب الباردة، وها نحن نعود بعد 70 عاماً من الصراعات الضالة إلى محور الصراع القائم منذ 1300 سنة، إنه صراع المجابهة الكبيرة مع الإسلام. مقدمة إلى الحوار الإسلامي المسيحي ص 112 لمحمد السماك.

[10] جمهرة مقالات محمود شاكر 1/453 - 454.

[11] جمهرة مقالات محمود شاكر 2/1076 - 1077.

[12] المرجع السابق2/ 1078 - 1079 بتصرف واختصار.

[13] هو الباحث الإنكليزي ت. إس. إليوت، قاله في كتابه "ملاحظات نحو تعريف الثقافة." ترجمة الدكتور شكري عياد. هذا ما نقله عنه الأستاذ فهمي هويدي في مقالة (الدين والثقافة) من كتابه "المفترون خطاب التطرف العلماني في الميزان" ص 50.

[14] جمهرة مقالات محمود شاكر 2/1080 - 1081 بتصرف يسير واختصار.

[15] المرجع السابق2/1080. وتعرض الشيخ شاكر في مقدمة كتابه "المتنبي" لموضوع الصلة الوثيقة التي تستعصي على الفصم بين الثقافة والدين واللغة، إلى فوائد جليلة، ومهمة جداً، ألخصها لك: إن ثقافة كل أمة وكل لغة هي حصيلة أبنائها المثقفين بقدر مشترك بين أصول وفروع. وهي جميعاً مغروسة في الدين، صاحبِ السلطان المطلق الخفيّ على اللغة و النفس والعقل معاً. فثقافة كل أمّة مرآة تعكس كلّ ما تشتت وتباعد من ثقافة كل فرد من أبنائها على اختلاف مشاربهم. واللغة هي جوهر هذه المرآة. واللغة والدين متداخلان تداخلاً غيرَ قابل للفصل. ولهذا فباطلٌ كل البطلان أن يكون هناك ثقافة عالمية: أي ثقافة واحدة يشترك فيها البشر جميعاً، ويمتزجون على اختلاف لغاتهم ومللهم ونحلهم وأجناسهم. فهذا تدليس كبير. والمراد بشيوع هذه المقولة سيطرةُ أمّةٍ غالبة على أممٍ مغلوبة، لتبقى تبعاً لها. فالثقافات متعددةٌ بتعدد الملل. ولكل ثقافةٍ أسلوبٌ خاصٌّ في التفكير و النظر والاستدلال منتزعٌ من الدين الذي تدين به لا محالة. فالثقافات المتباينة تتحاور وتتناظر وتتناقش، ولكن لا تتداخل تداخلاً يفضي إلى الامتزاج البتة. وهنا أمرٌ مهم، وهو وجوبُ الفصل التام بين ما يسمى ثقافة، وبين ما يسمى اليوم علماً. (أي العلوم البحتة). فالثقافة مقصورة على أمّة واحدة تدين بدين واحد. والعلم مشاع بين خلق الله جميعاً، يشتركون فيه اشتراكاً واحداً مهما اختلفت الملل و العقائد. ص 74 - 75.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين