الإسلام عدو المحاباة

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين أنزل الله:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} قال: (يا معشر قريش، أو كلمة نحوها، اشتَرُوا أنفسَكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباسُ بنَ عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفيةُ عمةَ رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنتَ محمد سليني من مالي ما شئتِ لا أغني عنكِ من الله شيئاً).

المعنى: 

نزلت هذه الآية في السنة الثالثة من البعثة بعد أن ظلَّ الرسول صلوات الله عليه طول هذه السنين الثلاث يدعو إلى الإسلام سراً كل من وثق فيه واطمأنَّ إلى استعداده النفسي لقبول دعوته، فأمره الله تعالى بإعلان دينه والجهر بدعوته، وأن يبدأ في هذا أول ما يبدأ بأهله وأقاربه وعشيرته وأعمامه، وإنما خصَّت الآية عشيرته الأقربين بالإنذار لتنحسم أطماع سائر عشيرته وأطماع الأجانب في معارضته ومفارقته، ولأنَّ كل دعوة لا يبدأ فيها الداعي بنفسه وأهله فهي فاشلة.

فاهتمَّ صلوات الله وسلامه عليه بشأن الأقربين من أهله؛ لأنَّ الحجة إذا قامت عليهم تعدَّت إلى غيرهم، وإلاَّ كانوا علّة للأبعدين في الامتناع، وعذراً للمتمردين في العصيان، وبعد أن أمره تعالى بإنذار الأقربين قال تعالى لرسوله بعد ذلك: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215]. فأمره بالتواضع واللين مع المؤمنين استمالةً لقلوبهم، وتأليفاً لنفوسهم، على حين أمره بالإنذار والتخويف، والتشديد والتدقيق مع الأقربين، لينقطع فيهم كل طمع، ويستقيم منهم كل معوج.

فترقى صلوات الله عليه في الأقربين من العم إلى العمة، ثم إلى البنت في الأشخاص، كما ترقى من قريش إلى بني عبد مناف في القبيلة.

وهذه كانت خطته صلوات الله وسلامه عليه في كل أمر فيه تقشُّف وتشديد، يبدأ بنفسه أولاً، ثم بأزواجه رضوان الله عنهن وكذا أبنائه، لا فرق بين قريب وبعيد، وزوجة وصاحب، ليكون في ذلك قدوة لأمته، ومثلاً أعلى في مجتمعه، وقطعاً لألسنة السوء أن تمتدَّ وكلمات النقد أن تشيع، فإنَّ في بعض القلوب مرضاً، وفي بعض الأنفس دخناً.

قال صاحب المواهب اللدنيَّة:

كان جودُه صلوات الله عليه كله لله تعالى وفي ابتغاء مرضاته، فإنَّه كان يبذل المال تارة لفقير أو محتاج، وتارة ينفقه في سبيل الله تعالى، وتارة يتألَّف به من يقوي الدين بإسلامه، فكان يعطي كل هؤلاء، ويتحمَّل المشقَّة هو وعياله وأقرباؤه.

روى الإمام أحمد في مسنده عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنَّه قال لفاطمة رضي الله عنها ذات يوم (والله لقد سنوتُ – أي استقيت من البئر – حتى اشتكيت صدري، وقد جاء الله أباكِ بسَبْي – وهن الأسرى من النساء – فاذهبي فاطلبي منه خادماً).

فأتت فاطمة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فقال: ما جاء بك يا بنية؟ قالت: جئت لأسلم عليك، واستحيتْ أن تسأله، ورجعت.

فقال لها عليّ رضي الله عنه: ما فعلتِ؟ قالت: استحييت أن أسأله.

فأتيا جميعاً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال عليّ رضي الله عنه: يا رسول الله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقالت فاطمة رضي الله عنها: لقد طحنت بالرحى حتى خشنت يداي، وقد جاءك الله بسبي وسعة فأعطنا من يخدمنا. 

فقال صلى الله عليه وآله وسلم: والله لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تلوّى بطونهم من الجوع، لا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيع ما عندي من السبي وأنفق عليهم، فرجعا.

ثم إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أتى علياً وفاطمة وقد دخلا في قطيفتهما، إذا غطت رؤوسهما كشفت أقدامهما، وإذا غطت أقدامهما كشفت رؤوسهما، فهمّا ليقوما، فقال لهما صلى الله عليه وآله وسلم: مكانكما، فقعد بينهما ثم قال: ألا أعلّمكما خيراً مما سألتماني؟ قالا: بلى، قال: كلمات علمنيهن جبريل: إذا أويتما إلى فراشكما فسبِّحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبِّرا ثلاثاً وثلاثين، فهو خير لكما من خادم.

أرأيت كيف أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو الداعية العظيم، والقدوة الحسنة، أشرك ابن عمه علياً وابنته فاطمة رضي الله عنهما، وهما من هما، أشركهما فيما أحبَّ لنفسه من إيثار، تعظيماً للأجر، وسموّاً بالنفس، من التدلي إلى الرفاهية والعيش الناعم؟ وهو ما كان عليه السلف الصالح من شظف العيش وحياة التقشف، وتلك سنة أكثر الأنبياء والخلّص من الأصفياء.

لما نصر الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وردَّ عنه الأحزاب وفتح عليه النضير وبني قريظة، ظنَّ أزواجه عليه السلام أنه قد اختصَّ بنفائس اليهود وذخائرهم فقعدن حوله وقلن: يا رسول الله بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل والإماء والخول، ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق!

فآلمن قلبه بمطالبتهن، فأقسم صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يدخل عليهن شهراً، من شدة موجدته عليهن، فلما مضى الشهر أنزل الله تعالى عليه آية التخيير، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآَخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:29].

فلما خيَّرهن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، ورئي الفرح في وجهه الكريم، وشكرهنَّ الله تعالى على حسن اختيارهنَّ بتفضيل التقشُّف على الترفُّه، والخشونة على التنعيم، فأنزل الله تعالى على رسوله مكافأةً لهنَّ على سديد رأيهنَّ في الاختيار: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب:52]. فحرَّم عليه أن يستبدل بهن أزواجاً غيرهنَّ، وقصره عليهن حتى الموت، وفي هذا ترضية أي ترضية.

نساء محمد صلى الله عليه وآله وسلم يشكون قلة النفقة والزينة، ولو شاء لأغدق عليهن النعمة وأغرقهن في الحرير والذهب وأطايب اللذات، أما كان يسيراً عليه أن يفرض لنفسه ولأهله من الأنفال والغنائم ما يرضيهن، ولا يغضب المسلمين، لأنهم موقنون أن إرادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من إرادة الله تعالى، ولكنها العفة والأمانة والورع والنزاهة والمساواة، والبعد عن المحاباة، وشدة الحرص على سد باب القيل والقال.

وإنَّ نفسية العظيم لتأنف أن تتلوث باللذائذ الرخيصة، وأن تجعل للدنيا على قلبها سلطاناً تستخذي له، وإنها لتعزف أن تعيش على غير ما يعيش عليه العامة من قومها والضعفاء من أمتها.

هكذا شأن النفوس العالية، والعزائم السامية، والإرادات الصادقة.

وعلى الرغم من كل هذه الحيطة والشديد من الورع أتظن أنه نجا من قالة السوء واعتراض المعترضين وألسنة الناقدين؟

جاء في سيرة ابن إسحاق والمواهب اللدنية والسيرة الحلبية أنَّ عمرو بن العاص رضي الله عنه قيل له: هل حضرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين كلَّمه التميمي يوم حنين؟ قال: نعم، جاء رجل من بني تميم يقال له ذو الخُوَيْصِرة، فوقف على الرسول صلوات الله عليه وهو يعطي الناس، فقال: يا محمد قد رأيتُ ما صنعتَ في هذا اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أجَلْ فكيف رأيت؟ فقال: لم أرك عدلت؟ فغضب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال: ويحك! إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟! فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله ألا أقتله؟ فقال: لا دعه، فإنَّه سيكون له شيعة يتعمَّقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرميَّة.

والكلام على الحديث الذي نحن بصدده من وجوه:

الوجه الأول: لقائل أن يقول: لِمَ أمر الله عزَّ وجل بالإنذار للقرابة دون غيرهم؟

والجواب عنه: هو أن الله عزَّ وجل قد أمر بالإنذار لجميع الناس في غير هذه الآية، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا المُدَّثِّرُ(1) قُمْ فَأَنْذِرْ(2) }. [المدَّثر].ثم أمر بعد الإنذار العالم بالإنذار للقرابة.

الوجه الثاني: كيف يمكن الجمع بين هذا الحديث وبين الشفاعة التي وردت النصوص بها للرسول صلى الله عليه وآله وسلم؟

والجواب عن ذلك: هو أن شفاعته عليه السلام على ضربين: عامَّة وخاصَّة.

فالعامة: هي لجميع العالم من الجن والإنسان للكافر والمنافق والمؤمن، على ما جاء في الحديث الصحيح، وهي الشفاعة العظمى التي يتأخر عنها أولو العزم عليهم الصلاة والسلام يوم القيامة حتى تنتهي إليه صلى الله عليه وآله وسلم، فيقول: أنا لها، وذلك حين يرغب الخلائق إلى الأنبياء ليشفعوا إلى ربهم حتى يريحهم من مُقامهم في الموقف، وهذه شفاعة يختص بها صلى الله عليه وآله وسلم لا يشركه فيها أحد.

والشفاعة الخاصَّة: وهي لأمته المذنبين، وهي خالصة لأهل الإخلاص وقيَّدها تعالى بأمرين:

الأول: إذنه للشافع أن يشفع كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] وإذنه تعالى لا يصدر إلا إذا رحم عبده الموحِّد المذنب، فإذا رحمه الله تعالى أذن للشافع أن يشفع له.

الأمر الثاني: رضاه تعالى عمّن أذن للشافع أن يشفع فيه كما قال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] فالإذن بالشفاعة له بعد الرضا كما في هذه الآية، وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد.

روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لقد ظننت يا أبا هريرة أنْ لا يسألني عن هذا الحديث أحد أولَ منك، لما رأيتُ من حرصك على الحديث: (أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه).

أما الشفاعة التي نفاها القرآن الكريم في آيات كثيرة فهي الشفاعة للكافر والمشرك، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} ]البقرة:254]، وقال سبحانه: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدَّثر:48].

بقيت أمور في الحديث وهي:

قوله عليه السلام: (يا معشر قريش أو كلمة نحوها) هذا شكٌّ من الراوي هل قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه اللفظة التي هي يا معشر قريش أو ما في معناها.

وقوله عليه السلام: (اشتروا أنفسكم من الله) ذكر الشراء ولم يعين الثمن، والجواب أنه عليه السلام لم يعين الثمن للعلم به في القرآن في قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} [التوبة:111] فالمؤمن الحقيقي ليس له في نفسه شيء، وإنما هو عليها أمين.

ولقائل أن يقول: لمَ خصَّ عليه السلام فاطمة رضي الله عنها بأن قال لها: سليني ما شئتِ؟ والجواب من وجهين:

الأول: إنما خصَّ عليه السلام فاطمة بذلك لصغر سنها وقت ذاك، لأن ما قاله فيه للسامع رعب، فأزال عنها ما يمكن أن يكون قد لحقها، تلطفاً منه بها ورحمة.

والوجه الثاني: فيه إشعار للغير وإبلاغ لهم في الإنذار، فإذا كانت فاطمة التي هي منه حيث هي وأخبرها بأنه يفعل لها ما تطلبه منه عدا أعمال الدين حيث لا يقدر على دفع شيء منه عنها، فكيف بذلك في غيرها، نسأل الله النجاة والرضوان.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: مجلة لواء الإسلام، العدد الثامن السنة الثامنة، 1374هـ=1954م

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين