الإحسان بين التأمُّل الذاتي والصلاح الاجتماعي

 

جمهرةُ الناسِ تَغلبهم طبيعة العيش، وضرورات النفس والأولاد، وظواهر الحياة الدنيا، فتراهم مُنصرفين بأفكارهم ومَشَاعرهم إلى تأمين حاضرهم والاحتباس في نطاقه الضيق، ولو أنَّك تسمَّعت الضجَّة التي تسودُ أرجاءَ العالم، وحاولتَ استبانة معناها ما وجدتَ إلا بغام الغرائز المهتاجة تريد إثبات نفسها وتحقيق رغباتها، أما منطق الإيمان خلال هذا الضجيج العالي فهو همسٌ لا يكاد يبين!.

إن كان ذلك بين الأمم الكافرة بالله ـ وهي اليوم ألوفٌ مؤلفة ـ فالأمر ظاهرٌ، كيف تذكر من تجهل؟ أو من تجحد؟ وإن كان بين جَماهير المؤمنين، فإنَّ معرفتهم لله كامنة في طواياهم، قد تُحركهم إلى رحبات المعابد حيناً، وقد تحجزُهم عن بعض المحارم حيناً، ولكن هذه المعرفة قلَّما تبقى وضَّاحة مع الركض المجهد في ساحة الحياة وراء مآرب أخرى.

من أجل ذلك حثَّ الله تعالى عبادَه المؤمنين به أن يقاوموا هذا الذهول السائد، وأن يتخلَّصوا من هذه الغيبوبة العامَّة، وأن يذكروه برغم هذه المنسيات، وأن يحاولوا الاستضاءةَ بوجهه الكريم خلال غواشي الدنيا وكرباتها.

أجل، يجب أن ينقذوا أنفسهم من الغرق في هذه اللجج المتتابعة، وليس من طريق إلا الإكثار من ذكر الله، والتشبث بأسمائه الحسنى، وشدَّة التعلق به في كل حين وفى كل حال.  وهذا سرُّ الوصايا المتكررة بإدمان الذكر وإطالته. [وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بِالغُدُوِّ وَالآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الغَافِلِينَ] {الأعراف:205}، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا] {الأحزاب:42} [فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ] {النساء:103}.

والذكرُ ليس افتعالاً نفسياً لشيء بعيد عن الإنسان، أو تخيُّلا لوهم مقطوع الصلة بالحياة الخارجية، كلا. إنَّ الله لا يغيب عن النَّاس لحظة، وهو معهم حيثما كانوا، ومَن ذلك شأنُه، فمن الحق أن يُحسَّ وجودُه، وأن يُدرك شُهوده، وأن يتصرَّف الناس ـ ما شاءوا ـ لكن مع الاستيقان بأنهم في حضرته، ما ينفكُّون عنه أبدا، وما يَتركهم لحظة: [فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ] {الأعراف:7}.

وذِكْرُ الله سبحانه من أشرف العبادات وأَنفس ما يجرى على اللسان من كلمات، وأذكى ما يمرُّ بالخاطر من صُور، وما يثبت في القلوب من مَعَانٍ، وهو مفتاح الصلة المباشرة بالله الكبير المتعال، ما إن يشرق معناه في نفسه وتتحرَّك به شفتاه حتى يذكره الله ببرِّه ولُطفه، ويَصحبه بتأييده وعونه.

عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: أَنَا مَعَ عَبْدِي إِذَا هُوَ ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ" [قال الحافظ العراقي: رواه ابن ماجه وابن حبان من حديث أبي هريرة والحاكم من حديث أبي الدرداء وقال صحيح الإسناد اهـ. وعلَّقه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة بصيغة الجزم]. وفي الآية: [فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ] {البقرة:152}.

 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "أَرْبَعٌ مَنْ أُعْطِيَهُنَّ، فَقَدْ أُعْطِيَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: قَلْبًا شَاكِرًا وَلِسَانًا ذَاكِرًا وَبَدَنًا عَلَى الْبَلَاءِ صَابِرًا وَزَوْجَةً لَا تَبْغِيهِ خَوْنًا فِي نَفْسِهَا، وَلَا مَالِهِ" [قال الهيثمي في المجمع: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجال الأوسط رجال الصحيح].

 وقد تنافس الصالحون في ذكر الله، وربطوا أفئدتهم وأذهانهم به، لم يتوهوا عنه في زحام الحياة، ولم يفتنهم عن ذكره نعمة، أو تَشغلهم محنة، وقد رأوه طريقاً سريعة التوصيل إلى مقام الإحسان، والأُنس بمشاهدة الله عما تَزخر به الحياة من فتون ومجون، وسعي وعبث، وعزلة واختلاط، وقصور وانطلاق!.

ونحن نريدُ أن نقفَ هنا وقفةً قصيرة، لنكشف شبهةً خُدِع بها الكثيرون فإنَّ إلفَ الذكر والاستئناس بمعانيه الرقاق، والاعتزاز بما يتركه في النفس من صفاء ووداعة، كل ذلك جعل لفيفاً من الصالحين يحسبه الغاية المنشودة لا الوسيلة الباعثة، ونشأَ عن ذلك أنَّهم استغنَوا به عن غيره، وظنُّوا مقامَ الإحسان وليد حالاته وإشراقاته.

ولعل مما روَّج لهذه الخدعة ما روي عن أبى الدرداء رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَأَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟" قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: "مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ مِنْ عَمَلٍ أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" (1). ونحن لا نسارع إلى تكذيب حديث ما لأن ظاهره ـ لأول وهلة ـ يخالف المعروف من الدين. والأمر يتطلب شيئاً من الفقه والتدبر.

من الذي قال: إنَّ المجاهدين في سبيل الله طائفة أخرى تُقابل الذاكرين لله، وتوضع في كفَّة مُغَايرة يقال: هذه أرجح من تلك؟ إنَّ الجهادَ في سبيل الله أرفع درجات الذكر، والمجاهد في سبيل الله رجل يعرف ربه، ويريد أن يَغرس هذه المعرفة في الحياة، وأن يرويها بدمه حتى تزدهر وتنمو.

المجاهد في سبيل الله رجل يُذَكِّر الآخرين بالله بعد أن امتلأ هو بهذا الذكر من أخمص قدمه إلى ذؤابة رأسه، لقد ذكر ربه عند التقاء الجمعين استجابةً لقول الله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] {الأنفال:45}، وصَاحَبَه هذا الذكر في أدوار المعارك كلِّها خصوصاً عند اشتدادِ البأس وتكالب العدو، وعند ابتعاد النصر وإثخانِ الجراحات واستحرارِ القتل في إخوانه: [وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ فَآَتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ] {آل عمران:148}.

نعم، يحب المحسنين، وهذا الجهاد الصبور المحتسب هو الإحسان، وهو أحقُّ شيءٍ يوصفُ بالعبارة المأثورة في الحديث: "أن تعبد الله كأنك تراه فمان لم تكن تراه فإنه يراك". 

ثمَّ من قال: إنَّ الإنفاق في سبيل الله ليس ذكرا لله!  إنَّه ذكر عملي له مكانته، وهو أشرف من ذكر اللسان ولو واطأه صحو القلب، وذلك أنَّ ألوف الناس يُغريها حبُّ المال فترتاد له الصعاب، وتهجر في سبيله الأحباب، وربما نسيت حقَّ الله، وما وضعَ من حُدود، وما شرعَ من مَعَالم، بل لعلها في سبيل الاستكثار من المال تهدم كثيراً من خلالِ الشرف وخصال الخير.

فإن وجدَ من أربابِ المال من يذكر ربَّه عندما يجمعه، ومن يذكر ربه عندما يتخلَّى عنه ويصرفه إلى وجوه البر، فهل يكون ذلك في طليعة الذاكرين؟ إنَّ القرآن الكريم جعل الإنفاق هو الذكر، أو أثره المطلوب في قوله جلَّ شأنُه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ] {المنافقون:10}.

إنَّ المعنى الوحيد الصحيح للحديث المذكور أنَّ الذكر المجرد أفضل من الجهاد المشوب بحب الغنيمة وطلب الشهرة.  وكذلك أفضل من الإنفاق المصحوب بالمنِّ والرياء.

أي: أنَّ الحديث يَستهدف تزكية النفس بذكر الله وطلب ما عنده، ويرى النيَّة الطاهرة أرجح من العمل الكدر.  وهذا معنى حق، فإنَّ الآفات التي تسطو على الأعمال الصالحة تذهب قيمتُها عند الله، وتُمحق ثمرتها في المجتمع.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

 

(1) رواه مالك، وأحمد، والترمذي، والحاكم وصحَّحه. قال الهيثمي في المجمع: "رواه أحمد وإسناده حسن". قال الحافظ العراقي: رواه جعفر الفريابي في كتاب الذكر فقال حدثنا أحمد بن خالد الخلال ويعقوب بن حميد قال الأوّل حدثنا مكي بن إبراهيم وقال الثاني حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن قالا حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن زياد بن أبي زياد المخزومي عن أبي بحرية عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فساقه، إلا أنه قال: "من إنفاق الذهب والورق ومن أن تلقوا" ولم يقل في آخره: "دائماً"، وهو حديث مختلف في رفعه ووقفه وفي إرساله ووصله، أخرجه أحمد عن مكي بن إبراهيم، وأخرجه ابن ماجه عن يعقوب بن حميد، وأخرجه الحاكم من وجه آخر عن مكي بن إبراهيم، وأخرجه أحمد أيضاً عن يحيى بن سعيد القطان والترمذي من رواية الفضل بن موسى كلاهما عن عبد الله بن سعيد. قال الترمذي: رواه بعضهم عن عبد الله بن سعيد فأرسله. قال الحافظ ورواه مالك في الموطأ عن زياد بن أبي زياد قال أبو الدرداء فذكره موقوفاً ولم يذكر أبا بحرية في سنده وقد وقع هذا الحديث أيضاً من وجه آخر عن أبي الدرداء موقوفاً أخرجه الفريابي من طريق صالح بن أبي عريب عن كثير بن مرَّة قال سمعتُ أبا الدرداء يقول فذكره نحوه بتمامه ورجاله ثقات.

 

من كتاب: (الجانب العاطفي من الإسلام، للعلامة: محمد الغزالي)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين