الإسلام دين الحرية ـ 1 ـ

لا نقصد بهذه الكلمة الحرية التي منحها الإسلام للأمم والجماعات فأطلقها من الأسر الذي كانت فيه وجعل لها دستوراً تعيش في ظله غير دستور القوة والسيطرة، فإن ذلك كلام يطول، وربما كان له موضع آخر يستوفي فيه حقه من البيان والتفصيل: وإنما نريد هنا حرية الأفراد التي جاء بها الإسلام ليكون ذلك تتميماً لما أوردناه في موضوع الرق في الإسلام.

وإذا أردت أن تتلو تلك الصفحة الناصعة التي كتبها الإسلام ليحرر الضعفاء من رق الأقوياء، ويخلِّص المقهورين من أغلال القاهرين، ويُطلق رقاب المستضعفين من رِبقة المستعبدين، فما عليك إلا أن تتمثل ذلك القول المأثور عن العرب؛ فقد كانوا يقولون: أحمل العبد على الفرح الجموح، فإن هلك هلك، وإن عاش فلك! وكان القاتل يقتل العبد فلا يلحقه قصاص ولا تلزمه دية، ثم تخيل تلك الجارية الذليلة التي تجلس في جانب حائط فاترة الطرف، مهيضة الجناح، عارية الجسم إلا من خرق بالية يلقيها عليها صاحبها كما يلي الجُلَّ على فرسه، جائعة الكبد إلا من كِسرة يلقيها مالكها أمامها قتلتهما كما تلتهم الهرة خَشاش الأرض، ثم يلبس السيد الخز من الثياب، ويأكل المرقَّقَ والصِّناب، وينام على الفراش الوثير، ويركب الفارِه من الخيل والحمير ؛ أما المملوك الذي قضى ليله بالشقاء فإن أكل فمع الأنعام، وإن نام فهو نهب للهوام، وإذا جاء عليه سيده بمطعم مفيد فلا يبتغي من ذلك إلا سمنه ليزيد في ثمنه، فلم يكن للرقيق حق من حقوق الأحياء، وإنما هو في عداد السلع والأشياء.

ثم يُشرق نورُ الإسلام على الدنيا بأسرها، فيعمم فضله، ويشمل فيما جاء به من إصلاحٍ ذلك المخلوقَ المظلوم، ويمحو الله ذلك الظلم الفادح، ويثبت بدله عدله المبين، ويجعل من الجحود بنعمته جل شأنه ألَّا يُفْضِل السيد على المسود: [وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ] {النحل:71}.

ويرفِّه الرسول صلى الله عليه وسلم على المملوكين فيغضب ممن يسومهم الخسف وسوء العذاب، فقد جاء إليه رجل فقال له: يا رسول اله إن عندي صبية ترعى الغنم فعدا الذئب على شاة فأكلها فلطمتها!! فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرَّ وجهه الشريف وقال: «وما عسى أن تفعل الصبية بالذئب!» وما زال النبي يكررها حتى افتدى الرجل غضب الرسول صلى الله عليه وسلم بعتق جاريته!.

وقال صلى الله عليه وسلم:«أيُّما رجل كانت عنده جارية فأعتقها وتزوجها فله أجران» وهل سمعت قبل ذلك التهذيب الحكيم أن من هؤلاء الرقيقات أمهات الخلفاء والوزراء ومن لهن الشأن العظيم في السياسة والتدبير والعلوم والآداب؟ وقد نهض المأمون ابن هارون الرشيد إلى مركز الخلافة، وكان راجحاً على أخيه الأمين، ولم يمنعه من ذلك أن أمه زنجية، فقد رجحه ما اتصف به من العقل والعرفان، والحصافة وأصالة الرأي، أما أصل أُمِّه فليس بمانع في نظر الإسلام الذي سوَّى بين الناس جميعاً ولم يجعل لأحد فضلاً على آخر إلا بالتقوى والعمل. بل لقد فاضت الأحاديث بقصة ذلك العبد الذي هجاه المتنبي هجاء سار مسير الأمثال:

لا تشتري العبد إلا والعصا معه         إن العبيد لأنجاس مناكيد

وذلك العبد هو كافور الإخشيدي الذي ولي بلاد مصر من 966 إلى 968 ميلادية.

فهل كان الرق غُلاً في أرجل الرقيق يمنعه من الخطوات الواسعة، أو يحول بينه وبين بلاد الله الشاسعة يغالب الأحرار ويصاول الأولياء؟

إن التاريخ أصدق شاهد وأعدل حاكم، فاستعرض التاريخ ينبئك بكل ما ذكرناه، ويبين لك أن الإسلام خلق هذه الطائفة خلقاً جديداً، وبث فيها روحاً قوياً جعل أفرادها للمجتمع، يعطون الناس ويأخذون، ويبذلون مواهبهم فيفيدون ويستفيدون. وإن الإنسان ليأخذ منه العجب كل مأخذ حين يرى آثار تلك الحرية التي منحها الله تعالى للأفراد، وكيف سرت في نفوسهم فلم يشعر أحد بفارق بينه وبين سواه، وضرب أولئك الموالي بسهم وافر في التشريع الإسلامي حتى اتفق في وقت من الأوقات أن جمهرة أئمة الأقاليم وزعمائها في الدين والفقه من الذين كانوا أرقاء أجانب، أو ولدوا من أرقاء أجانب. وقد قال هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي للزهري إمام الحديث: من يسود مكة؟ قال الزهري: عطاء. قال هشام: بم سادهم؟ قال الزهري: بالديانة والرواية. قال هشام: نعم من كان كذلك ديانة حقت له الرياسة! ثم سأل الخليفة عن اليمن فقال الزهر: إمامها طاوس. وكذلك سأل عن مصر والجزيرة وخراسان والبصرة والكوفة (وهي ولايات الدولة الإسلامية في ذلك الزمان) فأخذ الزهري يعدُّ له سادات هذه البلاد، وكلما سمى له رجلاً كان هشام يسأله: هل هو عربي أو مولى؟ فكان الزهري يقول: مولى، إلى أن أتى على ذكر النخعي، فقال له: عربي، فقال هشام: الآن فرجعت عني! والله ليسُودَنْ الموالي العرب ويخطب لهم على المنابر! وكذلك الحرية تطلق العنان لأصحابها فلا يقفون عند حد، ولا تنثني نفوسهم عن مطمح، و هذه مزية الإسلام التي أضفاها على أهله فتمتعوا في بحبوحتها، وبعد أن كانت الأمم قبله أعنف الناس على العبيد وأقساهم عليهم، وكانت جيوش الفاتحين تسير فيسير وراءها جيوش من تجار الرقيق الذين يبتاعون بالمساومة من شاءوا من أفراد الأمم المقهورة رجالاً ونساءً وأطفالاً، ويسرفون على هؤلاء المساكين في الظلم وكبت النفوس، ويعدونهم شيئاً لا روح له ولا دم ولا إرادة، فتموت مواهبهم، وتقتل آمالهم، ولا يبقى لهم في الحياة هدف ولا رجاء...!

إن الإسلام جعل الرق كفالة وولاية ككفالة القاصر والولاية عليه، وهذه الكفالة والولاية لا تُخرج الرقيق عن معنى الإخاء الإسلامي لمن يسترقه، فالعبد أخ الحر، والعبودية اسم ظاهر، أو كما يقولون (رسمي) فقط، لا يحرمه شيئاً مما يمتاز به الحر، حتى إنهما شريكان في التربية والتعليم الذين هما خلاصة مزايا الإنسان، وقد ورد الشرع الشريف بالحث على تعميمهما ونشر أنوارهما وفوائدهما في كل مكان، وبين طبقات الإنسان جميعاً، لا يستثني من ذلك الأرقاء ولا العبيد، فليست معاملة الرقيق بالحسنة قاصرة على الرفق به وعدم إهانته، ولكنها تشمل المعاملة المعنوية أيضاً، وهي التربية و التهذيب، وفي الحديث الذي أوردناه آنفاً في تعليم الجارية خير دليل على ما نقول.

وإذا قابلت بين هذا الحديث وما قضى به القانون الأسود في المستعمرات الفرنسية، وجدت أن الإسلام دين الحرية حقاً، وأن هذه قضية لا ينبغي أن يمتري فيها منصف يحب الحق ولا يتمادى في اللجاج والجدل.

لقد حرم القانون الأسود حضور غير البيض إلى فرنسا للتغذي بألبان المعارف واقتطاف ثمرات العلم، ومثل هذا القانون كثير في الدول التي تعد نفسها آخذة بحظ وافر من الحضارة والرقي، وقد حَرَمت هذه القوانين ذلك الصنف من بني آدم من أن يجنوا ثمرات الإنسانية [وما يجري الآن في فرنسا أيضاً من حرمان من أصلهم عربي ومن هم زنوج حتى من الرياضة وتحديد نسبة محددة في المدارس الرياضية ضمن النوادي للعبة كرة القدم وقامت الدنيا هناك في هذا الخصوص ومع ذلك شبه أقر في الخفاء هذا القرار ـ طارق ـ ]  ويستكملوا فطرتهم التي وهبها الله لهم، فلم نر فيهم عالماً ولا قائداً، ولا ملكاً ولا مديراً، أما الإسلام فقد فتح لهؤلاء الباب على مصراعيه، وأتاح لهم استغلال مواهبهم فنبغوا في كل ناحية.

ويذكر التاريخ أن أبا عبيدة رضي الله عنه كان محاصِراً بجيشه بيت المقدس، وقد ضيق على المدينة وأهلها، ولما ضاق به أهلها ورضوا بالتسليم، طلب البطريك أن يتخابر في الشروط مع عمر ابن الخطاب نفسه رضي الله عنه، فقبل الخليفة رضي الله عنه هذا الطلب، وجاء إلى القدس الشريف ومعه غلامه، ولم يكن لهما إلا ناقة واحدة، فكانا يركبانها الواحد بعد الآخر، إلى أن اقتربا من المدينة، وجاء الدور للعبد، فأركبه الخليفة وسعى خلفه على أقدامه بهذه الحال حتى وصل إلى معسكر أبي عبيدة رضي الله عنهم. وهنا ترى أن الخليفة عليه رضوان الله طبَّق قوانين المروءة والإخاء مع غلامه،، ولم ير له حقاً يستأثر به دونه، وقد كان العرب الأحرار يرون هذه الحقوق بينهم كما قال أحد شعرائهم حماسة أبي تمام:

أنخها فأردفه فإن حملتكما       فذاك وإن كان العقاب فعاقب

ـ العقاب في بيت الشاعر هو ا لتناوب في الركوب ـ وقد أبى عمر العادل إلا أن يسوي بين نفسه وبين عبده في هذا التناوب. وراع أبا عبيدة هذا المنظر، فخشي أن أهالي بيت المقدس يحتقرون الخليفة لهذا السبب. فقال له: إني أراك تصنع أمراً لا يليق، فإن الأنظار متجهة إليك!فقال عمر رضي الله عنه في قوة وصرامه: لم يقل ذلك أحد غيرك، وكلامك هذا يجلب اللعنة على المسلمين، وقد كنا أذل الناس، وأحقر الناس، وأقل الناس، فأعزنا الله بالإسلام، ومهما نطلب العز بغيره يذلنا الله تعالى...!

وفي ابن الأثير عند ذكر حوادث السنة الثامنة عشرة: أن عمر رضي الله عنه ذهب إلى الشام لتعليم الناس المواريث، فسار من المدينة واستخلف عليها عليَّ بن أبي طالب كرم الله وجهه، فلما دنا منها ركب بعيره وعلى رحله فرو مقلوب، وأعطى غلامه مركبه، فلما تلقاه الناس قالوا: أين أمير المؤمنين ؟ قال: أمامكم! يعني نفسه.

وقد أرسل أبو عبيدة لافتتاح حلب مائة رجل من صفوة قريش، وهم قوم رسول الله ورهطه، وجعل رئيسهم زنجياً.

فهل رأيت فيما قرأت من تاريخ الأمم أو صفحات الشعوب إعزازاً للرقيق وإكراماً له كما رأيت في أعمال هؤلاء السادة من المسلمين، وهم القادة الذين يطبقون حكم الإسلام ويعرفونه حق المعرفة، إذ استقوه من نبيه الكريم فماً إلى فم بدون تغيير ولا تحريف؟ وهل رأيت أوسع حرية أو أفسح ميداناً لرقي الإنسان من ذلك الدين الذي سنزيدك بياناً له ـ بعون الله ـ فإن للكلام صلة يحتويها المقال التالي.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين