الإسلام أساس حياتنا، وسر قوتنا، وضمان بقائنا – 1 -

 

 

الإسلام ـ في كياننا الحسي والمعنوي ـ موضوع وشكل، وحقيقة وعنوان.. وهو ـ بالإضافة إلى وجودنا ـ الدعائم الوثقى، والأصباغ الملونة، ـ وبالإضافة إلى حركتنا ـ القدرة الدافعة والوجهة المنشودة.

وتوضيحا لهذا الكلام لابدَّ من شرح وجيز للمجال الروحي الذي يَعمل فيه الإيمان، وبيان لمدى الفراغ الذي يَملؤه في مقاصدنا الداخلية ونشاطنا الخارجي على سواء.

المسلم إنسان يؤمن بالله الواحد الصمد، ويصوغ حياته وفقَ أوامره ونواهيه، ويوقن بأنَّ المبتدأ منه، والمنتهى إليه، فهو يجعل له ما بينهما، ويحكِّمه في شؤونه كلها لأنه أولاً لا يرضى غيره حكماً، ثم لأنَّه يلتمس الرضوان والسعادة من وراء هذه الطاعة التَّامَّة والتسليم المطلق.

ورباط المؤمن بالله يُلقي في رُوعه، أنَّه حزبه، وأنه وليُّه، وأنه تابعه المخلص الوفي. وأنَّ سرَّه وعلنه، وقلبه، ولبَّه، لمولاه وحدَه، مُقتدياً في ذلك بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم الذي علَّمه ربه أن يقول: [قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ] {الأنعام:162-163}.

وقد تتعرَّض هذه العلاقة للضعف والقوة، والغموض والوضوح، غير أنَّها موجودة أبداً، وهي في امتدادها الواجب، أو في نموها الذي تبلغ به تمامها، تستحوذ على الإنسان كله، ولا تبقي فيه فَضْلة لأحد.

والشواهد على هذا الكلام فوق الحصر من كتاب الله تعالى وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكني أختار هنا حديثاً رقيقاً رواه البخاري بروايته، ولا مراء عندي في صِحَّته لأنه متفق أتمَّ الاتفاق مع سائر الآيات والسنن.

وهذا الحديث قُدسي من رواية الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضت عليه، ولا يزال العبد يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه. فإذا أحببته كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنَّه، وما تردَّدت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مَسَاءته)، ولنتناول فقرات هذا الحديث بالشرح السريع:

إنَّ الجملة الأولى ظاهرة المعنى، فإنَّه حق على الله تعالى أن يحمي من آواه في كَنَفه، وأن يعلن سخطه على من تعرَّض للصالحين من عباده.

وولاية الله قد تَعني درجة مرموقة من التقوى والاستقامة، يستحقُّ أهلها النصرة والرعاية... بيد أنَّ المؤمنين جميعاً لا يحرمون من هذا الوصف العزيز ما دام يَقينهم نقياً: [ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ] {محمد:11}.

ولموالاة الله سبحانه منهج مبين، لا يؤذن لأحد أن يتزيد فيه، ولا أن ينتقص منه، هو أداء الفرائض التي فُصِّلت تفصيلاً أحصى ما يحبه الله من خلقه، وما يرضاه لهم، ويرضى به عنهم. فإن توسَّل امرؤ إلى الله بغير هذا، وزعم أنه جاء بما يحبه الله تعالى فهو كاذب.. والفرائض المبيَّنة في الكتاب والسنة معروفة، والمهم أنَّها متكاملة، أي: أنَّ الكل منها ـ بتعبيرنا المعاصر ـ قاطعاً من الحياة العامة تعمل فيه وتتكفل بإصلاحه.

فإذا أُدِّيت كلها على وجهها المشروع، استقينا من مَعَاني الخير والحق التي نهضت عليها هذه الحياة.

 فالصلاة كفيلة بتزكية النفس وتنقية مَعْدِنها من الشوائب، أو هذا شأنها كما أنَّ وظيفة الطعام تغذية الجسم؛ فإذا أصيب الجسم بديدان تمتصُّ الغذاء وتبطل الثمرة، فليس العيب في الطعام وأثره المقصود، إنَّما العيب في العِلَل التي أبطلت فائدته.

والزكاة كفيلة بسلامة المجتمع، وإعانة الجوانب المائلة فيه، وبثِّ روح التعاطف بين أفراده. والأمر بالمعروف كفيل باستحياء معنى الحق واستدامة هيبته، وإشراب الأمة احترامه والعمل به. والحكم بما أنزل الله كفيل بحسم الشر، واستئصال مادته، وإشاعة الأمان والثقة حول الدماء والأموال والأعراض. والمشي في مناكب الأرض، ابتغاء رزق الله من شتى موارده، كفيل بتوفير الغنى للفرد والرفعة للمجموع، والعمران للدنيا.. وهكذا.

والفرائض التي سقنا أمثلة لها هي الأنصبة الدنيا لمطالب الإسلام في كل قطاع حيوي، فإنَّ من فرَّط في فريضة انثلم إيمانُه، وانهدَّ ركن خطير فيه، وتعرَّض سائره للضياع.

ولا يقبل الله تعالى من مسلم إلا أن يؤدي الفرائض كلها تأدية تامة، فلو أدَّى بعضها ورفضَ البعض الآخر لم يقبلْ منه الذي فعل، وحقَّ عليه قوله عز وجل: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ? فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَ?لِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ? وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى? أَشَدِّ الْعَذَابِ ? وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} [سورة البقرة].

ويظهر من ذلك الوعيد أنَّ الفرائض التي أديت هي صورة عبادة فقط، لعل باعث أدائها التعود أو الوراثة، وليس اليقين القوي. ولو كان اليقين الصحيح باعث أدائها لما تخلَّف أثره في بقيتها، وإلا فلماذا تركت؟

ومن ثَمَّ فنحن نشك في إيمان من يصلي ولا يزكي... أو من يفعلهما معاً ويهدم حدود الله سبحانه الأخرى.

إنَّ الفرائض ـ من واجبات تفعل ومحرمات تترك ـ نسيج مُتشابك لا يجوز خرقه، ولا تقطيعه استغناء بقطعة منه عن قطعة. فمن تشبَّث بها كلها أصاب الحق، ونال الرضا، ودخل في موالاة الله، وأضحى من حزبه.

لكن هذه الفرائض لا تشغل وقت الإنسان كله، ولا تستغرق جهوده جميعاً. سيبقى له بعد إنجازها وقت وجهد يَستطيع أن يتصرَّف فيهما كيف أحبَّ.

فمن أنفقهما في اللهو المباح جاز له. ومن قرَّر توجيه جزء آخر منهما لله تعالى، فقد وضع رجليه في أولى درجات السلم العظيم، سلم الاتصال بالله سبحانه، وإحراز المزيد من عطفه ولطفه. والناس مُتفاوتون في مدى شغلهم بالحق، والتفاتهم إليه، وجهادهم فيه. وإلى هذا يشير الحديث: (ولا يزال العبد يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه).

والنوافل هي الزيادات على الفرائض، وهي زيادات منوَّعة كذلك من جنس ما فرض الله سبحانه على عباده.! ومجالها جميع القطاعات التي تعمل فيها الفرائض، وتقيم بها أرجاء الحياة العامَّة، على نحو ما شرحنا آنفاً.

وليست النوافل ركعات وحسب، أو صدقات وحسب! إنَّها المزيد من العمل لله تعالى في كل ميدان، عملاً تصحبه النيَّة الخالصة، ويستهدف به إقامة الدين ودعم أمته.

غير أنَّ هناك فرقاً لا بدَّ من كشفه، فالمسلم بالنسبة إلى الفرائض مُلزَمٌ بها واحدة واحدة، أما النوافل فإنَّ قيامه ببعضها يغنى عن البعض الآخر.

وذاك لأنَّ استعداد الناس للتجويد والتوسع غير متاح لهم في كل ميدان، إنَّه راجع إلى مواهبهم الأولى، وما انفتح لهم من أبواب الخير، أو ما تمهَّد لهم من أسباب النشاط والتمكين.

المدرس قد يكون مجال تفوُّقه في شرح العلوم، وتنشئة الأولاد على أحسن غرار، والطبيب قد يكون ميدان حماسه علاج المرضى، وتتبُّع آلامهم بالمحو أو التخفيف، وأيما مسلم استكمل الفرائض، ثم كرَّس وقته وجهده في إحسان عمل ما مِن أعمال الخير التي تعزُّ الإسلام وأهله، فقد سلك طريقاً مُوصِلاً إلى محبَّة الله حتماً: [وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى وَإِلَى اللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ] {لقمان:22}

والدرجة العُليا في هذا السلم أن يستغرق المرء في تلك الأعمال استغراقاً يملك مشاعرَه وأعضاءه، فهو بحرارة الإخلاص وصدق التوجُّه مشغول بها، وبمن يؤديها له، عن كل شيء آخر.

هنا يحبُّه الله تعالى، فإذا أحبَّه أعانه على ذكره وشكره، وسخَّر حواسَّه وجوارحه في هذه الأعمال الخالصة له: (فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمعُ به، وبصرَه الذي يبصرُ به، ويده التي يَبطشُ بها، ورجلَه التي يَمْشى بها).

أي: كانت حياته كلها، وأفكاره ومَشَاعره وقفاً علي. ألا ترى الشاعر الغزل يقول:

لا أرى الدنيا على نور الضحى = بل أرى الدنيا على نور العيون

إنَّ عشقه للنساء من سُمر وشُقر، وحُور ودعج، جعله لا يحسُّ جمال الدنيا في ضوء الشمس، وإنما يحسُّ جمالها فيما يُتاح له من حبٍّ للنساء، وصلة بهنَّ.

والواقع أنَّ الذي يَستغرق في عمل ما، أو تستحوذ عليه فكرة ما يحتبس في جوها، ويذوق السعادة في نطاقها، ويشعر بالغربة بعيداً عنها، ويستوحش من كل شيء يعكر عليه الخلوة بها، على أنَّ هنا لفتة: أنَّ أحداً لن يفرضَ على الله صداقته، فالله تبارك وتعالى هو الذي يَنْظر إلى عباده، ويمتنُّ على من شاء منهم بقوَّة الصلة، وجميل الرعاية.

وهذه اللفتة مفهومة من قوله: (فإذا أحببته كنت سمعه...) الخ، أي: جَلَوتُ العوائق والشواغل عن حِسِّه ومعناه فصار يسمع بي، ويبصر بي.

ومن الجهل توهم أنَّ هذا الذكر المشرق بالله تعالى، لا يكون إلا في خلوة من الناس، أو لا يتمُّ إلا بعد فرار من المجتمع، كلا... إنَّ هذا الذكر مخلوط بعمل المرء داخل الحياة نفسها، وبتصرُّف يده ورجله، وسط ضجتها الكبرى.!

وأروع ما في الحديث هو التنويه بأنَّ المسلم إذا فني في رسالة، واشتغل بها كلاً وجزءاً، فهو يرضى لله ويسخط لله، ويطعم لله ويتبسط لله، وينام لله ويصحو لله، ويجم ويكدح لله.. الخ.

لقد تحوَّل ـ في ميدان الحياة الرحبة، وعلى ظهر الأرض الطويل العريض، قوة تشكل ما يقع في نطاقها وفق فطرتها هي، لقد أصبح كالنحلة، تتعرَّض للأزهار والأثمار فتحيلها شهداً شافياً؛ لأنَّ هذه طبيعتها التي لا تحسن غيرها...! وفي الحديث: (مثل المؤمن مثل النحلة، إن أكلتْ أكلت طيِّباً، وإن وقعت على شيء لم تخدشه ولم تَكْسِرْه).

لو أنَّ أحد رجال المال اختير عضواً في مجلس إدارة لإحدى الشركات، فانكبَّ على عمله هذا يؤديه بقوة، ويحاول ترقيته وتنميته، ويحلم في مَنامه بطرق استثماره، ويكرِّس صحوه لحراسته. وهو في هذا كله يرمي إلى دعم الاقتصاد الإسلامي، ومطاردة الغزو الأجنبي، ورفع مستوى الأمَّة التي وقف على ثغرة خطيرة فيها، فليس يشكُّ أحد من علماء الإسلام في أنَّ هذا الرجل مجاهد في سبيل الله!. وأنَّ تفانيه في هذا المجال ـ بعد استكمال الفرائض المكتوبة ـ يجعله من أولياء الله الصالحين، الذين عناهم هذا الحديث الشريف.

إنَّ باب النوافل واسع، ويستطيع المسلم المؤدي للفرائض أن يحرز أعلى درجات القرب من الله عن طريق أي عمل صالح، عادي أو عبادي، ما دام عميقَ الإخلاص، ناظراً إلى وجه الله في كل موطن..

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

[للمقالة تتمة]

المصدر: كتاب: (الإسلام والطاقات المعطَّلة)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين