الأوطان بين إفساد المستبدين وذمم المستَعْبَدين

يوم أرسل نبي الله تعالى سليمان عليه السلام رسالته إلى بلقيس ملكة سبأ يدعوها فيها إلى ترك عبادة الشمس والقمر والتوجه إلى عبادة الواحد الأحد، أخبرنا القرآن الكريم عن الحوار الذي دار بينها وبين الملأ من قومها وهم الأشراف أصحاب الرأي والمشورة، وكيف أنهم أبدوا استعدادهم لمقاتلة سليمان وجنوده، فهم أصحاب قومة وشكيمة وعدد، والأكثر من ذلك وقبله وبعده، كرامتهم التي لا يتساهلون بشأنها، وقد نُقل عن التابعي الجليل قَتادة بنُ دِعامةَ السدوسي رضي الله عنه، قوله: «ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ كَانَ لَهَا ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا هُمْ أَهْلُ مَشُورَتِهَا، كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ». فهم جاهزون لكل الاحتمالات، ومع ذلك فوضوا القرار النهائي إليها، فالذي تأمر به يفعلونه.

والنص القرآني يذكر لنا مشاورتها قومها، وهذا يدل على قدر عالٍ من المسؤولية تجاه وطنها وشعبها، ذلك أن قرار الحرب يترتب عليه أشياء كثيرة، فكيف والغلبة لجيش نبي الله تعالى سليمان عليه السلام محققة، فهل من الحكمة أن نخوض حربا خاسرة؟ وبخاصة أن التاريخ يثبت أن الملوك إذا دخلوا بلدا ما متغلبين وقاهرين فإنهم يفسدون تلك البلاد، ويعمدون إلى إذلال أهلها، وبخاصة الملأ منهم أصحاب المكانة والجاه، إظهارا لقوتهم وغلبتهم. وهذا أمر أشبه بالحقيقة التي ترقى إلى مقام المسلمة التاريخية. والاستثناءات في هذا الموضوع نادرة، والنادر لا حكم له.

هذا الحوار الشيق والقيم، الذي نجده في سورة النمل، (في الآيات من 32 إلى 34)، وما قبلها وما بعدها مما يتعلق بهذه القصة، يعطينا فكرة واضحة عن طبيعة المسؤولية الجسيمة الملقاة على عاتق الحاكم ومجلس شورته، ومدى الأمانة والصدق التي ينبغي أن يتحلى بهما الحاكم وحاشيته في إدارة شؤون الدولة، فهو يوازن دائما بين المصالح والمفاسد المترتبة على مواجهة العدو، ويتوسل أنجع السبل التي تحقق مصلحة شعبه وبلده، فسليمان عليه السلام لم يطلب منهم تقديم كل ما يملكونه من كنوز إليه، ولم يطلب منهم الخضوع التام لساطانه هو، وإنما أراد منهم أن يتركوا عبادة الأوثان، ويتوجهوا لعبادة الرحمن سبحانه، مع بقائهم على مملكتهم وإدارتهم لشؤونهم.

وهذا الأمر في ظاهره جيد، ولكن ما الذي يجعلهم يستوثقون منه؟ والتاريخ عادة قصصه المحفوظة تخالف ذلك؟ من هنا لجأت ملكة سبأ إلى مبدأ الهدية، فلو قبلها لكان طالب سلطان، وإن لم يقبلها فهو رسول من الله تعالى لبني الإنسان. قال ابن عباس: إن بلقيس قالت لقومها: إن قبل الهدية فهو ملك فقاتلوه، وإن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه. وهكذا كان.

إذن حكام سبأ عندما استوثقوا من صدق دعوة سليمان عليه السلام وأنه غير طامع ببلادهم وخيراتها، أذعنوا لعبادة الله الواحد مع بقائهم على ممالكهم وخيراتهم دون أن يأخذ منها سليمان شيئا. وكيف يأخذ؟ ولِمَ يأخذ؟ والله تعالى أعطاه ملكا لم يعطه أحدا من العالمين؟ 

هذه القضية نفهم منها أنه لو كان سليمان، وحاشاه ذلك، مجرد ملك يطمع بخيرات سبأ واحتلال أرضها وقهر شعبها، لواجهوه بالقوة، فهم ليسوا ضعافا، وكرامتهم فوق كل شيء.

فعندما يسرد لنا القرآن الكريم هذه القصة على سبيل المدح لملكة تحسن إدارة مملكتها، ولأهل مشورة صادقين في المشورة، فهو يحرضنا على أن نسلك هذا المسلك عندما يغزو أرضَنا غازٍ فاجرٌ، ظالمٌ، مستبدٌ، يستذل كبارنا، ويستبيح ديارنا، ويسرق خيراتنا.

غير أن المشاهد للأسف خلاف ذلك.. فمع كوننا معنيين بالقرآن الكريم أكثر من غيرنا من باقي الأمم، ومع أننا نصرح ليل نهار باعتزازنا بديننا، وقرآننا.. إلا أننا أكثر الناس بعدا عن قيمه وأحكامه للأسف.

فالملوك الجبابرة الظالمون استباحوا بلادنا وأرضنا منذ مطلع القرن العشرين، وأعملوا في الأمة تفريقا وتمزيقا، واغتصبوا من الأرض أحلاها، وبدل أن نسترشد بنهج تلك الملكة الراقية العاقلة، وأولائك المستشارين الأمناء، فنواجه المحتل على قلب رجل واحد، فإذا بنا نعينه على سرقة خيراتنا، ونسلم له قيادنا، ونقتل، بالنيابة عنه، أنفسنا، وندمر بلادنا.. كل هذا لينعم الملك الفاسد بالأمان في أرضنا... فقط مقابل أن يعتمد البعضَ منا حكاما.. فكيف بعد هذا لا يخرج علينا المحتل الظالم بقرنه ليجعل منه صفقة؟؟!!

إن الملك الظالم الذي دخل بلادنا عنوة لم يجد أمامه حكاما أحرارا على شاكلة بلقيس، ولا أمناء على المشورة على شاكلة ملإها، ولا جيوشا مستعدة لبذل كل شيء في سبيل المحافظة على الوطن وأهله، وإنما وجد أمامه مجموعة من العبيد الذي باعوا أوطانهم وشعوبهم لأجل فتات الدنيا. هؤلاء سيذكرهم التاريخ بما يستحقونه، وسيذكرنا أيضا، نحن الشعوب، بما نستحقه، لأننا حتى اليوم لم نستيقظ من رقادنا..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين