الإسلام في أفريقيا -21-

 

علامة المغرب

أبو الحسن علي بن زياد التونسي

 

سطع نجم علي بن زياد بأفق تونس، فأفاض في خيره، وعبادته، وعلو كعبه في الفقه، حتى قال سحنون فيه: (ما أنجبت إفريقية مثل علي بن زياد).

ذكره القاضي أبو الفضل عياض اليحصبي فقال: إن أصل علي بن زياد من العجم، ولد بطرابلس ثم انتقل إلى تونس فسكنها. وقال ابن شعبان وغيره: هو من عبس.

قال أبو العرب: علي بن زياد من أهل تونس، ثقة مأمون خيّر متعبد بارع في الفقه ممن يخشى الله - عز وجل - مع علوه في الفقه، سمع من مالك وسفيان الثوري والليث بن سعد وابن لهيعة وغيرهم، وسمع بإفريقية قبل هذا من خالد بن أبي عمران، لم يكن بعصره بإفريقية مثله. سمع منه بهلول بن راشد وسحنون وشجرة وأسد بن الفرات وغيرهم. وروى عن مالك الموطأ وكتب سماعه من مالك الثلاثة. 

قال أبو سعيد بن يونس: هو أول من أدخل الموطأ وجامع سفيان المغرب، وفسر لهم قول مالك ولم يكونوا يعرفونه، وكان قد دخل الحجاز والعراق في طلب العلم، وهو معلم سحنون الفقيه. قال الشيرازي: به تفقه سحنون وله كتب على مذهبه، وتفقه بمالك، وله كتاب (خير من زنته). قال سحنون: كتاب خير من زنته أصله لابن أشرس إلا أنا سمعناه من ابن زياد، وكان يقرؤه على المعنى، وكان أعرف من ابن أشرس بالمعنى.

وكان سحنون لا يقدم عليه أحداً من أهل إفريقية ويقول: ما بلغ البهلول بن راشد شسع نعل علي بن زياد. قال سحنون: وكان البهلول يأتي إلى علي بن زياد ويسمع منه ويفزع إليه. يعني في المعرفة والعلم، ويكاتبه إلى تونس يستفتيه في أمور الديانة، وكان أهل العلم في القيروان إذا اختلفوا في مسألة كتبوا بها إلى علي بن زياد ليعلمهم بالصواب، قال: وكان علي خير أهل إفريقية في الضبط للعلم. قال سحنون: ولو أن التونسيين يسألون لأجابوا بأكثر من جواب المصريين، يريد علي بن زياد وابن القاسم.

وقال سحنون: ما أنجبت إفريقية مثل علي بن زياد، وكان يقول: ما فاقه المصريون إلا بكثرة سماعهم، وذلك أني اختبرت سره وعلانيته والمصريون إنما اختبرت علانيتهم. 

قال أسد: كان علي بن زياد من نُقَّاد أصحاب مالك، قال: إني لأدعو في أدبار صلاتي لمعلمي وأبدأ بعلي بن زياد لأنه أول من تعلمت منه العلم. قال البلخي: لم يكن في عصر علي بن زياد أفقه منه ولا أورع. ولم يكن سحنون يعدل به غيره من علماء إفريقية. قال ابن حارث: كان علي فقيها ثقةً مأموناً خيراً.

مناقب ابن زياد وفضائله

ذكر ابن اللَّباد عن سحنون قال: مات بعض قضاة إفريقية فقدم رسول الخليفة إلى إفريقية فجمع العلماء واستشارهم في قاض بإفريقية، فتوجه إلى تونس وبعث واليها في علي بن زياد، فتمارض علي، فأخبر بذلك الوالي رسول الخليفة فقال له الرسول: أمير بلد ورسول الخليفة موجهان إلى رجل من الرعية فيثَّاقل عن المجيء، فمضى إليه الوالي معه، فلما دخلا عليه وجداه قد حول وجهه إلى الحائط، فقال له الوالي: أبا الحسن، هذا رسول الخليفة يستشيرك في قاض يلي إفريقية، فحول وجهه إلى القبلة وقال: ورب هذه القبلة ما أعرف بها أحداً يستوجب القضاء، قوموا عني. 

وبعث فيه روح بن حاتم ليوليه القضاء فقدم عليه وقدم البهلول والصالحون إلى باب دار الإمارة إذ بلغهم قدومه، فخرج علي ممسيا يمسح العرق عن وجنتيه، فقالوا ما فعلت ؟ قال: عافى الله وهو محمود، فقال له البهلول: فما عزمت عليه ؟ قال: أن لا أبيت فيها، وتوجه إلى تونس على حماره وودعوه. 

 

مر علي بن زياد بأبي محرز، وعنده الطلبة، فقال له: يا أبا محرز، ما الذي أراد الله سبحانه وتعالى من عباده ؟ قال: الطاعة، فقال له: وما الذي أراده إبليس منهم ؟ فقال: المعصية)، فقال له: أي الإرادتين غلبت ؟ فقال له أبو محرز؛ أقلني أقالك الله تعالى، فقال له علي: والله لا أقيلك حتى تتوب عن بدعتك، ثم التفت علي بن زياد إلى الطلبة فقال: شاهت الوجوه ! أفمن هذا تسمعون.

لقد كان علي بن زياد أول من أدخل إلى تونس - كما علمنا - موطأ مالك، حيث انتصب يدرس الفقه، ويفسر أقوال مالك بالتوجيه والتأصيل، فطار صيته في البلاد الإفريقية، وخرجت سمعته ما بين أسوار القيروان فملأتها، فكان البهلول - كما روت كتب التاريخ والتراجم - وهو صنو علي بن زياد وقرينه في طبقته، يأتيه من القيروان إلى تونس ويسمع منه ويفزع إليه في المعرفة والعلم ويكاتبه ويستفتيه في المسائل الشائكة، وأقبل الناشئون من طلبة العلم بالقيروان يشدون الرحال إلى تونس لنهل العلم على يد علي بن زياد، يسمعون الموطأ ويتفقهون على مذهب مالك بن أنس وطريقته.

لقد كان ابن زياد - رحمه الله - أول من كتب مسائل الفقه والفتاوى التي تكلم بها مالك بن أنس - غير ما اشتمل عليه الموطأ مما يتصل بالآثار - فلم يكن واحد من أصحاب مالك حتى ابن القاسم دوَّن الفقه والمسائل كتابة، فأقبل علي بن زياد على تصنيف المسائل وتبويبها، وخرّجها كتباً كتباً على مواضيع الأحكام الفقهية في كتابه الشهير (خير من زنته). وكانت وفاة ابن زياد سنة (183هـ/799م).

رحم الله علامة المغرب وفقيهها وأسكنه فسيح جناته وجزاه الله عن المسلمين خير الجزاء وجعله قدوة لعلماء كل عصر وزمان.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين