الإسلام دعوة شاملة كاملة -2-

 

 

شمول العبادة في الإسلام:

وتتمثل ظاهرة الشمول الإسلامي في عبادته كما تمثلت في عقيدته.

فالعبادة في الإسلام تستوعب الكيان البشري كله، فالمسلم لا يعبد الله تعالى بلسانه فحسب أو ببدنه فقط، أو بقلبه لا غير أو بعقله مجرداً، أو بحواسه وحدها، بل يعبد الله سبحانه بهذه كلها: بلسانه ذاكراً داعياً تالياً، وببدنه مصلياً صائماً مجاهداً، وبقلبه خائفاً راجياً محباً متوكلاً، وبحواسه كلها مستعملاً لها في طاعته سبحانه.

إن عبادة كالصلاة تتجلى فيها عبادة اللسان بالتلاوة والتكبير والتسبيح والدعاء، و عبادة الجسم بالقيام والقعود، والركوع والسجود، وعبادة العقل بالتفكر والتأمل في معاني القرآن وأسرار الصلاة، وعبادة القلب بالخشوع والحب لله، والشعور بمراقبة الله.

وعبادة كالحج، يتجلى فيها عمل الجسم بالرحلة والانتقال والطواف والسعي، وعمل اللسان بالتلبية والتهليل والتكبير والذكر والدعاء، وعمل القلب بالنية والإخلاص، بالإضافة إلى بذل المال، ومفارقة الأهل والوطن تقرباً إلى الله تعالى.

ومعنى آخر للشمول في العبادة، وهي أنها تتسع للحياة كلها، فلا تقتصر على الشعائر التعبدية المعروفة من صلاة وزكاة وصيام وحج، بل تشمل كل حركة وكل عمل ترتقي به الحياة ويسعد به الناس.

فالجهاد في سبيل الله، دفاعاً عن الحق، وذوداً عن المحرمات، ومنعاً للفتنة، وإعلاء لكلمة الله، عبادة لا تعدلها عبادة.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ))مر رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعب فيه عبينة من ماء عذبة، فأعجبته، فقال: لو اعتزلت الناس، فأقمت فيه هذا الشعب! (يعني لأتعبد) ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا تفعل. فإن مقام أحدكم في سبيل الله تعالى، أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً! ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة ؟ اغزوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة(( ([1]).

وعنه أيضاً قال: )) قيل يا رسول الله ما يعدل الجهاد في سيبل الله؟ قال: لا تستطيعونه ! فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً، كل ذلك يقول: لا تستطيعونه، ثم قال: مثل المجاهد في سبيل الله، كمثل الصائم  القائم، لا يفتر من صلاة ولا صيام، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله(( ([2]).

وكل عمل نافع يقوم به المسلم، لخدمة المجتمع، أو مساعدة أفراده، وخصوصاً الضعفاء وذمي العجز و الفاقة منهم، هو كذلك عبادة أي: عبادة.

من ذلك ما جاءت به الأحاديث الكثيرة التي تحث على الصدقة كل يوم، تطلع فيه الشمس، حتى جعلت إماطة الأذى عن الطريق صدقة، وحمل الرجل الضعيف على دابته صدقة، بل تبسمك في وجه أخيك صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل معروف صدقة.

ويدخل في دائرة العبادة: سعى الإنسان على معاشه ومعاش أسرته، ليغنيهم بالحلال، ويعفهم عن السؤال، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد اعتبر من فعل ذلك في سبيل الله، أي: في جهاد، كهاد الميدان، وقتال أعداء الله.

وأكثر من ذلك أنه جعل من وضع شهوته في حلال كان له بها أجر، ولما عجب الصحابة من ذلك قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ))أليس لو وضعها في حرام كان عليه وزر؟ قالوا: بلى. قال: فكذلك لو وضعها في حلال كان له أجر! أتحتسبون بالشر، ولا تحتسبون بالخير(( ([3]).

شمول الأخلاق في الإسلام:

ويبرز الشمول كذلك في ميدان الأخلاق والفضائل، فالأخلاق الإسلامية ليست هي التي تعرف عند بعض الناس ))الأخلاق الدينية(( التي تتمثل في أداء الشعائر التعبدية واجتناب أكل لحم الخنزير وشرب الخمر، ونحو ذلك لا أكثر. فمن صام وصلى وأقام الشعائر، ولم يشرب الخمر، فهو الإنسان الفاضل، والرجل الصالح!

وإن كان قاسياً على الضعفاء، ظالماً للفقراء، آكلاً لأموال الناس بالباطل مضيعاً لحقوق المجتمع متلاعباً بمناصب الدولة!!

هكذا تصور بعض الكاتبين الأخلاق الدينية، ولو صح هذا التصور في معيار دين ما، ما صح ولا كان له ذرة من قبول في معيار الإسلام.

فالإسلام يجعل العدل والإحسان والرحمة والعفة عن الحرام وأداء الأمانات إلى أهلها وغير ذلك من الأخلاق الاجتماعية، من أعظم الفضائل التي يتقرب بها إلى الله تعالى، وتقود صاحبها إلى الجنة.

كما يجعل أضدادها من الظلم والعقوق والقسوة والفجور و الخيانة من كبائر الإثم، وعظائم الذنوب، التي تجر أصحابها إلى النار، وهي دليل على خراب القلب من الإيمان الصحيح بلقاء الله وحسابه يوم الدين.

ولقد استغل بعض الكتاب هذا الجانب الأخلاقي الاجتماعي في الإسلام، فزعم أنه هو المقصود والمطلوب وليس التعبد ولا التقرب بالشعائر والفرائض والنوافل، محاولاً حشد النصوص الكثيرة لتأييد هذه الدعوى.

وكلا الاتجاهين مرفوض في الخلقية الإسلامية، فالإسلام لا يصف الإنسان بالفضل والصلاح لمجرد الجانب الإنساني الاجتماعي فيه، ولا لمحض الجانب التعبدي التنسكي أيضاً.

أن الأخلاق الإسلامية تشمل هذا وذاك، ولم تدع جانباً من جوانب الحياة الإنسانية: روحية أو جسمية، دينية أو دنيوية، عقلية أو عاطفية، فردية أو اجتماعية، إلا رسمت له المنهج الأمثل للسلوك الرفيع، فما فرقة الناس في مجال الأخلاق، باسم الدين وباسم الفلسفة، وباسم العرف أو المجتمع، قد ضمه القانون الأخلاقي في الإسلام في تناسق وتكامل وزاد عليه:

1 ـ أن من أخلاق الإسلام ما يتعلق بالفرد في كافة نواحية:

أ ـ جسما له ضروراته وحاجاته، بمثل قوله تعالى:[ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ] {الأعراف:31}. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ))إن لبدنك عليك حقاً(( ([4]).

ب ـ وعقلاً له مواهبه وآفاقه، يقول الله تعالى:[قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ] {يونس:101}. [قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا] {سبأ:46}.

جـ ـ ونفساً لها مشاعرها ودوافعها وأشواقها [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا] {الشمس:9 -10} .

2 ـ ومن أخلاق الإسلام ما يتعلق بالأسرة:

أ ـ كالعلاقة بين الزوجين [وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا] {النساء:19}.

ب ـ وكالعلاقة بين الأبوين والأولاد: [وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا] {العنكبوت:8}. [وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا] {الإسراء:31}.

جـ، وكالعلاقة بين الأقارب والأرحام [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى] {النحل:90}. [وَآَتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ وَالمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ]

3 ـ ومن أخلاق الإسلام ما يتعلق بالمجتمع:

أ ـ في آدابه ومجاملاته، مثل:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] {النور:27}.

ب ـ وفي اقتصاده [وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ(1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ(2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ(3) ]. {المطَّففين}.. [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ] {البقرة:282}.

ج ـ وفي سياسته وحكمه [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ] {النساء:58}.

4 ـ ومن أخلاق الإسلام ما يتعلق بغير العقلاء من الحيوان والطير، كما في الحديث: ))اتقوا الله في البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة(( وفي الحديث الآخر ))في كل كبد رطبة أجر((.

5 ـ ومن أخلاق الإسلام ما يتعلق الكون الكبير.

من حيث إنه مجال التأمل والاعتبار والنظر والتفكر والاستدلال بما فيه من إبداع وإتقان، على وجود مبدعه وقدرته، وعلى علمه وحكمته، كما قال تعالى: [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ] {آل عمران:190-191}.

ومن حيث إنه مجال للانتفاع والاستمتاع بما أودع الله فيه من خيرات وما بث فيه من قوى مسخرة لمنفعة الإنسان، وما أسبغ فيه من نعم، تستوجب الشكر لواهبها والمنعم بها، كما قال تعالى:[أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً] {لقمان:20}. [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا للهِ] {البقرة:172}.

6 ـ وقبل ذلك كله وفوق ذلك  كله ما يتعلق بحق الخالق العظيم الذي منه كل النعم وله كل الحمد[الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ(2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ(4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ(6) ]. {الفاتحة}.. فهو وحده الحقيق بأن يحمد الحمد كله، وأن ترجى رحمته الواسعة، وأن يخشى عقابه العادل يوم الجزاء، وهو وحده الذي يستحق أن يعبد ويستعان وأن تطلب منه الهداية إلى الصراط المستقيم.

الشمول  في فلسفة الأخلاق الإسلامية:

وبهذا، يتجلى شمول الأخلاق الإسلامية، من حيث موضوعها ومحتواها ولكن الشمول في الأخلاق الإسلامية، يبدو كذلك إذا نظرنا  إلى فلسفتها ومصدر الإلزام بها.

فلقد رأينا المذاهب الفلسفية تختلف اختلافاً بيناً في تفسير الأخلاق، و بيان مقياس الحكم الخلقي أو مصدر الإلزام الخلقي، ما بين مذاهب المثاليين من القائلين بأن المقياس هو العقل، أو الضمير، أو الحاسة الخلقية الخ... ومذاهب الواقعيين من أصحاب المدارس المختلفة: مدرسة اللذة أو المنفعة، أو التطور، أو القوة، أو الوضعية الاجتماعية... الخ...

أما الإسلام فقد شاء الله أن يكون الرسالة العامة الخالدة، فهو هداية الله للناس كافة، من كل الأمم، وكل الطبقات، وكل الأفراد، و كل الأجيال، والناس تختلف مواهبهم وطاقاتهم الروحية والعقلية والوجدانية، وتتفاوت مطامحهم وآمالهم، ودرجات اهتمامهم، و لهذا جمعت الفكرة الأخلاقية في الإسلام ما فرقته الطوائف الدينية، والمذاهب الفلسفية ـ مثالية وواقعية ـ في نظرتها إلى الأخلاق وتفسيرها لمصدر الإلزام  الخلقي، فلم يكن كل ما قالته هذه المذاهب والنظريات باطلاً، كما لم يكن كله حقاً، إنما كان عيب كل نظرية أنها نظرت من زاوية، وأغفلت أخرى، وهو أمر لازم لتفكير البشر، الذي يستحيل عليه أن ينظر في قضية ما نظرا يستوعب كل الأزمنة والأمكنة، وكل الأجناس والأشخاص، وكل الأحوال والجوانب، فهذا يحتاج إلى إحاطة إله عليم حكيم.

فلا غرو إذا كانت نظرة الإسلام، جامعة محيطة مستوعبة، لأنها ليست نظرية بشر، بل وحي من أحاط بكل شيء علماً وأحصى كل شيء عدداً.

لهذا أودع الله في هذا الدين ما يشبع كل نهمة معتدلة، وما يقنع كأذى وجهة سليمة، ويلائم كل تطور محمود.

فمن كان مثالياً ينزع إلى الخير لذات الخير، وجد في أخلاقية الإسلام ما يرضى مثاليته في العمل ابتغاء وجه الله.

ومن كان يؤمن بمقياس السعادة، وجد في الفكرة الإسلامية ما يحقق سعادته وسعادة المجموع معه في مثل قوله تعالى:[مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً] {النحل:97}.

ومن كان يؤمن بمقياس المنفعة ـ فردية أو اجتماعية ـ وجد في الإسلام ما يرضى منفعته في مثل قوله تعالى:[إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ] {الإسراء:7}. [مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا] {فصِّلت:46}.

ومن كان يؤمن بالترقى إلى الكمال، وجد فيه ما يحقق طلبته.

ومن كان همه التكيف مع المجتمع، وجد فيه ما يلائم اجتماعيته.

حتى الذي يؤمن بأهمية اللذة الحسية يستطيع أن يجدها فيما أعد الله للمؤمنين في الجنة من نعيم مادي، ومتاع حسي [وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ] {الزُّخرف:71}.

وبهذا تسمع كل أذن الأنشودة التي تحبها، وتجد كل نفس الأمنية التي تهفو إليها.

شمول التشريع في الإسلام:

والتشريع في الإسلام تشريع شامل كذلك.

إنه لا يشرع للفرد دون الأسرة، ولا للأسرة دون المجتمع، ولا للمجتمع منعزلاً عن غيره من المجتمعات.

إن تشريع الإسلام يشمل التشريع للفرد في تعبده وصلته بربه، وهذا ما يفصِّله قسم العبادات، في الفقه الإسلامي، وهو ما لا يوجد في التشريعات الوضعية.

ويشمل التشريع للفرد في سلوكه الخاص والعام، وهذا يشمل ما يسمى ))الحلال والحرام(( أو الحظر والإباحة.

ويشمل التشريع ما يتعلق بأحوال الأسرة من زواج وطلاق ونفقات، ورضاع، وميراث، وولاية على النفس والمال ونحوها. وهذا يشمل ما يسمى في عصرنا ))الأحوال الشخصية((.

ويشمل التشريع للمجتمع في علاقاته المدنية والتجارية، وما يتصل بتبادل الأموال والمنافع، بعوض أو بغير عوض، من البيوع والاجارات والقروض والمداينات والرهن والحوالة والكفالة والضمان وغيرها، مما تتضمنه في عصرنا القوانين المدنية والتجارية.

ويشمل التشريع ما يتصل بالجرائم وعقوباتها المقدرة شرعاً كالحدود والقصاص، والمتروكة لتقدير أهل الشأن كالتعازير، وهذا يشمل ما يسمى الآن بـ التشريع الجنائي  أو الجزائي وقوانين العقوبات.

ويشمل التشريع الإسلامي ما يتعلق بواجب الحكومة نحو المحكومين، وواجب المحكومين نحو الحكام، وتنظيم الصلة بين الطرفين، مما عنيت به كتب السياسة الشرعية والخراج، والأحكام السلطانية في الفقه الإسلامي، وتضمنه في عصرنا التشريع الدستوري، أو الإداري والمالي.

ويشمل التشريع الإسلامي ما ينظم العلاقات الدولية في السلم والحرب، بين المسلمين وغيرهم، مما عنيت به كتب السير أو الجهاد، فق فقهنا الإسلامي، وما ينظمه في عصرنا القانون الدولي.

ومن هنا لا توجد ناحية من نواحي الحياة إلا دخل فيها التشريع الإسلامي آمراً أو ناهياً، أو مخيراً.

وحسبنا أن أطول آية نزلت في كتاب الله تعالى، نزلت في تنظيم شأن من الشئون المدنية، وهو المداينة، وكتابة الدين.

ويبدو شمول التشريع الإسلامي في أمر آخر، أو بعد آخر، وهو النفاذ إلى أعماق المشكلات المختلفة، وما يؤثر فيها، وما يتأثر بها، والنظر إليها نظرة محيطة مستوعبة، مبنية على معرفة النفس الإنسانية، وحقيقة دوافعها وتطلعاتها وإشراقها، ومعرفة الحياة البشرية وتنوع احتياجاتها وتقلباتها، وربط التشريع بالقيم الدينية والأخلاقية، بحيث يكون التشريع في خدمتها وحمايتها، ولا يكون معولاً لهدمها.

ومن عرف هذا جيداً، استطاع أن يفهم موقف التشريع الإسلامي وروعته من قضايا كثيرة، كالطلاق وتعدد الزوجات، والميراث، والربا، والحدود والقصاص، وغيرها، مما أثبتت الدراسات المقارنة، و أثبت الاستقراء التاريخي والواقعي فضل الإسلام فيه وتفوقه على كل تشريع سابق أو لاحق.

أن عيب البشر الذي هو من لوازم ذواتهم المحدودة أنهم ينظرون إلى الأمور والأشياء من جانب واحد، غافلين عن جانب أو أكثر من جوانبها الأخرى. والحقيقة أنهم لا ذنب لهم في هذا القصور ولا حيلة، لأن النظرة المحيطة الشاملة، التي تستوعب الشيء من جميع جوانبه، وتعرف كل احتياجاته، و تدرك كل احتمالاته وتوقعاته لا يقدر عليها إلا رب البشر وخالق الكون.

 [أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُأ] {الملك:14}.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر: مجلة الأزهر سنة 48 ذو الحجة 1396 الجزء العاشر.

 

 


([1] ) رواه الترمذي وقال: حديث حسن والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم وأقره المنذوري في الترغيب.

([2] )رواه البخاري ومسلم واللفظ له.

([3] ) انظر في شمول العبادة كتابنا: العبادة في الإسلام، فصل مجالات العبادة في الإسلام ط ثانية أو ثالثة.

([4] ) رواه الشيخان.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين