الإسلام بين الثبات والتغيير

 

 

التحجّر، الرجعية، الجمود، التخلف... كلماتٌ قُذف بها الإسلامُ بمجانيق الخارج والداخل، فهو- في اعتقادهم- دينٌ لا يساير التطورَ العالمي، ولا يرضى بالتكيّف والتأقلم، ويرفض الجديدَ مستمسكاً بالقديم، ولا يحثّ أتباعَه على اللِّين والمرونة، إنما يأمرهم بأن يَجمُدوا أو يتجمّدوا. وهذا الجمودُ والثبات يتنافى مع حركة الصيرورة الكونية. هذا هو داء المسلمين، كما شخصه العلمانيون من عرب وغربيين، أما الدواء فهو أن المسلمين إنْ راموا التقدمَ، والحضارة، والتكنولوجيا فما عليهم إلا أن يطرحوا الإسلامَ جملةً، أو أن يستبقوا عليه، لكن في حالة الأسير المكبَّل، المقيَّد، فما من أمرٍ ولا نهي، ولا حكمٍ ولا سلطان.

 

والسؤال المطروح:

هل الإسلام حقاً كما قالوا عنه؟ هل ثمة ما يصدِّق هذه التهم ويعضدها؟ هل الإسلام - من بين جميع الجذور اللغوية- مولعٌ بجذور: حجر، وجمد، وثبت، وخلف، ورجع، وما تولّد منها، وتفرع عنها. الجواب: إنّ الإسلام حين يُسأل عن أمثال هذه التهم سيجيب قائلاً: إني أذر الحكْمَ لكل إنسان، يتخذ الإنصاف ديناً، أن يصدر حكمه ويقول كلمته، بعد أن يطلع على الحقائق والقضايا الآتية:

 

أولاً: إن مصطلح التغيّر والصيرورة مصطلحٌ فلسفي، يعني أن الأشياء تنتقل باستمرارٍ من حال إلى آخر، ولا تستقرّ على وضع ثابتٍ، فكل شيء تراه، أو لا تراه، من أخلاقه التبدُّلُ والتغير (تراب، ماء، خلايا، حجر، نباتات، أشجار...إلخ). ومبدأ الصيرورة هذا صحيح لا غبار عليه، غير أن مجال الصيرورةِ، المستمرة، مقصورٌ على ظاهرات المادة وحدها (مثل اللون، الصلابة، الحرارة، الطول، العرض..)، ولا شأنَ له بماهيتّها وجوهرها. فجوهر المادة شيءٌ، ثابتٌ، لا يطوله تطور، ولا يدنو منه تغيير. ولذا فإنّ مبدأ الصيرورة، ليس المبدأَ الوحيد الذي يسبح في كوننا، فإن في مقابله مبدأً آخر، ألا وهو مبدأ الثبات والرسوخ، فالنظام الكلي في مجموعه ثابتٌ، مستقر. خذْ على سبيل المثال حركةَ الأفلاك، ودوران الأرض، وتعاقب الليل والنهار، والقوانين الفيزيائية، وحاجة الإنسان إلى الطعام، والشراب، وتحريم الظلم، وإقامة العدل. كل هذه الأمور -و غيرها كثير - هي على حالها لم تزل، لم يمسها التغيير والتطور بسوء. إنها سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولا تحويلاً.

 

ثانياً: ما كلّ قديمٍ منبوذٌ مطّرَحٌ، وما كل جديدٍ مقبولٌ مرحَّب به.

 

إن المقياس في القبول والرد ينبغي أن يكون شيئاً بعيداً كل البعد عن محض القدم، أو الجِدَّة. إن الصلاح والفساد، والنفع والضر، والفضيلة والرذيلة، هي المعايير التي يُحمَل عليها القديمُ والجديد. فإذا كان القديم- الذي امتدّ به العمر- لا يزال حيّاً، صالحاً، نافعاً، فاضلاً فلمَ التقززُ، والاشمئزاز عند ذكره، ولمَ الدعوةُ إلى نبذه، واستبدال الجديد به؟ ومن ذا الذي يضمن أن الجديد هو الأصلح والأنفع، وأنه خطوةٌ إلى الأمام، وأنه ارتقاء، وصعود، وليس ارتكاساً، وانتكاساً، أو نقضاً، وهدْماً؟ «إنّ القديمَ هو الواقعُ، الثابت الذي يقوم به الماضي والحاضر معاً، والجديد لا يعدو أن يكون أمراً يتوهّمونه أمراً، وهو بعدُ لم يقع، فليس الممكنُ أولى به من المستحيل، ولا المستحيلُ أحقَّ به من الممكن».

 

إنّ البلاء كلّ البلاء أن نتخيل وجودَ الحق والخير، والنفع والفضيلة في الجديد؛ فقط لأن عليه طلاءَ الجدة، ورواءَ الحداثة، وصفةَ العصرنة. ونقول لدعاة التجديد والتطوير: إن الجديد الذي نقضتم القديم لأجله اليوم، هو ذاته سيغدو قديماً عن قريب، ولسوف يناله منكم ما نال صاحبه قبلاً من الاتهام والتهديم. وهذا تماماً ما كشفته قابلاتُ الأيام، مما يؤكد أن آراءكم في الجديد لم تطبخ جيداً، فهي آراء فطيرةٌ، لا سِنادَ لها، ولا دعامة.

 

لكن نقول: لا مانعَ من قبول الجديد، واعتناقه إذا غلب على ظننا، أو رجح عندنا صلاحيتُه، ونفعه، وأَخْذُنا به لا ينبغي أن يناقض التمسكَ بالقديم، الصالحِ، بل هو في بعض حالاته امتداد للقديم، وتثبيت لجذوره.

 

ولزامٌ أن نكون على ذُكرٍ أن كثيراً من الأمم لا يزالون متمسكين بقديمهم، وتراثهم، وتاريخهم، وثقافتهم، تمسُّكَ الشحيح بماله، مقبلين عليها إقبالَ الظمآن الصادي على الماء الفرات. فالهندوسية التي مضى عليها آلافُ السنين لا تزال تستنير بالآراء، والحِكَم والأحكام المودعة في كتبها الدينية، وعلى رأسها كتاب الفيدا، وأكثر من هذا، هي ترى أنّ سرّ بقائها، وعصَبَ حياتها كامنٌ في تمسكها والتزامها بهذه الكتب. وفي مثال آخر، يخبرنا العلامة شكيب أرسلان عن اليابانيين بأنهم قد ائتلفوا مع جميع احتياجات الحياة العصرية، لكن مع حفظ الميلِ الدائم إلى الرجوع إلى الماضي، والتمسك الشديد بأذياله. فعندهم هياكل (شنتو)، ومعابد (زن) والهياكل البوذية مكرّمة، معظَّمة، مخدومةٌ بأشدّ ما يمكن من الحماسة الدينية، والإيمان الثابت، كما كانت منذ قرون.

 

وبعد أن ضرب شكيب أرسلان أمثلةً، مشابهة لما نقل عن اليابانيين قال: «جميع هؤلاء الخلائق تعلّموا، وتقدّموا، وترقّوْا، وعلَوْا، وطاروا في السماء، والمسيحيُ منهم باقٍ على إنجيله وتقاليده الكنسية، واليهودي باقٍ على توراته وتلموده، والياباني باقٍ على وثنه وأرُزِّه المقدس، وكلُّ حزبٍ بما لديهم فرحون. وهذا المسلم المسكين يستحيل أن يترقّى إلا إذا رمى بعقيدته، ومَآخذه، ومَتاركه، ومَنَازعه، ومشاربه، ولباسه وفراشه، وطعامه، وشرابه، وأدبه، وطربه، وغير ذلك، وانفصل من كل تاريخه. فإنْ لم يفعل ذلك فلا حظَّ له من الترقّي ». إنَ جوهرَ التطور لا يقوم على التخلّي عن الثابت، وإنما على توفير العلاقة الحيَّةِ والخِصْبة بينه وبين المتغيِّر.

 

قال الشاعر محمد بن نصر الأَوْسي:

 

وإنْ كان عندي لِلجَديدِ لُذاذةٌ

                              فلسْتُ بناسٍ حُرْمةً لقَديمِ

 

ثالثاً: إن في الإسلام جانباً، من شأنه أن يبعث على التطور، والتقدم، ويهدي إلى سُبُل الوصول إليهما، كيف؟

 

مما لا يختلف عليه اثنان أنّ من الأحكام الشرعية ما أُبرمت دلائلُه بنصوص، واضحة، قاطعة، ليس فيها- بل لا يقبل فيها- أدنى خلافٍ أو اجتهاد. مثل تأبيد تحريم الربا، والغش، والاحتكار، والزنا، والفواحش، ووجوب الحجاب، وبر الوالدين، وصلة الرحم وإباحة الزواج، والبيع، وغيرها كثير مما هو باقٍ على حاله، لا يتبدل، ولا يتغير ما سرى نجمٌ، وهبتْ ريحٌ. ومن الأحكام ما هو خاضعٌ للرأي والاجتهاد، المنضبط بقيوده وشروطه. وبعبارة أخرى: هناك أحكامٌ لا تتبدل ولا تتغير؛ لأنه من صالح البشرية أن تبقى كذلك، ولو لم يدرك الناس هذا الأمر، وهناك أحكام أخرى، عرضةٌ للتبديل والتغيير وَفق ما تقتضيه المصلحة المعتبرة.

 

ماسة سوداء (ورق اللعب) فمن ذلك القاعدةُ، الفقهية، المشهورة "تتبدّل الأحكامُ بتبدّل الأزمان"، وفي تعبير آخر "لا يُنكَر تغيّرُ الأحكامِ بتغيُّر الأزمان." وكلمة "الأحكام" ليست على إطلاقها، والمراد بها الأحكامُ الاجتهادية، المبنية على العرف، والمصلحة الذينِ من صفتهما التبدلُ والتغير الدائبان. والعرف والمصلحة أقسام: صحيح يقره الشرع، وآخر فاسد لا اعتبار له. فكل ما تعارف الناس عليه في معاملاتهم، وتصرفاتهم، وعاداتهم، ولباسهم، وأكلهم، وشربهم، مما لا يعارض صريحَ القرآن والسنة، وليس فيه تفويتٌ لمصلحة، ولا جلب لمفسدة، فله في الشرع اعتراف، واعتبار. أما ما تعارفوا عليه مما فيه مخالفة لبعض أدلة الشرع، أو أصوله فهو ردٌّ. كأن يتعارف جماعة على التعامل بالربا، واللعب بالقمار، وارتكاب الفواحش والمنكرات.

 

ماسة سوداء (ورق اللعب) ومن ذلك قاعدة "حيثما وُجِدتْ المصلحةُ فثمَّ شرعُ الله". إن أحكام الشريعة الإسلامية قائمة في جملتها، وتفصيلها على ما تقتضيه مصالحُ العباد. ومصلحةُ الإسلام هي كل ما ينسجم مع فطرة الإنسان الصافية الأولى، سواء من حيث كونُه فرداً مستقلاً بنفسه، أو من حيث كونه عضواً في الجماعة الإنسانية. وليس من خلاف بين الباحثين أن الناس يختلفون في ميولهم، وعاداتهم، وما غذتهم به مجتمعاتُهم من مبادئ، وأفكار، واعتقادات، فما أراه أنا فضيلة قد يكون في ميزانك، واعتقادك منقصةً ورذيلة، والذي تنجذب أنت إليه، قد أنفر أنا منه، وأبتعد عنه. ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين. ومن أجل ما ذكرنا كانت نصوص الشريعة الإسلامية هي وحدها المرجعَ والمآب في تحديد مسمّى المصلحة، وضبطِ جزئياتها، لأن الله تعالى هو أدرى بمصالح عباده، وبمكامن الخير لهم، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير. إذن الشريعة هي المحكَّمة في تفسير جزئيات المصلحة التي في قاعدة " حيثما وجدت المصلحة فثمَّ شرعُ الله".

 

ماسة سوداء (ورق اللعب) ومن ذلك أيضاً ما يُعرَف بـ"أحكام الإمامة والسياسة الشرعية"، وهو أن يتيح الإسلامُ للإمام الحقَ في الاختيار بين عدة أمور في قضية معينة بما يحقق المصلحة لعامة المسلمين.

 

ولا بد هنا أن نعود فنؤكد أن الأحكام الشرعية القابلة للتغيير وفق المصلحة، لا تمس الأحكامَ الشرعية، التي تمثّل جوهرَ الإسلام الثابت البتة. بل إنهما كاليدين، يتعاونان معاً لتأمين مصالح المسلمين، والعمل على تطورهم، وتبوّءهم المحلَّ الأرفع، والمكان الأسمى بين سائر الأمم.

 

وهاك بعضَ الأمثلة على التعاون المشترك بين هذين الجانبين (الثابت والمتغير) في الإسلام:

 

1- مبدأ الشورى. هذا المبدأ من الثوابت الإسلامية الباقية على كرّ الدهور. فلا تغيير في هذا المبدأ الذي أرسى قواعده قولُه تعالى: ? وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ? [الشورى: 38] وقوله تعالى: ? وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ? [آل عمران: 159]. أما عن الكيفية التي تكون فيها الشورى، واختيار أهل الشورى والخليفة ومبايعته فهي متروكة للمسلمين "يجتهدون في اختيارها وتحديدها، وتحسينها وتطويرها، حسب الزمان والمكان، ولذلك اختلفت طريقة اختيار الخلفاء الراشدين الأربعة، كلٌّ حسب ظروف اختياره. وفي عصرنا يمكننا اختيار طريقة الترشيح وانتخاب الأفضل بأغلبية الأصوات، كما هو شأن النظام الديمقراطي. ويمكننا أن نضع ما نراه من شروط ومواصفات علمية وخلُقية لمن نرشّحه. وكذلك يمكنا تحديد من يختار وطريقة الاختيار.".

 

2- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هذا من أسس وثوابت الشريعة، التي لا تقبل بحال التغيير والتطوير. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ." وقال:" والذي نفسي بيده لتأمُرُنَّ بالمعروف ولَتَنْهَوُنَّ عن المنكر، أو لَيُوشِكَنَّ الله يبعثُ عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يَستجيبُ لكم". لكن كيف نطبق هذا المبدأ؟ وما هي وسائل التطبيق؟ وما هي شروطه؟ ومن يحق له القيام به؟ وما هي حدود سلطته واختصاصه؟ هذا كله مردّه للمسلمين مراعاة للزمان والمكان.

 

3- واجب الدعوة إلى الله ونشر رسالة الإسلام. قال تعالى: ? ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ? [النحل:125]. هذا حكم ثابت، مستقر، غير قابل للتطوير والتغيير. "غير أن هذا الحكم يتصل بأنشطة سلوكية كثيرة في حياتنا وواقعنا المعاش، تتصل ببناء الجامعات وإقامة المؤسسات التعليمية والتثقيفية، والعكوف على إخراج المؤلفات العلمية التي تخدم هذا الحكم، كما تتصل بإنشاء دور نشر ومطابع والاستعانة بأجهزة إعلام، وإيجاد مُناخات ملائمة للنقاش والحوار. وكل ذلك خاضع للتطور تحت عوامل اختلاف الأزمنة والأمكنة، وتبدّل الوسائل وتطورها بموجب التقدم أو التخلف الحضاري. إن الحكم المتصل بهذه الأنشطة، على الرغم من ثباته ورسوخه مع الزمن، يبعث المسلمين على أن يطوروا هذه الأنشطة الخادمة له ما أمكنهم، وأن يبعثوها في كل فترة من الزمن بعثاً جديداً بحيث يكون ذلك ضمانة لاستمرار تطبيق هذا الحكم، بل ضمانة لاستمرار جِدّته وبقاء حيويته."

 

4- لباس المرأة. فالأصل في ذلك هو وجوب ستر المرأة جسدها عن الآخرين بطريقة فيها احتشام. فالشرع يفرض على المرأة أن تلبس ثوباً لا يحكي شيئاً من زينة جسدها وحجم بدنها ولون بشرتها. وهذا أصل ثابت لا يتغير في كل زمان ومكان. أما نوع اللباس وتسميته فأمر خاضع للعرف والعادة. فسواء كان الرداء هو الجلباب أم المانطو أم غيرهما فهو أمر لا يهم، إذ تغيير الاسم لا مدخل له في تغيير الحكم. وكثيراً ما كان يقع شجار عنيف وجدل لا طائل من ورائه، بين فئات من الرجال أو النساء حول الأولوية الشرعية للبس الجلباب على المانطو أو العكس. ويخيل لهؤلاء أن كلمة "الجلابيب" المنصوص عليها في قوله عزّ وجل: ? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ? [الأحزاب:59] هي مناط الوجوب في أمر الله، وهي الزيّ الوحيد الجائز للمرأة، وأن أيّ لباس آخر لا يفي بالغرض. وهذا وهم كبير وجهل بمقاصد الشريعة، فشكل اللباس خاضع لعرف البلد وعادات الناس، يتغير بتغير الزمان والمكان. ولا مانع للمرأة المسلمة من ارتداء أي زي تشاء طالما أنه يحقق مقصد الشارع وهو الستر والحشمة. ومما "يجب على كل مثقف أن يعلمه علماً أولياً لا خلاف فيه، أن الأحكام لا تناط بالأسماء والألفاظ، وإنما تناط بالمعاني والمفاهيم.".

 

رابعاً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إنّ الله يَبعثُ لهذه الأمّةِ على رأسِ كلّ مئة سنةٍ مَن يجدّدُ لها دينَها». المراد بتجديد الدين: إحياءُ وبعث ما اندرس من الكتاب والسنة، بإزالة ما تراكم عليهما من غبار البدع والتزيدات، وتنقيتهما من أدران الشبه، والضلالات، وليس المراد الإصلاحَ أو التجديد في هيكل الدين، وتطوير أحكامه الشرعية، كما يشتهي المشتهون.

 

إن العلمانيين الذين يدعون إلى إعادة التفسير والنظر في الشريعة الإسلامية من حيث الفقهُ وأصوله -أمثال نصر حامد أبو زيد، ومحمد شحرور، وسعيد العشماوي، ومحمد أركون- ينتمون إلى مدرسة واحدة، أهم سماتها: الجهل بالشريعة، بمصادرها وأصولها وأحكامها، وأكثر رواد هذه المدرسة لا يعرفون كيف يقرؤون القرآن قراءةً صحيحة، فضلاً عن معرفة علومه. ولا يعرفون أصول الفقه ومباحثه. ولا يعرفون اللغة العربية وعلومها. ومن سمات هذه المدرسة: التبعية المطلقة للفكر الغربي. وقديماً سماهم فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي "عبيد الفكر الغربي." ولما سئل عن سبب تسميتهم بذلك، ولم يسمهم تلاميذ الفكر الغربي، قال: التلميذ النجيب كثيراً ما يناقش أستاذه، وقد يتخذ لنفسه خطّاً غير خطِّه، ولكن هؤلاء يأخذون كل مفاهيم ساداتهم قضايا مسلَّمةً، لا يمتحنونها ولا يناقشونها ولا يجادلونهم فيها. فليس لهم وصفٌ يعبر عن حقيقة موقفهم إلا وصفُ العبيد، الذين ذابت شخصيتهم في ذوات سادتهم [1].

 

ألا من كان لا يعلم فليعلم أن "تطور الإسلام" الذي تتشوّف بعضُ أعناق الغربيين إلى رؤيته، هو في جوهره مسخٌ لتعاليم الإسلام، وهدم لثوابته، وزعزعة لأُسُسِه. فالإسلام في نظرهم لا يغدو متطوراً إلا إذا سمحَ بالمعاملات الربوية، وإلا إذا غضَّ الطرفَ عن التصرفات الإباحية، وإلا إذا أيّد التبرّجَ والسفور، وإلا إذا باركَ العولمة، وإلا إذا دخل في سِلْك النظام العالمي الجديد، وإلا إذا عانق الحداثةَ والعصرنة، وإلا إذا رُكِّبت عقيدتُه مع العقائد الأخرى تركيباً مزجيّاً، وإلا إذا تلبّستْ أفكارُه بأفكار الملاحدة والزنادقة، تلبُّساً لا فكاك له. هذا هو التطور المراد إدخالُه في جسد الإسلام، ودنيا المسلمين.

 

[1] "دراسة في مقاصد الشريعة الإسلامية"، ص 95.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين