الإسراء والمعراج

[سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُو السَّمِيعُ البَصِيرُ] {الإسراء:1} .

خرج بنو هاشم من الشعب بعد حصار دام ثلاث سنين، لقي المسلمون فيها أقسي‏ ضروب المقاطعة، وكانت قريش تظن أنها بهذه الأعمال توقف سير الدعوة المحمدية، ولكن‏ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يضعف أمام هذا العنت.

وبعد الحصار بقليل توفي عمه، وكان عضده في الملمات، وسنده عند الأزمات، وبعده‏ توفيت خديجة رضي الله عنه الزوجة الوفية، والتي كانت مصدر التسرية في لحظات الحزن والأسى، فأحس‏ المصطفى لفقد هما حزنا عميقا، حتى سمي عام وفاتهما بعام الحزن، وبينا هو في هذه الحالة، وقريش تمعن في الإيذاء، وتشنط في الخصومة، ظناً منها أن فقد هذين النصيرين سيكون‏ من العوامل التي تجعله صلى الله عليه وسلم يقعد قليلا عن النشاط في دعوته، ولكن الدعوة تسير قدماً في الذيوع والانتشار.

وفي صبيحة يوم مشرق النور جلس صلى الله عليه وسلم في حجر إسماعيل يقص قصصاً كان في سمع‏ قريش الجاحدة المنكرة خيالاً بل حديث خرافة، حتى أنهم لفرط دهشتهم ظنوا به الظنون، وحسبوا أن خياله قد شط به، فبقي أمامه جماعة يستعيدون حديثه خيفة أن يعدل عنه، وجرى الباقون يتنادون في الطرقات: تعالوا فاسمعوا لما يقول محمد، اعتقاداً أن هذا هو الخبل بعينه، وما دروا أن الله جلت قدرته أحب عبده ورسوله، فأكرمه وشرفه وفضله‏ على سائر خلقه، فجمع له الرسل المكرمين، والملائكة المقربين، في بيت المقدس ليصلي بهم‏ إماماً، ويأخذ عليهم عهداً وميثاقاً بسموه وفضله وتقدمه وسبقه، وقد أراه ربه وهو في طريقه إلى المسجد الأقصى عجائب مخلوقاته الأرضية، وما أعده للمخالفين عن أمره، والخارجين‏ عن طاعته، بارتكابهم للمنكرات، وصور له عقوباتهم على ما اقترفوه.

وبعد الانتهاء من الصلاة أخذه جبريل عليه السلام وصعد به إلى السموات العلى ليريه آيات الله‏ الكبرى في الملكوت الأعلى، ولا عجب في ذلك ولا جناح فهو الرسول الأمين، وهو الحبيب‏ الأول صلى الله عليه وسلم: من خلق الكائنات من نوره، وألهم الأنبياء الصلاة عليه والتسبيح باسمه.

حتى إذا اكتمل جمعهم بَهَرَهم صدقه، وأفحمهم حسن حديثه، وهم يعرفونه كما يعرفون‏ أبناءهم، ولكن عنادهم وإصرارهم على تكذيبه دعاهم إلى أن يستوصفوه بيت المقدس،  وهم موقنون أنه لم يره قبلاً، وأن الإسراء كان ليلاً، والليل يغطي المعالم، إلا أن الرعاية الصمدانية تدركه في شخص جبريل الأمين يحمل على كفه بيت المقدس، ليكون الوصف‏ هو الحقيقة الصارخة على صدقه صلى الله عليه وسلم، وأن أحمد عيرهم صادفه في الطريق فشرب‏ من وكائه، وأنه قادم يوم كذا في غروب شمس يوم كذا، فيقع ما حدث. وأن عيرهم الثاني‏ سيقدم يوم كذا في ساعة كذا، وأن مقدمهم يحمل وسقين، فيصدق ما أخبر به.

ولكن عتو المعاندين وفساد رأي المكابرين جعل قريشاً تتخذ من قصة الإسراء والمعراج بابا من أبواب شدة الإيذاء، وقسوة الاضطهاد، ومحاولة منع الرسول من نشر الدعوة المحمدية، ولم يكن ذلك الإنكار لعقيدة يؤمنون بها من أن ما حدث به محمد صلى الله عليه وسلم‏ كذب، بل هم موقنون كل اليقين أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم صادق في كل ما جاء به، إلا أنه الحقد الدفين‏ الذي ملك زمام قريش.كيف يؤتي محمد ذلك الخير العميم والشرف العظيم وحده،  وتذهب بنو هاشم وحدها بهذا العز الإلهي، والسؤدد الرباني، وتقف بقية قريش عطلاً من كل شرف وعز.

هذه هي الحقيقة المدوية في أعماق التاريخ، فمحمد صلى الله عليه وسلم أسري به في الليلة السابعة والعشرين من رجب إلى المسجد الأقصى بصريح القرآن، بروحه وجسده، وصلى بالرسل‏ والأنبياء والملائكة حيث جمعهم مولاه للاحتفاء بحبيبه، وأخذ البيعة له منهم بأنه خاتمهم‏ وإمامهم في الدين والدنيا.

ثم نصب له المعراج ورقي به إلى ملكوت ربه يتلقاه رسول ويودعه رسول،  حتى سدرة المنتهى، فانغمر في أنوار ربه الصمدانية، وتجلت له الحضرة الربانية بالعناية،  وسبح في الأنوار القدسية، وخاطبه مولاه فارضا عليه الصلاة.

وهذه الحقيقة لا ينكرها إلا من عميت بصيرته، فران على قلبه جهل بمدى قدرة الخالق‏ جل جلاله بعد تلك المخترعات الحديثة التي قربت البعيد، بل وصلت في السير إلى أبعد من حدود الصوت، ومخترعات الذرة.هذه القدرة لا يعجزها الخرق والالتئام،  ولا أن يرجع إلى فراشه وهو لم يبرد بعد، ولا طول المسافة ولا قصرها.

[مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى] {النَّجم:11}  [مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى] {النَّجم:18}.

ولقد كانت الإسراء والمعراج سبباً في التعجيل باحتدام الخصومة بين الحق والباطل،  وأن الله لن يخذل عبده، وأنه كتب للإسلام الخلود والانتصار في كل ملحمة يكون فيها القرآن أحد طرفي الخصوم.والله متم نوره ولوكره الكافرون.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر مجلة الأزهر المجلد السادس والعشرون رجب 1374هـ ، العدد 11و12.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين