الإسلام في حقيقته وشموله

أطفالنا والعبادة (4)

الإسلام في حقيقته وشموله

د. عبد المجيد أسعد البيانوني

 

الإسلام حقيقة ضَخمة تملأ حياة الإنسان كلّها، وصبْغة ربّانيّة يصطبغ بها كيانه، ومن أحسن من الله صبغة، وصف الله تعالى بها أنْبيَاءَه ورسلَه، وأثنى عَلَيْهِم بتحقّقهم بها، ودعوة الناس إليها، ووصيّتهم بهَا، فقال تَعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ، وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ: أَسْلِمْ، قَالَ: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ: يَابَنِيَّ ! إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ، فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ، إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي ؟ قَالُوا: نَعْبُدُ إِلَهَكَ، وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ، إِلَهاً وَاحِداً، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)} البقرة.

والإسلام حقيقة كونيّة كبرى، تهيمن على الوجود من أصغر ذَرّة فيه إلى أكبر مجرّة؛ فكلّ ما في السموات والأرض عبد مُطيع لله، خاضع لأمره، مُسَبّح بحَمده، لا يخرج عن طاعته، ولا يستنكف عَن عبادته: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ.؟ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)} آل عمران.

{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ، وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ، إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)} الإسراء.

{ويُسَبِّحُ الرعدُ بحَمدِهِ وَالمَلائِكَةُ مِن خِيفَتِهِ.. (13)} الرعد.

والإسلام في حقيقته العمليّة هو الخضوع لله تعالى في كلّ شأن، والاستسلام لأحكَامه في كلّ موقف، فالمسلم الحقّ يعْمل بأمر الله تعالى، ويجتنب مَا نهى اللهُ عنه، ويخضع لأحكام الله، ويحتَكم إليه في جميع شئونه، يقول الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ، وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)} النساء.

ويقول سبحانه: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، وَأُوْلَئِكَ هُمْ المُفْلِحُونَ (51)} النور.

وعلى هذَا درج الصحابة والتابعون، وسلف هذه الأمّة الصالح رضي الله عنهم، فتخلّوا عن أهوائهم وحظوظ أنفسهم لله، وأطاعوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلَّم في المنْشطِ والمكره، وفي العسر واليسر، وتلقّوا الأوامرَ للتنفيذ، وتَعلّموا العلمَ للعمل، وحرصوا على رضوان الله في كلّ موقف..

فما أمروا بشيء إلاّ استَجابوا، ولا نُهُوا عن شيء إلاّ اجتنبوا، وما نَزل فيهم حكم منَ الله ورسوله صلى الله عليه وسلَّم إلاّ استَسلموا إليه مطيعين، وَعملوا به راضين..

أمروا بالتوحيد، فهَدموا الأصنام، وعبدوا اللهَ وحده، وتخلّوا عن كلّ مظهر من مظاهر الشرك بالله..  وفرضت عليهم الصلاة فأقاموها، وأمروا بالزكاة فأدّوها، وبالإمساك عن شهوات النفس في الصيامِ فأمسَكوا، وبالتجرّد لله تعالى في الهجرة والحجّ فتجرّدوا، وببذل الأموال والأنفس في سبيل الله في الجهاد فتنافسوا في ذلك وبذلوا..

 

ونهاهم الله عن الخمر فأراقوها، وعن الفحشاء فاجتنبوها، وعن الربا فتركوه، وعن الميْسر فمنعوه.. لم يَعتذروا عن شيء من ذلك بما ألفوه من عوج، ولم يجدوا في امتثال الأمر، واجتناب النهي من حرج..

 

وفي سيرة سلف هذه الأمّة الصالح، جماعات وأفراداً، وولاة ورعايا، نماذج رائعة، ومواقف مشرقة من ذلك كلّه، تْشهد أنّهم كَانوا المثل الأعلى في الالتزام الصادق بدين الله تعالى، والتمسّك به في كلّ شَأن..

ـ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم خاتماً من ذهب في يد رجل، فنزعه فطرحه، وقال: (يعمد أحدكم إلى جمْرة من نَار، فيجعلها في يده ؟!).

فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: خذْ خاتمك انتفع به، قال: لا والله، لا آخذه، وقَد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلَّم " رواه مسلم.

 

ـ ولمّا كان يوْم أحد، أقبلت امرأة تسعى، حتّى كادت أن تشرف على القتلى، فكره النبيّ صلى الله عليه وسلَّم أن تراهم، فقال: (المرأة ! المرأة) أي أدركوا المرأة، ولا تتركوها تقترب من القتلى، شفقة عليها..

قال الزبير بن العوّام رضي الله عنه: فتوسّمْت أنّها أمّي صفيّة ـ أي بلغها أنّ المشْركين قتلوا أخاها حمزة رضي الله عنه، ومثّلوا به، فهي تريد أنْ تراه..

 

قال الزبَير رضي الله عنه: فخرجت أسعى إليْها، فأدركتها قبل أن تنتهيَ إلى القتلى، فلدمَت في صدري، أي دفعتني دفعاً شديداً، وكانت امرأة جلدة ـ أي قوّية شديدة ـ وقالت: إليك عنّي لا أرض لك.! فقلت: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم عزم عليك أن لا تذهبي.. قال: فوقفَت.. رواه أحمد وأبو يعلى والبزار.

ـ وتخلّف كعب بن مالك وصاحباه رضي الله عنهم عن غزوة العسرة بغير عذر، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم المسلمين عن كلامهم، فما كلّمهم أحد طيلة أربعين يوماً.. ثمّ أمرهم بعد الأربعين أن يعتزلوا نساءهم، فاعْتزلوهنّ عشرة أيّام، وتحمّلوا هجرَ المسلمين خمسين يوماً، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، حتّى تاب الله عليهم، ففرحوا بذلك أشدّ الفرح، وفرح بهم المسلمون، وأقبلوا عليهمْ يكلّمونهم، ويهنّئونَهم بتوبة الله تعالى..

هكذا كان انقيَاد سلف هذه الأمّة الصالح لأمر الله تعالى، وأمْر رسوله صلى الله عليه وسلَّم، عملوا بالإسلام كَاملاً، فقطفوا ثماره يانعة، عزّةً وسيادةً ورفعَة..

 

والإسلام الذي عزّ به المسلمون الأوّلونَ دين شامل لحياة الإنْسان، كامل تامّ.. لم يترك جانباً من جوانب الحياة، من عقيدَة وعبادات، وتشريع وأخلاق، وسياسة واقتصاد، واجتماع وعمران، وما يتّصل بذلك، وما يتفرّع عنه إلاّ ووضع له المنْهجَ الحكيم، والخطّةَ الرشيدة..

راعى الإسلام جانب الروح، فشرع لها عبادات تغذّيها وتزكّيها، وتصلهَا بربّها تبارك وتعالى، وتسمو بها..

وراعى الإسلام جانب الجسد، فأمر بالعناية به، ورعاية غذائه وكسائه، ونظافته وصحّته، ومصالحه وحاجاته، ونهَى أن يحمّلَ ما لايطيق، وحرّم كلّ ما يؤذيه، منْ طعام وشراب، وجرحٍ وقتل..

 

ووثّق روابط الأسرة: فأوجب برّ الوالدين، وصلة الأرحَام، وبنى كيان المجتمع على دعائم قويّة من الأخلاق الكريمة، والسيرة المستقيمة، فندب إلى التحابّ والتراحم والتعاطف، والمواساة والإيثار، والإحسَان وإغاثَة اللهْفان..

وأمرَ بالصدق والأمانة، والنصح والاستقامة ومعالي الأمور، ومَكارم الأخلاق..

وأحْكم الصلة بين الراعي والرعيّة، بما أوجبه من الطاعة لوليّ الأمر في غير معصية، والشعور بالمسئوليّة، والسهر على مصَالح الأمّة..

وأمر الإسلام بالوفاء بالوعد، وحفظ العهْد، حتّى مع غير المسلمين..

فالمسلم الحقّ يلتزم بدينه في كلّ شأن، ويتحلّى بفضائل الإسلام كلّها، بلا إفراط ولا تفريط.. فلا يوغل في جانب، ويهمل جانباً آخر.. لا ينْصرف إلى جانب الروح، فيَلزم المسجدَ والعبادة مثلاً، ويهْمل جانب الجسد، فيقعد بغير عمل وكسب للرزق ممّا أحلّ الله..

والمسلم الحقّ ابن ديْن، وابن دنيَا: متعبّد بالليل، فارس بالنهار، زاهد في الدنيا بقلبه، عامل لها بقالبه، ملتمس لمرضاة الله تعالى في كلّ شأن.. لا تشغله دنيَا عن دين، ولا روْح عن جسد، ولا عَمل فرديّ عن عمل اجتماعيّ، يخدم الأمّة، ويحرص على تقديم ما يعود عليها بالخير والنفع..

 

هذا هو الإسلام في حقيقته ومجْمله.. إنّه هوّيّة المسلم وانتماؤه، ومَصدر عزّته وسعادته، والبدهيّة الكبرى التي تقوم عليها حياته، فأيْنَ المسلمون منها.؟! وأيْن منها أبناءُ المسلمين.؟! الفاقدونَ لهوّيّتهم وانتمائهم، المفتونون بسراب التيه والتغريب.؟!

 

إنّ على الآباء والمرَبّين مسئوليّة عظيمة، أن يورّثوا الأبناءَ الإسلامَ بحقيقته الشاملة الكاملة، وأنْ يملئوا قلوبَهم بمحبّته وصدق الولاء له، وأنْ يعلّموهم أَنَّهم من خير أمّة أخرجت للناس، فليذكروا نعمةَ الله عليهم، وليؤَدّوا شرطَ الخيريّة والاجتباء..

 

إنّ على الآباء والمرَبّين أن يورّثوا أبناءَهم الاعتزاز بالإسلام، والتمسّكَ بمبادئه وقيمه والحرص على نصرته، والدعوة إلى سبيله، ليعودَ لهذه الأمّة عزّها الذاهب، ومجدها الغابر..

ويوْمَ يخرج جيْل من أبنَاء الإسلام كذلكَ فارتقب عزّاً للأمّة وسيَادة، ورفعة وريادة.. ويقولون متى هوَ.؟ قل: عسى أن يكونَ قريباً..

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين