الأنصار كيف استقبلوا الإسلام


العلامة: صادق العرجون
روى البخاري في صحيحه عن غيلان بن جرير: (قلت لأنس: أرأيتم اسم الأنصار كنتم تسمون به أم سماكم الله؟ قال: بل سمانا الله).
 
كان الإسلام قبل أن يهدي الله إليه قلوب الأنصار، ويهيء لنصرته نفوسهم، مستتراً في دار الأرقم، لا يعلن عن نفسه إلا همساً، ولا يستجيب له إلا أفراد ممن اصطفاهم الله ليكونوا دعامة لبناء أعظم دولة عرفها التاريخ، ولتوطيد أفضل شريعة عرفتها الحياة، فلما استجاب الأنصار لدعوته دوى صوته في الآفاق، وطوى الجزيرة العربية، ومد رواقه على مملكتي الدنيا إذ ذاك، ونشر لواءه في شرق الأرض وغربها، وأملى على التاريخ صفحات الخلود، ومراسيم البطولة، ووضع للإنسانية قوانين الحق والعدل والرحمة في ظل السلام.
 
هذه الصحائف الساطعة في صدر التاريخ الإسلامي، وهذا الانقلاب التاريخي في حياة الأمة العربية، وهذا الاتجاه الجديد في حياة الشرق بل في حياة الإنسانية، إنما هي صدى تأييد الأنصار لدعوة الإسلام، أولئك الذين نصروا الله في دينه، ونصروا رسوله صلى الله عليه وسلم في دعوته فسماهم الله بأشرف الأسماء، وأنعم عليهم بأنبل الألقاب، تخليداً لبطولتهم، وإشادة بفضل أعمالهم، وتشريفاً لتاريخهم.
 
والحديث عن الأنصار رضي الله عنهم طويل عريض لا تستوعبه المقالات، ولا تستو فيه الصحائف، وإنما هذه زهرات ننثرها في حياتنا ليكون لنا من أريجها ما يحي فينا روح البطولة الإسلامية والخصائص العربية، وليكون لنا من التأمل في مطاويها درس يعيد إلينا ما فقدنا من مظاهر الرجولة التي ربى عليها الإسلام أسلافنا فسادوا وملكوا ناصية الدنيا بأخلاقهم النبيلة، وأعمالهم الجليلة.
 
اندفعت موجات القبائل العربية من جنوب الجزيرة العربية بعد سيل العرم الذي دمر مرافق حياتهم مهاجرين في طلب العيش، وتفرقوا في أرجائها شرقاً وغرباً وشمالاً، وكانت قبيلة الأزد القحطانية إحدى هاتيك القبائل التي ارتحلت، فأخذ بعضها طريقه إلى ساحل الفرات، حيث مد اللخميون طنب دويلتهم، واستقر بهم النوى في جوار الفرس، وعاشوا عيشة استقرار وملك ونظام اجتماعي يتناسب مع بيئتهم ومكانتهم، وجد بعضهم السير إلى أقصى الشمال حيث ألقى رحاله في مشارف الشام، وأسسوا دويلة الغساسنة مصاقبة للروم.
 
لم يشأ أبناء (قيلة): الأوس والخزرج من الأزديين ـ أن يتابعوا إخوانهم في سيرهم بل عرجوا في طريقهم على يثرب، حيث رأوا خصباً وحياة استقرارية تعتمد على الشؤون الزراعية بما أسس فيها اليهود الذين نزحوا إليها بعد حوادث (بختنصر) من مزارع وحقول وبساتين، ولم يضق الوطنيون من اليهود بهؤلاء القادمين ذرعاً أول أمرهم، بل رحبوا بهم وفتحوا لهم باب الحياة،  وأفسحوا لهم في سبل العيش معهم، لأنهم وجدوا منهم عمالاً ذوي بصر بالحياة الزراعية التي يظهر أنهم كانوا على عهد بها وأنتهم حذقوها ومرنوا عليها أيام مقامهم باليمن وجناتها، فوسعوا لهم في جوارهم ن وأدخلوهم معهم في حياتهم إدخال التبعية ليفيدوا منهم، ولكن العرب الذين لم يألفوا التبعية المطلقة والخضوع أبت عليهم نفوسهم الأبية أن يستمرءوا هذه الحياة، وتطلعوا إلى حياة تحفظ عليهم طبيعتهم الاستقلالية، و تمكن سلطانهن في أرض اتخذوها وطناً لهم، وهي من صميم جزيرتهم، ولم يكن هؤلاء اليهود الذين استعمروها إلا قوماً غرباء نزحوا إليها فآوتهم، ولاسيما أن القحطانيين قاطبة لا يرون لهم وشيجة تصل نسبهم بنسب اليهود كتلك القرابة التي تجمع بين العدنانيين وبينهم، فإنهم لم يكد يشتد ساعدهم ويتوطد مقامهم وتعود إليهم طمأنينتهم ويتعرفوا شئون الحياة في موطنهم الجديد حتى أخذوا في بناء كيانهم ا لاستقلالي إلى جانب اليهود، وشاركوهم مشاركة المساواة في حياتهم اليثربية وصارت لهم كما لليهود رؤوس أموال ومزارع، ومن ثم دبت ثعابين الفتن تزحف بينهم نافثة سمومها، فاليهود كبر عليهم أن يكون لقوم طارئين هذا المركز في بلدتهم وزراعتهم، وخشوا على مستقبلهم الاقتصادي أن يتهدم صرحه وأبناء قيلة، من العرب رأوا أن اليهود يريدون استعبادهم والتعالي عليهم، فانقلبت علاقاتهم إلى خصومات دائمة تطاير شررها في مواقف عديدة، وجعلت الأوس والخزرج، يداً واحدة على أدائهم الذين قلبوا لهم ظهر المجن، وأظهروا لهم الكراهية، وأضمروا بهم الوقيعة.
 
كان التضامن فيما بين الأوس والخزرج قوة لا تغلب، وأدرك اليهود أثر تلك القوة في نضالهم، فعمدوا إلى الكيد والفتنة وسياسة التفريق، وسعوا بين الإخوة لإفساد أخوتهم وتفريق جماعتهم حتى احتربوا وقتل بعضهم بعضاً، واليهود دائبون في إذكاء نيران الضغينة بينهم، ولهم من طبيعة العرب العامة ما ساعدهم على الوصول إلى مقاصدهم، وكن العداوة في قلوب القبيلتين، وكانت لهم حروب طاحنة وأيام مهلكة، أدرك الإسلام منها، وهو لا يزال وليداً يحبوا بين المسجد الحرام وغار حراء، أقساها وأشدها هولاً، وأشهرها يوم بعاث، وهو يوم تقول فيه السيدة عائشة رضا في رواية البخاري: (كان يوم بعاث يوماً قدمه الله لرسوله صل، فقدم رسول الله صل وقد افترق ملؤهم، وقتلت سرواتهم، وجرحوا، فقدمه الله لرسوله صل في دخولهم في الإسلام)
 
وكان الظفر فيه أول الأمر للخزرج على الأوس ن وكان قائد الأوس وزعيمها يومئذ (حضير الكتائب) فلما رأى هزيمة قومه عقر نفسه برمحه، وأقسم لا يبرح مكانه حتى يخلصه قومه أو يقتل، فكر الأوس راجعين للموت دون قائدهم وزعيمهم، ونضح العار عنهم، فحمي الوطيس بين الفريقين، فكانت الدائرة على الخزرج، وكان النصر للأوس، وراح حضير يشفي غلته بحرق ويقتل ويهدم ليستأصل شأفة بني عمومته، فمنعه أبو قيس بن الأسلت بدافع العصبية العامة، ملتفتاً إلى ماضيهم مع اليهود، وما كان بينهم من العداوة وسوء الجوار، طالباً الابقاء على إخوانه الخزرج لأن (جوارهم خير من جوار الثعالب).
 
جاء الإسلام وليس بين قوم من العداوة والشر ما بين اليثربيين من العرب ولم يكن لديهم نبأ بما يجري في مكة من نضال شديد بين رسول الله صل ومن معه من أفراد المؤمنين القلائل الذين يعتمدون على قوة العقيدة وسلطان الإيمان بالله القوي القاهر وجلال الحق، وبين كثرة قريش التي تجمعت بقضها وقضيضها معتزة بجبروت العصبية وكبريائها، وعنجهية الماضي الموروث، وصلف الزعامة التي لها بمكة، ولليثربيين بمكة مآرب وشعائر كغيرهم من قبائل العرب، فهم يحجون إليها لأداء تلك الشعائر وقضاء هذه المآرب، وهم يتميزون عن بقية العرب بأنهم حضريون، جاوروا اليهود وسمعوا أحاديثهم الدينية، وكان أن قدم جماعة منهم مكة فيهم (سويد بن الصامت) وكان رجلاً نبيلاً عاقلاً، ترامت إليه بعض ثمرات الأفكار الإنسانية الحكيمة، تلقفها في رحلاته أو عثر عليها بما شاء الله، فرددها لسانه وحفظها قلبه وكتبها في صحيفة جعلها هجيراه وسميره، فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وهو يتحسس قلباً نابضاً بالحياة ليلقى فيه كلمة الله التي أمره بتبليغها إلى الأحمر والأسود، ودعاه إلى الإسلام فقال: سويد: لعل الذي معك مثل الذي معي، فقال النبي صل: وما الذي معك ؟ قال سويد: معي مجلة لقمان فأصغى إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فأسمعه منها شيئاً، فقال المصطفى عليه الصلاة والسلام: إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل، وهو قرآن أنزله الله على هدي ونوراً. وأسمعه بعض آيات من الكتاب الحكيم فاستحسن سويد ما سمع، ولكنه لم يجب، وذهب وفي نفسه أشياء تضطرب، فلابد أن يكون قد ساءل نفسه: ما هذا الذي أسمعنيه هذا المكي القرشي؟
 
وما بال قومه انصرفوا عنه؟ وما هذه الأصنام التي نقيم على عبادتها وهي أحجار ننحتها بأيدينا؟ وما هذه الصحيفة التي أحملها ثقلها؟ وهل ما فيها من الحكم يقوم على نظام الحياة العام؟ وهل يصح أن يكون دستوراً إنسانياً، فأين أثره إذاً وبين قومي أودية من الدماء؟
 
من الطبيعي أن يكون سويد قد ساءل نفسه نحو هذا التساؤل، ومن الطبيعي أن يكون قد فكر في هذا الكون وعظمته وما يجب أن يكون لخالقه من جلال وتقديس، ومن الطبيعي أن يكون قد القى إلى بعض أخصائه نبأ هذا اللقاء العجيب، ومن الطبيعي أن يكون قد وجد ترابط في نفسه، وفي نفس من عسى أن يكون قد حدثه، بين صاحب هذه الدعوة الكريمة، أو بين ما كان يخوفهم به اليهود من بعث نبي يدعو إلى التوحيد الذي هو أصل ديانة اليهود، فيشايعهم ويقتل الوثنيين، ولكن سويداً، لم يطل مقامه على الأرض بعد هذا اللقاء فقتلته الخزرج فيمن قتلت من رجالات الأوس يوم بعاث، وإن يكن في أكبر الظن قد خلف بعض هذا الاضطراب الذي كان في نفسه وراءه بين أفراد من قومه، ولعل في هذا تعليلاً لسبق إياس بن معاض، أحد شباب الأوس قوم سويد بن الصامت إلى الإسلام، وكان إياس قد ذهب إلى مكة في وفد أبي الحيسر، لعقد حلف مع قريش على محاربة الخزرج استعداداً ليوم بعاث، فاجتمع بهم النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ودعاهم إلى الإسلام، وأسمعهم القرآن الحكيم، فابتدر إياس القوم وكان أصغرهم: أي قومّ هذا والله خير مما جئتم فيه، فنهنهه إخوانه، ولكن الإيمان كان أسرع إلى قلبه من انحدار السيل إلى بطون الأودية، وعاد مع قومه مسلماً يحمل نبأ الدعوة الإسلامية إلى يثرب المتطاحنة بأوفى وأرضى مما حمل إليها سويد بن الصامت.
 
ونظرة في قصة سويد تدلنا على أثر التهذيب الفكري ووداعة الحضر عنده، وتدلنا على ما انطوت عليه نفس النبي صلى الله عليه وسلم من سمو في أدب الدعوة إلى الله تعالى، وتقدير للحكمة والحق أنى وجدا، فهو قد استمع إلى سويد يعرض عليه حكمة لقمان، وقد استحسن ما سمع، وقد استطاع بذلك أن ينفذ إلى قلب سويد، وأن يبلغه دعوة الإسلام في هدوء و اطمئنان، وسويد وإن لم يجب صراحة لكنه تأثر بهذه الدعوة، وعاد إلى بلدته وقومه، بهذا التأثر، وعرف اليثربيون نبأ مكة، وتسمعوا له، وتحدثوا به همساً، وكان يغلبهم عليه ما هم فيه من حروب طاحنة أنضت قواهم، وأشمتت فيهم عدوهم وجعلتهم يتطلعون إلى ما يعيد إليهم وحدتهم ويجمع كلمتهم، فاتفقوا على أن يعصبوا عبد الله بن أبي وقد أظلهم موسم الحج، فوفدوا إلى مكة، واجتمع النبي صلى الله عليه وسلم بنفر منهم كانوا من الخزرج، ودعاهم إلى الإسلام، فذكروا حديث اليهود عن نبي يبعث، وذكروا همس سويد بن الصامت، بشأن لقائه هذا الداعي الكريم بمكة، وذكروا شأن غلام بن الأشهل إياس بن معاذ، فلم يترددوا في إجابة النبي صلى الله عليه وسلم إلى دعوته، وأسلموا جميعاً وفتحوا أمام الإسلام باب الحياة بعيداً عن مكة، وعصبياتها حتى تخضد شوكتها، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم فعسى أن يجمعهم الله بك، وإن يجمعهم عليك فلا رجل أعز منك.
 
درج الإسلام إلى يثرب واثقاً مطمئناً بعد أن استيأس من مكة التي أخذتها العزة أن تستجيب لداعي الهداية والخلاص من وثنية ضالة بليدة، تضع من قيمة العقل الإنسانيه، وتغله بأغلال العصبية والتقليد الأصم، فاستقبله اليثربيون استقبال الظمآن في هجير الصحراء لعذب الماء في ظلال دوحة فيحاء، وأصبح له في كل مجتمع يثربي ذكر، وإلى صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم في كل قلب حنين وشوق، وصار فتى بن الأشهل إياس بن معاذ طليعة الإسلام إلى يثرب محط أنظار أهلها رجالاً ونساءً، شيباً وشباباً، ينظرون إليه نظر غبطة ودهش في شيء كثير من حيرة الأمل الباسم بالمستقبل الظافر، حتى إذا دارت عجلة الزمان دورة عام في أفق الفلك، وأقبل موسم الحج إلى مكة قدم فيمن قدم إليها من اليثربيين اثنا عشر رجلاً هدى الله قلوبهم للإيمان، وانشرحت صدورهم للإسلام، وكانوا عشرة من الخزارجة فيهم عبادة بن الصامت واثنان أوسيان، قدموا يريدون لقيا النبي صلى الله عليه وسلم والاجتماع به ومبايعته على الإيمان برسالته، ليسبقوا جيرانهم اليهود الذين كانوا يتوعدونهم بظهوره والاستنصار بهم عليهم، فلقيهم النبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة فبايعهم على أصول الإسلام والعمل بها في خاصة أنسهم، ولم يكلفهم في هذه البيعة شيئاً يشق عليهم، ولم يأمرهم إلا بالتوحيد ودعائم المروءة ومكارم الأخلاق.
 
روى البخاري في صحيحه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال وحوله عصابة من أصحابه: (بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منك فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه، فبايعناه على ذلك)
 
هذه البيعة هي بيعة السلام، ليس فيها تعاهد على حرب أو قتال، ولعلها لذلك يسميها بعض كتاب السيرة بيعة النساء، وهي التي في قول الله تعالى:[يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ] {الممتحنة:12}.
 
بعد بيعة السلام هذه عاد الإسلام إلى يثرب، مستعلياً، بعد عام من دخوله إلى ربوعها مستخفياً تحمله قلوب جمهرة من رجالتها وأولي الرأي فيها، وارتفع صوته جهيراً، ولكنه لا يزال في هدوئه ووداعته، بل في سكونه بعيداً عن نضال مكة وسطوتها، وترامى إلى مسلمي مكة حديث إخوانهم اليثربيين واستبشارهم بهذا الدين الجديد، واطمئنانهم إلى عقيدتهم التوحيدية في أمن من الأذى، فتطلعت نفوسهم إلى ذلك الجو الهادئ الصافي الذي يؤدون فيه شعائر دينهم آمنين على أنفسهم وعقائدهم مما يلاقونه من ألوان التنكيل والفتنة، وودوا لو أنهم استطاعوا اللحاق بإخوانهم الأصفياء في ديارهم، ولكنهم لم يكونوا يأمنون شر قريش أن تلاحقهم إلى هناك، وأن تؤلب عليهم العرب، وهي منهم في مكان الزعامة الآمرة التي لا يرد لها أمر، وماذا عسى أن يفيدهم اليثربيون لو تحول هذا النضال إلى حرب ضروس، وهم لم يأخذوا عليهم عهداً بخوض هذه الحروب، ولم يبلغ عهد النبي صلى الله عليه وسلم لهم في بيعة السلام الأولى على يدي وفد الاثنى عشر أن يكون معاهدة دفاع حربي، بل لم يتعد أن يكون بلاغاً لهم بدعوة الإسلام، والعمل بشيء من مهمات شرائعه التي كان قد نزل بها الوحي إلى يومئذ في خصيصة أنفسهم.
 
كان هذا تفكيراً يدور في نفوس المسلمين، وظل يضطرب بها وظلت هي بين الإقدام والإحجام، يدفعها ما تلاقي من بليغ الأذى والصد عن سبيل الله إلى العزم على الهجرة إلى دار إخوانهم فتعزم عليها، ويقف أمامها المستقبل الغامض في غربة لا يعتمدون فيها على مال ولا ولد فترجع عن عزمها متشحة بالصبر وتوطين النفس على تحمل الشدائد حتى يقضي الله بينهم وبين قريش التي تريد أن تلجئهم إلى المهاجرة من مكة وطنهم الحبيب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في كل ذلك يضرب لأصحابه المثل الأعلى في الصبر والمصابرة، وصدق العزيمة في سبيل تبليغ أمر ربه، وكان صلوات الله عليه نظاراً إلى الفرص المواتية فلا يدعها تفلت دون أن يحملها يحدث من أحداث الانقلاب، أو نبأ من أنباء الإسلام يذهب في الجزيرة العربية شرقاً وغرباً، يعرض نفسه على القبائل في مضاربها ومواسمها، معنياً أشد العناية بموسم الحج لأنه أعظم مواسم العرب شأنا ً ومجتمعاً، فإذا رن في ساحته صوت الدعوة تردد له الصدى في آفاق الجزيرة كلها، وماذا يبغي النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من أن يهتز بدعوته الأثير فتضطرب بموجاته كل أذن، ومنه تندفع إلى القلوب الواعية ممثلة آيات العزة الإسلامية؟ وزادت أهمية الحج في نظر صاحب الرسالة أنه يرتقب أخبار بيعته لأولئك النفر من أهل يثرب وما ثمرته في ذلك البلد الطيب.
 
حان الموسم، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم كدأبه لنشر دعوته وتعرف مدى ما وصلت إليه في أشتات قبائل العرب التي يضبها البلد الحرام في الأشهر الحرام، وقد بلغه أن جمعا عظيم من اليثربيين لا عهد للمواسم بمثله قد أقبل، وكان من بينهم خمسة وسبعون مسلماً، فيهم امرأتان، فواعدهم أوسط أيام التشريق.
 
قال شاعر الأنصار كعب من مالك رضي الله عنه يحدثنا عن هذه الليلة العظيمة: (لما كانت الليلة التي وعدنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بتنا أول الليل مع قومنا، فلما استثقل الناس من النوم تسللنا من فرشنا حتى اجتمعنا بالعقبة، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عمه العباس لا غير، فقال العباس: يا معشر الخزرج: إن محمداً منا حيث علمتم، وهو في منعة ونصرة من قومه وعشيرته، وقد أبى إلا الانقطاع إليكم، فإن كنتم وافين بما عاهدتموه فأنتم وما تحملتم، وغلا فاتركوه في قومه. فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الله مرغباً في الإسلام تالياً للقرآن، فأجبنا بالإيمان، فقال: إني أبايعكم على أن تمنعوني مما منعتم به أبنائكم) فقال البراء بن معرور أحد زعماء القوم: ابسط يدك، نبايعك عليه، فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة، ورثناها كابراً عن كابر، فقاطعه أبو الهيثم بن التيهان، وهو ثاني اثنين من الأوس حضرا بيعة السلام الأولى، قائلاً: إن بيننا وبين يهود عهوداً نحن قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنتم مني وأنا منكم، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم)، فاطمأن القوم وقاموا إلى البيعة، فقال لهم عباس بن عبادة بن نضلة، وهو أحد العشرة الخزارجة الذين اشتركوا في بيعة السلام: (يا معشر الخزرج: أتعلمون علام تبايعون هذا الرجل؟ إنكم تبايعون على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلاً أسلمتموه، فمن الآن فدعوه فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة! فقال القوم: إنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فبايعوه على ذلك).
كانت هذه البيعة، على خلاف سابقتها، معاهدة حربية للدفاع وحماية العقيدة، والاستعداد لحرب الأحمر، والأسود، فاستوثق النبي صلى الله عليه وسلم بمحضر عمه العباس لنفسه ولدعوته ممن عاهدوه على نصرته، واستوثق القوم منه على أن لا يدعهم إذا أظهره الله، فكانوا أنصاره وحماة دينه، وكان حميمهم ووليهم، آوى إلى بلدهم فاتخذ وطنه، ومبعث هدايته، وجعله الله تعالى مقر جثمانه الطاهر، ومركز خلافته ونشر شريعته.
هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى هذا الوطن الجديد، فتلقاه أنصاره بنشوة من الطرب والفرح أخرجت المخدرات من خدورهن، وكل شخص فيهم يتحرق شوقاً لأن يملأ ناظريه من هذا القادم العظيم الذي نفخ في مدينتهم روحاً لم تشهد مثلها منذ عرفها التاريخ، وتسابق زعماؤهم في التماس شرف ضيافة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فترفق بهم مبتهجاً أشد الابتهاج بهذه العواطف النبيلة، وهذا الحب الذي أفعم كل قلب، وبدا على كل وجه، واختار لنفسه منزلاً بوأه الله إياه ورضي عنه أنصاره وأصحابه، وعادة المدينة إلى هدوئها بعد مظاهرات الاستقبال وأفراح اللقاء، ولكنها منذ اليوم بدأت تحيا حياة جديدة كل الجدة، فقد بنى فيها مسجد عظيم تؤدي فيه الشعائر الدينية مستعلنة قوية، ومنه انبعث أصوات الدعوة الإسلامية جهيرة متحدية، وفيه و ضع أساس الدولة الجديدة، وفيه تدبر نظم الحياة المستقبلة التي بدأت بهذا الانقلاب الخطير.
 
كان من الطبيعي أن تتجه أفكار النبي صلى الله عليه وسلم وأفكار أصحابه وقد أخرجوا من ديارهم وأموالهم، وأفكار أنصاره وقد أخذوا على عاتقهم نصرته وتأييد دينه، أول أمرهم، إلى مكة وقريش، وقد أمكنتهم الفرصة من الوقوف أمامها، والطمع في الغلبة عليها فلتصادر تجارتها إلى الشام، ولتقطع عليها طريق المرابحة حتى تلين قناتها أو يحكم فيها السيف وعز على قريش في كبريائها أن تقف من محمد وأصحابه هذا الموقف، فخرجت في قواها كلها لتفتك بهذه العصابة التي إن تهلك فلن يعبد الله في الأرض، وخرج المسلمون بقيادة البطل الأعظم للقائها على شفير بدر، وهناك أخبر الناس خبر قريش ليكونوا على بينة من أمرهم، ووجه كلامه إلى الأنصار، فهم عدته، وردءه قائلاً: أشيروا على أيها الناس، فقال سعد بن معاذ وهو صاحب رايتهم يومئذ والمتكلم بلسانهم: لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال: أجل. فقال سعد: (لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، وما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، وإنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله!).
 
لله در هذه العزائم الصوارم التي بنت مجد الإسلام شامخاً، وأرست قواعد بنيانه راسخاً، عزائم صنعها الإيمان فأحبت الموت في سبيل العقيدة فوهبت لها الحياة، أحب الأنصار الإسلام من كل قلوبهم فنصروه نصراً مؤزراً، فأكرمهم الله، وآثرهم نبيه صلى الله عليه وسلم، فجعل حبهم آية الإيمان وبغضهم آية النفاق، وقال فيهم: [وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ] {الحشر:9}.
تفقهوا في الدين فكان منهم الأئمة والمعلمون، وكان نساؤهم من خير نساء العالمين عشرة وتديناً وطاعة وفقهاً، قالت عائشة رضي الله عنها: (نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين)
 
وبعد: فقد كتب الأنصار لأنفسهم في صحائف تاريخ الإسلام صحائف من نور لا تزال سراجاً هادياً للقادة والجند، ولهم في كل أحداث الإسلام مواقف تجعلهم مثلاً عليا للرجولة التي ينشدها المسلمون في حاضرهم ليستعيدوا مجدهم الغابر، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: مجلة الأزهر المجلد الثامن ربيع الثاني 1356الجزء الرابع.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين